من غير نكران فضل جميع الأساتذة الذين تتلمذت لهم، سواء في المدرسة أو الثانوية أو الجامعة، يحتل محمد جسوس مكانة خاصة في حياتي . فجسوس والخطيبي هما الأستاذان المغربيان الوحيدان اللذان درساني علم الاجتماع بدء من سنة 1969 على مدى السنتين النهائيتين من الإجازة (1969-1970 و 1970-1971). أما الأساتذة الآخرون فإما فرنسيون ،(في قسم الفلسفة بالفرنسية )، و إما مصريون أو سوريون (في قسم الفلسفة المعرب) . كان محمد جسوس، وهو العائد لتوه من الولاياتالمتحدةالأمريكية، يأتي إلى الكلية مرتديا سروالا قصيرا و قميصا بأكمام قصيرة تزركشها مربعات ملونة. كانت هذه البساطة في اللباس تصدم أذهان الطلبة لكننا أدركنا تدريجيا أنها علامة على حداثة يومية متبناة بشكل عميق إلى أقصى حد. وأدركنا، و بالتدريج كذلك، أن جسوس لم يكن ليخطر على باله أن يفرض ذاته من خلال الهندام. هكذا علمنا، و من دون التصريح بذلك، أن الهندام لا يصنع الأستاذ . فكم من جهل مقدس يختفي بالفعل خلف الملبس! لا تتوقف حداثة جسوس عند حدود الهندام، فحداثته تكمن بشكل خاص في طريقته في التدريس، و في بيداغوجيته التشاركية، وفي استعداده القبلي للإنصات لمريديه. من ثمة، فهو يذكرني بسقراط. أثناء الحلقات الدراسية للسنة الرابعة من الإجازة (1970-1971) كان محمد جسوس الأستاذ الوحيد الذي يتحدث، و الوحيد الذي يتدخل، في الوقت الذي كان فيه الأساتذة الآخرون، الفرنسيون و المغاربة، الحاضرون معنا، ينصتون. كانوا ينصتون له بكل احترام، و كنت أنصت له بإعجاب. لذلك أعددت ، وفي تلك السنة بالذات، أي 1971، أعددت رسالة الإجازة حول الشباب المغربي تحت إشرافه هو. على أن حداثة جسوس تكمن بشكل أخص في قبوله سنة 1975 الإشراف على أطروحتي للسلك الثالث في موضوع الجنس في المغرب. فكان بذلك أول أستاذ جامعة مغربي يقبل الإشراف على موضوع أطروحة كهذا. وهو ما أتاح لي شرف أن أكون أول طالب مغربي ناقش سنة 1980 أطروحة حول الجنس في المغرب. و لا ينبغي أن يغرب عن بالنا في هذا الصدد بأن هذا كله قد جرى و تم بالجامعة المغربية. وبقبول موضوعي المعنون «الجنس والمجتمع بالمغرب: دراسة نظرية و تطبيقية « ، يكون محمد جسوس قد أبان عن جرأة نموذجية و روحا أكاديمية رائدة جعلته يضع اللبنة الأولى لتشييد حقل الدراسات الجنسية و الجندرية في المغرب. أثناء إعدادي أطروحتي تحت إشرافه، من 1975 إلى 1980، واظبت على زيارته بالرباط، و تحديدا في منزله بأكدال ، بزنقة درعة. كان يعيد إلي، في كل زيارة له، الفصل الذي تسلمه مني من قبل. و كان يبقيني عنده لساعتين أو ثلاث ساعات ليشرح لي شفويا تعليقاته المرسومة باللون الأحمر. كان ذلك يتم بمحضر من زوجته و ابنتيه. كان جو العمل مفعما بروح الود والهدوء، و بالاحترافية و الأكاديمية على حد سواء. بزي بسيط دوما، فهو لا يتمسك بالشكليات، كان يستقبلني في بيته كأنني ابنه أو شقيقه الأصغر. و عند المغادرة، كان يزودني بكتب للقراءة من خزانته الشخصية. فأعود إلى الدارالبيضاء من 1975 إلى 1977، و فيما بعد إلى فاس من 1977 إلى 1980دائما محملا بها. و الملاحظ أن تلك الكتب لم تكن لها علاقة مباشرة بموضوع الجنس و/أو المرأة، ولم أدرك إلا تدريجيا أنه كان يمكنني من الأسلحة النظرية التي ستجعل من عملي عملا أكاديميا علاوة على كونه سلاحا في معركة الدفاع عن القضية الجنسية و النسائية. ومع انه لم يطلب مني أبدا أن أرد له كتبه، فقد كنت دوما حريصا على إرجاعها اليه . عند ما واجهت البحث الميداني حول موضوع على قدر كبير من الحساسية، قدم لي محمد جسوس «درسا» حول سوسيولوجيا السوسيولوجيا بالمغرب من قبيل ما يلي: «ليست للمغربي أية دراية بالبحث السوسيولوجي»، «بالنسبة للمغربي، كل باحث هو عميل استخباراتي مقنع»، «لن يكون الاستبيان / المقابلة ممكنا إلا إذا كان للمغربي رأي شخصي و فردي متمايز ومغاير للرأي الجماعي السائد»... فيما بعد، كتب ايمانويل طود أن الديمقراطية لن تتحقق إلا إذا كانت النسبة المئوية للساكنة المتعلمة بشكل حقيقي تفوق 70 في المائة. عقب نشر هذه الأطروحة سنة 1985 بدار النشر المغربية تحت عنوان «المرأة والجنس في المغرب»، آخذني جسوس على عدم نشرها بالكامل، كما عاتبني، بشكل أدق ، على اقتضابي الجزء الميداني. ولم أستوعب قيمة نقده الحقيقية إلا بعد مرور ثلاثين سنة. مرد ذلك أن عالم الاجتماع المغربي خلال حقبة الثمانينات (من القرن الماضي) كان مناصرا، بشكل خاص، للنظرية و النقد الثوريين. لكن جسوس، رغم أنه المناضل السياسي غير الفاسد المعروف من لدن الجميع، كان على وعي تام بقيمة البحث الميداني دون أن يقع في الهوس التكميمي المميز للمدرسة الأمريكية. لذلك لم يستصغر جسوس قط قيمة البحث الميداني في مهنة عالم الاجتماع المغربي. بالنسبة إلي، جسوس لم يمت، ولن يموت أبدا . فدرسه صاحبني دائما، وسيظل يصاحبني على الدوام . في نظري، سيظل درسه حاضرا لدى جميع علماء الاجتماع المغاربة. في نظري، ليس جسوس مرجعا لعلماء الاجتماع وحدهم، إنه قدوة للمثقفين وللسياسيين.