هذه مداخلة قدمتها ضمن فعاليات اللقاء الذي نظمته اللجنة الجهوية لحقوق الانسان لجهة سوس ماسة درعة حول:» إبداعات وراء القضبان»، يومي 6 و 7 يونيو 2014 - بتعاون مع جامعة ابن زهر، بأكادير. حين فكرت في المشاركة في فعاليات هذا الملتقى المتميز حول «إبداعات وراء القضبان»، اتجه عقلي ووجداني على نحو عفوي، وبكثير من الحنين، إلى كتاب: « مناديل وقضبان» الذي أهداني إياه الشاعر المناضل عزيز الوديع نجل الشهيدة الرائعة ثريا السقاط ،يوم أربعينيتها التي أحيتها الكتابة الإقليمية للنساء الاتحاديات بأكادير بداية التسعينات. حينئذ قرأت الكتاب الذي أعتبره من ابرز الكتب التي ألهمتني الثبات على المبادئ والوفاء للقضية، ولم أعد قراءته إلا البارحة تحضيرا لهذه الكلمة التي لا اعتبرها قراءة تحليلية ولا تركيبية ولا نقدية، وإنما هي مجرد كلمة من وحي الكتاب والذكرى، غايتها أن أنقل ما استطعت للحضور، ولاسيما للشباب، الروح التي كتبت بها تلك الرسائل والقيم التي تؤطرها واللغة الرائعة التي أنشاتها، وسط عتمة الزنازن وبين مخالب الجلادين اللذين لم يكونوا سوى وعاء قذرا لسادية الحاكمين. يضم الكتاب مائة وخمسين رسالة من السجن وإليه وزعتها ثريا لأربعة فصول: ? رحلة الاستقلال، ويشمل ستة وثلاثين رسالة تبادلها السي محمد الوديع الآسفي وحبيبته ورفيقة دربه ثوريا السقاط، ? رحلة الحرية، ويتكون من إحدى وخمسين رسالة تبادلها أهل الوديع جميعا: صالح وعزيز وآسيا وأسماء والعربي وتوفيق فضلا عن ثريا ومحمد ? رسائل لم ترسل ولم تصل، وهي رسائل لم ترسل فعلا ولم تصل أبدا، ? رسائل أخرى لرفاق ومناضلين قاسموا آل الوديع القضية والمسار والمحن (الفرقاني والشرقاوي والسعودي والشاوي وأطلس.). كما يضم مقدمة بعنوان:»حديث عن السجن والوطن والمكابدة» بقلم ثريا نفسها وتوطئة للمبدع عبد القادر الشاوي:»رسالة أخرى...». هذه الباقة من الرسائل التي أبدعها أهل الوديع على امتداد ثلاثين سنة من النضال والصمود والتضحية في مواجهة نظام سياسي مستبد وآلة قمعية جهنمية وفي خضم صراع سياسي واجتماعي طاحن، محرق وحارق، هذه الباقة التي بزغت يانعة من كلوم الضحايا وروتها دماء الأبرياء وبسمات ثريا وآسيا وليلى وفاطمة ولطيفة وسعيدة وغيرهن من أميرات هذا الوطن الجريح، شكلت متنا غنيا متعدد الأبعاد: بعد تاريخي سياسي بالأساس، وبعد نضالي يرشح قيما وسلوكا ومبادئ سامية، وبعد إنساني في تجلياته الوجدانية والعاطفية الأكثر سموا، وبعد فني جمالي لغة وبيانا وبلاغة، وبعد نفسي يتصل بمشاعر وأحاسيس المعتقل (ة)، ودورها في حماية المناضل (ة) من الانهيار الذي وصل ببعض المعتقلين إلى حافة الحمق والانتحار. تفجرت الرسائل من أحداق وأنامل الوديع الأب وثريا الأم وصلاح وعزيز وآسيا وآخرين، ومرت خلسة بين قضبان سجون وسجون: السجن المدني لآسفي ، السجن المدني بالبيضاء، السجن المركزي بالقنيطرة، سجن العاذر وسجن علي مومن.بين هذه السجون ومخافر البوليس السري وأقبية التعذيب ودوائر الشرطة، طافت ثريا ليال وأيام تحت الشمس الحارقة وعواصف الشتاء الماطر، تحمل الزاد والكتاب والرسائل، وتحمل قلبا طافحا بالحب، حب فارس أحلامها الأبدي محمد وفلذات كبدها صلاح وعزيز وأسماء وآسيا و.... هو حب فاض ليشمل كل الإخوة والرفاق في كل مخفر وفي كل معتقل، وامتزج بحب الوطن برمته. داخل تلك السجون وغياهبها الخانقة، كان محمد وصلاح وعزيز، رفقة شرفاء الوطن ينتظرون في لهفة وشوق زيارات ثريا ورسائلها التي ما زادتهم تلك اللآلئ إلا حبا للوطن وإيمانا بالرسالة وصمودا في وجه آلة التيئيس واغتيال الإنسان. هذه الرسائل لم تكتب أصلا لتنشر، ف»هي لم تكن سوى الكف التي تسوي ضجعة الراقد على ألمه وتلوح للمحترق بهواه وتمتد حين تغيب الأيادي...» ص 5، اعتبرتها ثريا ملكا لها ولزوجها وأبنائها، ورفضت دعوات عديدة لنشرها، غير أن وعي المرأة بأن ما بدا لها لفترة خصوصيا، يحمل في الواقع دلالات أشمل وثيقة الصلة بقضايا الوطن وحرية الإنسان، جعلها في النهاية تقبل بإخراج رسائل الأسرة من مخبئها لتصبح ملكا لنا جميعا وسفرا نقرأ على صفحاته الجزء المظلم من تاريخ الوطن. تبتدئ تجربة ثريا مع السجن سنة 1951 حين نفي الزوج/العريس من مدينته آسفي إلى البيضاء فسلا حيث لحقت به ثريا ليسكنا بيتا صغيرا متواضعا. انخرط الحبيبان معا في النضال الوطني الذي كان «قاسمنا المشترك». انتمت ثريا ل»طلائع الإصلاح» وعملت على تأطير النساء ومحاربة الأمية وإسعاف عائلات المعتقلين بينما أسهم محمد في قيادة النضالات الشعبية وكان حاضرا بقوة في الحوادث التي أعقبت اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد، فكان أول اعتقال وأول تجربة لثوريا مع السجن أعقبتها تجارب أخرى أكثر قسوة ومرارة: سجن لعلو والعاذر والقنيطرة ووجدة وعلي مومن زمن الاستعمار. وبعد الاستقلال استؤنفت المعاناة التي كانت أقسى وأمر، كتبت عنها ثريا مستحضرة اعتقال أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1963 « هنا بدأت معاناة جديدة، مع سجن جديد، ليس بالمفهوم السابق...سجن في عهد الاستقلال، سجن يعذبك فيه مغربي...» ص15. . معاناة ستتجدد وتمتد بدء من 1965 إلى آسية وصلاح وأسماء، وكانت سنة 1973 بداية تجربة جديدة حين اعتقل صلاح الذي «غبر» لسنة كاملة، ثم عزيز في نونبر 1974 وهو في سن السادسة عشرة، ودعته امه عندما قادته خفافيش الظلام نحو المجهول قائلة:» اسمع ياعزيز،هذه طريقك، وأنت الذي اخترته، فسر فيه إلى النهاية...» كبرت المأساة، تعذيب ومرض وتجويع وإضراب عن الطعام، فازدادت السنديانة سموا وقوة ونضرة، تقدمت الوقفات وقادت الإعتصامات إلى جانب أولئك الأمهات الأبيات اللواتي سقين بدموعهن شجرة الحرية وكن تاريخيا رائدات الحركة الحقوقية المغربية. في خضم هذه التجربة الطويلة المديدة المريرة كتبت كل الرسائل التي تعددت أبعادها لتعكس جدلية الحياة والموت، جدلية الحب والنضال. ما خلت رسالة من حب وعشق وهيام وشوق وحنين ودموع دافئة وآهات، يطوقها الإيمان بقضية الحرية والوطن والأمل في انتصار الحق وقيم العدل... هي نصوص يسكنها ذاك التناقض الأبدي بين الذات والواقع، بين الآن القاتم والأمل في الغد الباسم. مناديل وقضبان وثيقة تاريخية قيمة تحمل بين أكمامها تفاصيل دقيقة عن وقائع تاريخية صنعت المغرب المعاصر: النضال من أجل الاستقلال والصراع التناحري بين قوى التقليد والاستبداد المرتبطة مصلحيا بالاستعمار الجديد، وقوى التحرر والتقدم التي آملت أن يكون الاستقلال مدخلا للتحرر والاشتراكية والديمقراطية، فكان الخطف والقتل والاغتيال وكانت مجازر وفضائع، لكن كانت في المقابل بطولات وملاحم وتضحيات جسام لجيل الوطنيين الرواد ثم لجيل السبعينات والثمانينات. مناديل وقضبان تعريف عملي لمعنى النضال في أسمى تجلياته، باعتباره سموا بالذات عن كل ذاتية وقتلا للانا فداء للعزة والكرامة الإنسانية وتضحية من اجل مبادئ الحرية والمساواة. النضال اختيار حر ذاتي، لا تحكمه غنيمة ولا ترعاه سلطة سوى سلطة الضمير والوفاء للإنتماء... النضال حرية... ولذلك لم يعش صلاح وعزيز في جلباب الأب ولا تحت أقدام الأم، دون أن يكون ذلك «العقوق السياسي» تفريطا في حضن ثريا وكنف سي محمد... الحرية ليست نفيا للحب وليست نقيضا له... مناديل وقضبان ديوان عشق ما نضبت عيونه ولن يذبل أبدا بنفسجه. حينما تقرأ رسائل سي محمد إلى ثريا ورسائل ثريا إلى سي محمد، تقف مشدوها أمام بلاغة فريدة وملهمة في التعبير عن عواطف صادقة جياشة، وتعجب حقا من تنافس الكيانين في نفي الذات من أجل السمو بالآخر الذي هو الحبيب والملاك والعزيز والعبير والروح والزوج الغالي والوفي وتوأم النفس وغيرها من عبارات الوله والتقديس. من السجن المدني بالرباط، كتب محمد الآسفي سنة 1954: عرفت روحي السعادة بين أحضان الثريا ريقها الكوثر شهد دونه فعل الحميا كلما همت وحيدا في دياجير الظلام يتراءى لي طيف منك يهديني السلام وكتب في رسالة أخرى:» حبيبتي المحترمة، تحية من الأعماق، وبعد، هاهو حبك العظيم يملي علي من جديد هذا النشيد فأخطه إليك بهذا القلم الوضيع، وبودي لو أكتبه إليك بدم قلبي المشوق إليك، ولولا كثرة العيون التي تحيط بي من كل جانب لكتبته إليك بدم جسمي الضعيف على الأقل ليكون رمزا من رموز التضحية في سبيل الحب الشريف...»؛ وهي الرسائل التي ردت عليها ثريا بعبارات أرق:»تحيات تعبق بأريج الشوق الملتهب وسلاما هو عصارة القلب الجريح... حبيبي: أريد أن أناديك باسمك العذب مجردا عن جميع ألفاظ التملق والرياء، فلكم يطربني ألا تكون أية واسطة بين قلبينا إلا واسطة الحب الصادق الذي لا تنال منه حوادث الدهر القاسية». مناديل وقضبان منبر لمناظرات فكرية حول قضايا سياسية وفلسفية وأدبية بين آل الوديع الذين خاضوا عبر القضبان والسلاسل، ورغم العسس والليل البهيم، في الشعر والرواية والنظرية الثورية، وما عداها من أنواع النظر وفنون القول. في رسالة من عبد العزيز بتاريخ 17-5-1976 مطارحات حول علاقة الفكر بالواقع وصلة الفن بالعلم ووظيفة النقد والناقد. وفي رسالة أخرى يناقش صلاح العربي «الفزيائي» حول المنهج العلمي وأسس التفكير المنطقي،كما ناقش في موضع آخر أمه ثريا قضية تحرر المرأة. ختما لهذه الكلمة المتواضعة تناسبا مع قيمة مضمون الكتاب ورسائله البليغة العميقة والجميلة، أستأذن الشاعر صلاح الوديع في استحضار قصيدته التي زينت غلاف المؤلف: هذه المرأة الشجرة هذا الجلد وذلك الكبرياء هي المودة وطيبة القلب وهي الصبر والشموخ، إنني أتحدث عن أمي أيها الناس وليتني ما كنت ابنها حتى أفرق بين حبي للأم وإجلالي للنموذج. عرفت بلادها عبر تجوال فريد، كل شروخ الحيطان، كل صراخ الأبواب. كل البذلات الزرقاء. كل قرقعات المفاتيح. كل شحوب الوجوه وصرامة القبضات. كل الأرقام الباردة وكل اللوعات الحارقة. هي محطات حياتها ولم تنكسر هي كسائر الأمهات حذقا ورقة ورأفة وذوقا وعناية وفنون طبخ. وهي كذلك الجدار الطود الأشم. هي الكبرياء والشجاعة والانتظار. وهي رابطة الجأش والعزة. واعذروني إن استعملت كلمات شاخت فوق شفاهنا أو تكاد, ولا تقولوا هو ابنها ولا عجب فأنا تمنيت في بداية الكلام ألا أكون ابنها. وإذا لم تصدقوني فاقرأوا هذا الكتاب ...» أما أنا فكم أتمنى لو أني كنت ابنها رغم اعتزازي الكبير بأمي التي خاضت هي ايضا حرب التحرير...