أتقدم في البداية بالشكر لجمعية أصدقاء السوسيولوجيا على هذه المبادرة الجميلة والمؤثرة في حق قيدوم السوسيولوجيين المغاربة الأستاذ محمد جسوس. أودّ كذلك أن أتوجه بتهنئة خاصة للجهات الداعمة التي وثقت وآمنت بمشروع تقدمت به جمعية شابة و هذا عمل يستحق الإشادة والشكر و التنويه ، وذلك ليس بغريب عن الحس المدني و الثقافي التي تعرف به منطقة شمال المغرب بصفة عامة وحاضرتها تطوان بصفه أخص. يصعب على أن أختزل في بضع كلمات قوة وعمق الدرس والحضور السوسيولوجي لمحمد جسوس، بالنظر إلى تعدد مزاياه وطول عشرتي وملازمتي إذ أن معرفتي به تعود إلى ما يزيد بقليل عن الأربعين سنة. لهذه الاعتبارات، سوف أكتفي بالحديث عن بعض المحطات الأساسية التي جمعني به خلالها هذا المسار الطويل راجيا أن يكون تشبيه المحطة في محله لما تحمله ، من جهة، من معاني التوقف والاستراحة أو تغيير المسار، ومن جهة أخرى لطابعها السريع والمؤقت في طريق وجهة طريق مرسوم سلفا هو طريق البحث السوسيولوجي: المحطة الأولى : تعود بي الذاكرة إلى خريف سنة 1971،بما كانت تمور به من وقائع وأحداث جسام وما كان يطبع الوسط الطلابي آنذاك من حيوية وتوثب، ونقاش وصراع لا يفتران، يوازيهما نقاش علمي مفتوح داخل قاعات الدري، وبصفة أخص خارجها، وهي وقائع و ذكريات يشهد عليها بعض من يحضر معنا في هذا التكريم، خاصة الزميلين عبد الجليل بادو وعثمان أشقرا الذين تقاسمنا معا بعضا من هذه اللحظات الجميلة. في خريف ذلك العام السبعيني كان محمد جسوس الملتحق منذ مدة يسرة بالتعليم الجامعي، قادما من جامعة برنستون بالولايات المتحدةالأمريكية قد شرع في تقديم درس جديد حول الطبقات الاجتماعية رفقة عبد الواحد الراضي. وقد كان حضورهما معا، بالإضافة إلى موضوع الدرس، عنصر جدة ومفاجئة.. آنذاك، كنا حوالي عشرين طالبا ندرس بشعبة الفلسفة، وكانت كل عدتنا من السوسيولوجيا هي المدخل لعلم الاجتماع الذي درسه لنا أستاذ في أول سنة من سنوات التحاقه بالجامعة وهو محمد عابد الجابري. كنا، على الرغم من انغماسنا في النضال الطلابي وتمرسنا بالنقاش متعودين على الدرس الأكاديمي الذي يتكلم فيه الأستاذ وينصت الطالب. لقد كان كرسي الأستاذية حينئذ، شأنه شأن الكرسي الكنسي الذي هو أصله التاريخي ونموذجه. في درس محمد جسوس سنعرف لأول مرة شيئا اسمه الندوة العلمية إذ كان يصر على أن نجلس متحلقين حول طاولة واحدة و نناقش مناقشة ، على أساس التعبير عن الرأي وقبول الاختلاف واعتبار النص أو الحجة العلمية الموثقة هي الفاصل بين الآراء. كان جسوس يفاجئنا في كثير من الأحيان بالإعلان صراحة عن عدم تأكده من بعض المعلومات والمعطيات ويطلب منا جميعا البحث والتقصي في المراجع الكثيرة التي كان يمطرنا بها والعودة إلى مناقشة ما وقفنا عنده أو اختلفنا بصدده في الحصة الموالية. لقد كنت آنذاك طالبا للفلسفة شغوفا بها كنت طالبا للفلسفة ولا أتصور نفسي علميا خارجها، غير أنني اعترف أمامكم بأن درس محمد جسوس آنذاك كان هو السبب المباشر ل«انحرافي» نحو السوسيولوجيا، كما حدث للكثيرين من غيري. منذ تلك اللحظة ، قررت أن أتخصص في ما تبقى من الأيام في علم الاجتماع ، ولا أعرف الآن إن كانت تلك حسنة أو سيئة من حسنات أو سيئات محمد جسوس ، لا أتذكر محتوى هذا الدرس الأول ، لقد نسيت ما يجب نسيانه و لكن ما أذكره هو بصمة معلم أثر في حياتي العلمية كطالب و كأستاذ . لقد تعلمنا في هذا السياق الذي تميز بالصراع و سيادة الرأي الواحد ، من محمد جسوس مجموعة من المبادئ التي لازالت تصاحبنا و نأمل أن تبقى في مصاحبتنا إلى اكتمال مسيرتنا العلمية و التدريسية . المبدأ الأول: هو أن العلم وضمنه السيوسيولوجيا ، لا يشتغل بمنطق الحقيقة أو اليقين ، و إنما داخل منطق السؤال و النقاش و المسائلة، بمعنى أن الحقيقة واليقين الراسخين والدائمين لا مكان لهما ضمن العلم الذي يحيا ويتطور بفعل النقد والشك والمساءلة المسترسلة؛ المبدأ الثاني: محمد جسوس رجل سياسة من العيار الثقيل ، ومناضل صلب وعنيد داخل حزبه وإزاء خصومه، وقد كنا بفعل قناعاتنا وممارساتنا السياسية آنذاك من بين ألد هؤلاء الخصوم، غير أنه علمنا ومارس أمامنا عمليا إمكانية انتصار السوسيولوجيا عندما تنجح في الفصل بين العلم والسياسة، وعندما يتمكن الأستاذ المالك المطلق للسلطة الأكاديمية في أن يفصل في ذاته وفي درسه بين العلم ورجل السياسة. لقد كان استبطان هذا المبدأ صعبا وعسير خاصة وأن درس التراتب والطبقات الاجتماعية كان في ذلك الزمن السبعيني يخترق النقاش السياسي داخل الجامعة وخارج أسوارها. لقد كان لقاؤنا مع هذا الدرس بداية استبطاننا واقتناعنا في التمييز بين مواقفنا و قناعاتنا الشخصية، خاصة السياسية منها، التي تتميز بحرارتها وفورتها وشحنتها العاطفية الضرورية وبين التحليل السوسيولوجي الذي لا يمكن أن يكتسب هذه الصفة وأن يقطع مع الحس المشترك إلا إذا كان باردا، عقلانيا ومحتكما إلى حجة النص أو حكم الميدان: المبدأ الثالث: يتأسس الدرس السوسيولوجي عند جسوس على مبدأ الفهم، خاصة فهم الاختلاف وفهم الآخر (النقيض) وفهمه الجيد. تعرفت مع جسوس لأول مرة على تحليلات ماكس فيبر التي كانت تبدو لنا للوهلة الأولى بسيطة بل متجاوزة على الرغم من أنه لم يسبق لنا الإطلاع عليها لنكتشف لا حقا أهميتها في إعادة صياغة الأسئلة الأساسية بالنسبة للمجتمع المغربي. مع جسوس اطلعنا على الوظيفية و على نظريات أخرى نحن الذين كنا، على خطأ نؤسس ونتخذ منها موقف رفض دون أن نعرفها جيدا ، هذا درس أساسي من دروس الأستاذ محمد جسوس ومبدأ تعلمناه منه وعملنا به؛ المبدأ الرابع: يكون الطالب في سنوات الإجازة متهيبا من نصوص كبار الفلاسفة الكبار أو السوسيولوجيين بمعنى أنه عوض أن نقرأ لماركس أو دوركهايم أو كنط ، نقرأ لمن كتب عنهم وبسطهم وأولهم بفعل وآليات القراءة والتأويل . لقد علمنا جسوس أن أسهل وأبسط ما في البحث السوسيولوجي والعلمي بصفة عامة هو قراءة النصوص الأصلية عند أصحابها وفي مضانها و هو أسهل بكثير و أقل مزالق من قراءات تكون في الغالب من الدرجة الثانية أو الثالثة . نسيت محتوى وتفاصيل معظم ما تعلمته على يد الأستاذ محمد جسوس في السبعينات ، لكن ما وسمني شخصيا وكذا الجيل الذي انتمي إليه هو النهم للمعرفة واحترام شروط اكتسابها ونقلها وتداولها. أتمنى أن أكون قد نقلت إلى الأجيال الأربعة الحاضرة معنا في هذه القاعة بعضا مما ما تعلمناه من أستاذنا جسوس. المحطة الثانية و هي محطة 1976 ? 1977 السلك الثالث ، في هذه الفترة كنا نحضر لنيل يسمى الدراسات العليا المعمقة في علم الاجتماع ، وقد كان هذا السلك مفتوحا في وجه الجميع. كل الطلبة كانوا موظفين ،في التعليم أو في قطاعات أخرى ،بعضهم كان يأتي في مناطق بعيدة و نائية عن الرباط ، ولأن الأستاذ محمد جسوس ولسنوات طويلة كانت التزاماته كثيرة و هامة في المجلس البلدي و في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وفي التدريس في كلية الآداب وكلية الحقوق ،و في المدرسة الوطنية للإدارة وفي مدرسة المهندسين ، وفي مجالات متعددة أخرى ، لذلك ، اقترح جسوس على زملائه من الأساتذة أن تكون دروس السلك الثالث في نهاية الأسبوع حتى يتمكن الطلبة من الحضور مضحيا لسنوات طويلة بوقته وصحته ولم يكن من بين مصطلحاته شيء اسمه العطلة أو الراحة. كانت مصلحة الطلبة والباحثين بالنسبة له فوق كل اعتبار ، الأمر لم يكون يتوقف على الكلية بل أن دروسه في الجامعة لم تكون إلا نزرا قليلا من دروسه الكثيرة التي يلقيها في البيت ، قرب مسجد بدر في حي أكدال ، كان يسكن فيلا قديمة متهالكة ، الطابق الأول كله عبارة عن مكتبة ، و هو و زوجته وأبنائه الثلاثة ، المهدي و ليلى و عمر كانوا يشغلون الطابق الأخر . كان منزله مفتوحا في وجه كل الطلبة و إبريق القهوة مصاحب له دوما لا يفارقه في جلساته ، لا يميز بين طالب السنة الأولى و طالب الدكتورة . في السلك الثالث، تعلمنا منه هذه الفضيلة فضيلة الاستماع و لعل الأستاذ عمر بن عياش الحاضر معنا هنا يتذكر هذا ، هناك مسألة عجيبة ، و هي أن الأستاذ محمد جسوس كان يحمل معه دوما حقيبتين ،اليوم لأول مرة أراه يحمل حقيبة واحدة ، كان أيضا يحمل الكثير من الملفات و أقلام ملونة و ظيفتها أنه في أي اجتماع سواء مع أعضاء الحكومة أو الطلبة كان يدون كل شيء ، عندما يجلس أمام أحد فهو هناك ليستفيد ، و يسجل كل ما يقال كاملا ، و على سبيل الذكر يمتيز الأستاذ محمد جسوس بخطه المغربي الأصيل . لا يقاطعك و يستمع إليك . خزانته رغما غزارتها بالكتب والمراجع الهامة ، إلا أن في أجيالنا الأربعة هنا ، من له كتب للأستاذ محمد جسوس لازال لم يعدها له و هي آفة مستشرية لدى الطلبة و الباحثين عفا الله عنا منها . كما أن الطلبة والباحثين المتقاطرين على بيته لم يكونوا فقط من شعبة السوسيولوجيا ، بل طلبة القانون و الجغرافيا و التاريخ و العلوم السياسية و العلوم الاقتصادية و الدراسات الإسلامية ، كان منزله مفتوحا لهم جميعا دون استثناء . المحطة الثالثة ، و هي محطة تهمني بشكل خاص ، فقد كان كل من يود الالتحاق بالجامعة اجتياز مباراة التوظيف في الجامعة ، يجتاز المباراة كأستاذ مساعد ، ويجب أن يكون حاصل على الماستر ، اجتزت هذه المباراة صيف 1978 و قد كنا جميعنا على قدم المساواة ، كانت كفاءتنا شبه متساوية ، و منهم من كان يفوقوني خبرة ومعرفة، غير أنني كنت من بين القلائل من المرشحين من كان يختلف سياسيا مع الأستاذ جسوس بكيفية علنية وداخل تنظيمات جماهيرية مختلفة. عندما أعلنت المباراة ، كنت أعرف معرفة جيدة أعضاء اللجنة وهم الأستاذ محمد جسوس ، و الأستاذ عبد الكبير الخطيبي ، و الأستاذة فاطمة المرنيسي ، لكني تقدمت لها بدون حماس أو كثير اقتناع ، و كانت مفاجئتي هو أني نجحت أنا و زميلي الأستاذ المختار الهراس ، خاصة بعد أن بلغنا ما بذله داخل اللجنة في الدفاع عنا، وقد زادت هذه الواقعة من تقديري للأستاذ جسوس لي و استحضرت عمليا دروسه التي ألقاها لنا ، خاصة النص الشهير لماكس فيبر عن رجل العلم و رجل السياسة ، رجل السياسة يمكن أن يكون رجل سياسة، لكن حينما ينتقل إلى العلم فهو مطالب بتبني مقاييس أخرى غير التي يعتمدها في حقل السياسة . المحطة الثالثة: بعدما انتقلت للجامعة كأستاذ مساعد ، بدأت أمارس إلى جانب الأستاذ جسوس التدريس و لازلت إلى يومنا هذا ، ما يهم هو و إصرار الأستاذ محمد جسوس على أن نقتسم معه دروس السنة الرابعة رغم أنه لم يكون لدينا ذاك الرصيد المعرفي الكبير و لا حتى سننا الذي كان صغيرا ، و أصر أن نساعده كأساتذة لا كمساعدين و لم يتدخل في محتوى الدروس التي كن نلقيها و لا في إختياراتنا ، تدخله الوحيد هو المساعدة بمدنا بالمراجع و البحوث لمن طلبها منه ، كذالك أذكر أنه منذ السنة الأولى لنا بالجامعة طلب منا أن نشرف على بحوث السنة الرابعة، رغم معارضة بعض زملائه، و كانت البحوث في تلك الفترة تجرى بشكل جماعي ، حوالي عشرين إلى الثلاثين طالبا و طالبة . مثلا الأستاذ محمد جسوس أطر في سنة 1977 بحثا هاما حول الباعة الصغار المتجولون بمدينة الرباط ، بحيث لازالت معطياته مهمة و هو أول بحث في المغرب اقتحم غمار هذا الموضوع ، و أطرت أنا بجانبه بحثا شارك فيه 26 طالبا حول موضوع الحركة الوطنية ، و كذالك حول المقاومة ، ثم حول الحركات الإسلامية ، و الأستاذ محمد جسوس كان من السابقين للاهتمام بهذا الموضوع منذ الثورة الإيرانية سنة 1979 . هذه بعض المحطات الأساسية التي كان لي شرف اقتسامها مع الأستاذ محمد جسوس وهي لا تعكس إلا النزر اليسير ون شخصيته وفضله الكبير وبصمته الواضحة والمستمرة ودوره الرائد في التأسيس لمدرسة سوسيولوجي مغربية مرة أخرى شكرا لك محمد جسوس على هذا العطاء الدائم .