بعد السيطرة على الموصل، أصبحت استراتيجية الجهاديين السنة تضع نصب أعينهم، في الهدف الأخير، استئصال الشيعة من الشرق الأوسط. هذا ما تحلله الدكتورة مريم بن رعد، الباحثة في مركز الدراسات و الأبحاث الدولية بباريس و الباحثة المشاركة في معهد الأبحاث و الدراسات العالم العربي و الإسلامي و المختصة في العراق و المسألة العراقية، في هذا المقال المنشور بصحيفة لوموند الفرنسية. في ليلة سادس يونيه الجاري، هاجم مئات المقاتلين المسلحين مدينة الموصل في محافظة نينوي شمال شرق البلاد، و تمكنوا من السيطرة على أهم مراكزها الحيوية. و بالتزامن معها وقع هجوم مماثل على الرمادي في محافظة الأنبار الوسطى، تمثل في الهجوم على جامعتها المحلية و في أخذ عدة رهائن. و منذ ذلك الحين توالت الأحداث متسببة في الهَلَع الجماعي: فبعد مدينة الموصل، جاء الدور على مقاطع كاملة في المحافظات الثلاث لنينوي، و كركوك و صلاح الدين التي سقطت في أيدي المهاجمين، الذين أصبحوا الآن على أبواب بغداد بعد أن استولوا على تكريت، معقل الدكتاتور السابق صدام حسين. تقدر المنظمة الدولية للهجرات حاليا عدد العراقيين الفارين من هذه المناطق خلال الأيام الأخيرة بنصف مليون مدني توجهوا نحو كردستان العراق، و هو نزيف بشري يعود إلى الخوف الذي زرعه المهاجمون أكثر منه إلى الخوف من عمليات انتقامية تقوم بها الحكومة المركزية. فهذا النزاع الذي بدأ، يبدو طويل النفس و غير مسبوق منذ الإطاحة بالنظام البعثي سنة 2003 . و لكن كيف تمكن المتمردون خلال بضعة أيام فقط من السيطرة على جزء كبير من التراب العراقي؟ ففي وقت لم تكن فيه معروفة قبل بضعة شهور، وقعت «داعش» (الدولة الإسلامية للعراق و الشام) و هي امتداد سلفي-جهادي للقاعدة ، أول انتصار كبير لها بالعراق. فإذا كان الاحتلال الأمريكي قد تميز بمستويات مرتفعة من العنف، فإنه لم يسبق للفئة الراديكالية في الانتفاضة المسلحة ضد هذا الاحتلال أن قامت بمثل هذا الإنجاز العسكري، بالسيطرة على قطاع إقليمي يمتد من الأنبار في وسط البلاد حتى شمال شرق سوريا. هذه الهجمة تتميز أيضا برمزيتها لأنها تأتي بعد أسابيع قليلة على إعلان النتائج الوطنية لانتخابات 30 أبريل التي منحت الفوز لرئيس الوزراء نوري المالكي الشيعي و العدو اللدود للجهاديين، كما تأتي قبيل شهر رمضان. و من المعروف عن زعيم المجموعة المحاربة العراقي أبو بكر البغدادي، أنه وعد منذ زمن سابق السلطات العراقيةالجديدة بحرب شاملة. منذ بداية العام، ضاعفت «داعش» التي تنشط في سوريا و في العراق، من هجماتها و من عملياتها الانتحارية - في أغلبها من تنفيذ جهاديين أجانب أوربيين بالخصوص- و من الاختطافات.و في يناير،سيطرت على الفلوجة المعقل السابق للمقاومة ضد أمريكا. هذه العمليات جميعها تسببت في سقوط مئات المقاتلين منها ، وهم المقاتلون الذين لم يعودوا يخشون القوات النظامية، كما أبانوا عن ذلك مؤخرا. منذ إعلانها في أكتوبر 2006، بعد بضعة شهور على مصرع أمير الجهاد في العراق الأردني أبو مصعب الزرقاوي، تابعت «داعش» هدفين إثنين يميزانها عن بقية المتمردين على الساحة، و عن القاعدة المركزية. فمن جهة أولى لا تُدرج «داعش» حربها في أفق وطني، من خلال جهاد دفاعي ضد حكم غير شرعي و ضد احتلال أجنبي، بل إن معركتها تخضع لمنظور طائفي إسلامي يضع أولويته في القضاء على الشيعة في العراق كما في سوريا و في الشرق الأوسط عامة. إذ بدون هذه الأولوية - كما ترى «داعش»- فإن الهدف النهائي، و هو إقامة دولة الخلافة السنية في مجموع العالم الإسلامي لا يمكن أن يتحقق. هذه الخلافة تمر عبر إقامة دولة إسلامية تضع البنيات الأولى لدولة الخلافة المقبلة، و في هذه النقطة بالذات تبتعد «داعش» عن القيادة المركزية للقاعدة و عن مؤسس إيديولوجيتها، المصري أيمن الظواهري، الذي يعتبر أن الجهاد ينبغي أن يتواصل و يتم قبل إدخال أي مشروع سياسي. و على العكس فإن»داعش» ترى أنه من خلال مثل هذا المشروع فقط يمكن لدولة الخلافة أن تنبعث، و أن يقدم ? على المدى القصير - حل لسُنة سوريا و العراق، الذين يصارعون نظامين شيعيين كافرين و دكتاتوريين، هما نظاما المالكي و الأسد. فمنذ سنة 2003 تم استبعاد سُنة العراق من المرحلة الانتقالية، و لم تنجح أي من محاولات إدماجهم في اللعبة السياسية. و في هذا السياق تم إقصاء الجبهة العراقية للوفاق التي تأسست في نهاية 2005 للمشاركة في الانتخابات، و هو ما حصل أيضا للائحة العراقية بقيادة السياسي الشيعي العلماني أياد العلاوي التي فازت بالاقتراع التشريعي لسنة 2010 قبل أن ينزع منها انتصارها نتيجة لمناورات المالكي. و منذ ذلك الحين ، لم يتوقف السُنة عن التجذر و التطرف، و عوض التهدئة قادت حكومة بغداد حملة قمع واسعة النطاق بعد الانسحاب الأمريكي في نهاية 2011 . و بعيدا عن الخيار الجهادي، كان من الممكن لشخصيات سنية أن يكونوا محاورين ذوي مصداقية لدى التحالف الشيعي الحاكم، لكن تم تحييدها جميعا ? بدءا بنائب الرئيس طارق الهاشمي، المحكوم بالإعدام غيابيا في سبتمبر 2012 ،إلى النائب أحمد العلواني المعتقل في نهاية 2013 -. كما أن الحركة الاحتجاجية التي انطلقت في المناطق السنية سنة 2012، تعرضت لقمع شرس دفعها إلى عسكرة صفوفها و إعطاء أفراد «داعش» الفرصة للتسلل داخلها و السيطرة على قيادتها. و بالطبع، فإن غضب السنة ساهم في انتعاش «داعش» في صفوف المدنيين، و مما ساهم في تيسير انتصارها هو سوء التجهيز الذي يعاني منه الجيش العراقي النظامي و القوات الأمنية التي لم تنهض من كبوتها منذ أن قررت الولاياتالمتحدة حلهما سنة 2003 . لذلك لم يقاوموا «داعش»، بل تركوا أسلحتهم و فروا، و من ضمن الفارين توجد عناصر يشتبه في ولائهم للدولة. ألم يُشيد المالكي حملته الانتخابية على محاربة الإرهاب، مقدما نفسه باعتباره الرجل القوي في العراق؟ الوحيد القادر على مواجهة الإرهاب؟ لا مراء في أن الأحداث الأخيرة تظهر فشل و ضعف الرجل، فعوض أن يساهم المالكي في إنعاش المصالحة الوطنية عمل على تقسيم السكان و تقسيم الطبقة السياسية، واضعا السنة في موقع الياءس الذي لا خيار له سوى الانضمام ل»داعش» أو تأييدها. و تحاول «داعش» حاليا، تناسي الرعب الذي زرعه أفرادها سنة 2006 و هو ما كبدها ابتعاد الأفراد و العشائر عنها. الآن يحاول المالكي إنتاج هذه «الصحوة» بتسليح المدنيين كي يوقفوا الزحف الجهادي، في حين لم تمر بضعة شهور على قنبلتهم ببراميل المتفجرات، لهذا فإنه من المحتمل جدا ألا تنجح استراتيجيته هاته. لهذا عوض الوفاق الوطني فإنه من المنتظر أن تتعمق الخلافات الطائفية و تتفاقم و أن يعود العنف إلى بغداد. و يبدو قلق القوى الإقليمية المحيطة بالعراق، التي خاضت حروبا بالوكالة ،قويا. فإيران التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة، إلى الحفاظ على المحور الشيعي الذي رسمته عقب سقوط بغداد، أعلنت دعمها العسكري المضاعف للحكومة العراقية و أرسلت مستشارين عسكريين و أسلحة، إضافة إلى إرسالها ميليشيات شيعية كانت تمولها و تدربها إلى العراق. أما السعودية، التي غذت المد الجهادي السني بالمنطقة على غرار تركيا و بعض الدول الخليجية الأخرى، فمن غير المستبعد أن يؤدوا ثمن ذلك فيما بعد. و بالموازاة ساندت أنقرة و طهران الأكراد في هجومهم المضاد ضد «داعش»، لأنهما معا لا تريدان أفراد هذه الأخيرة بالقرب من حدودهما. لكن ماذا تنوي المجموعة الدولية القيام به أمام هذا القوس الجهادي الذي يمتد من الساحل حتى أفغانستان، و الذي توجد سوريا و العراق في قلبه؟يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل، كما طلب المالكي ذلك. أما أوربا فغائبة.لذلك فإن الأيام القادمة ستقرر مستقبل العراق كدولة.و في هذا الصدد فإنه من غير المستبعد أن يتم إنجاز سيناريو تقسيم واقعي و نهائي لهذا البلد. «لوموند» 17 يونيه 2014