هل يمكن للشعر أن يكون «شفافا كالماء وواضحا كطعنة سكين» دون أن تربطه علاقة حب دائمة مع الاستعارة؟ وما نوع الاستعارة التي يمكنها أن تغرس بتلاتها في ظهر الأبد، هل هي استعارة لغة أم استعارة بناء؟ فاجأني يوما أستاذي القاص مصطفى الجباري بقوله: «أتمنى ألا تجعلوا الشعر رديفا للاستعارات والتشبيهات فكم من شعر في ثقافات العالم المختلفة لا استعارات فيه ولا تشبيهات... معظم شعرائنا يخافون من العراء يخافون من أن تشرب مسام أرواحهم وهج الشمس ولسعات البرد فيلبسون من التشبيهات والاستعارات حِمل دولاب... حين يدرك الشاعر مقدار الخسارة التي يتكبدها الشعر الخارج من مصنع التشبيه والاستعارات آنذاك يمكن أن يبدأ شيء جديد في الشعر العربي والمغربي خاصة بما في ذلك فكر جديد عن الالتزام». هل كان أستاذي محقا؟ وهل يمكن استلذاذ قول شعري يعلن عداءه الشامل للاستعارة؟ إن الاسيتعارات، كما أرى، ليست مجرد طرائد نرسل وراءها الرصاص وكلاب الصيد. الاستعارات لغة مطوية بعناية في ما نتداوله من كلام. أتذكر هنا بقوة كتاب «الاستعارات التي نحيا بها» الذي ترجمه الأستاذ عبد المجيد جحفة. فلا تخلو أي كتابة من الاستعارة، وأتمنى فعلا أن لا نحملها وزر الأرواح الميتة التي لم تعرف الشمس طريقا إلى مصائدها. ولهذا لا ينبغي أن نصنع أي خصومة وهمية مع الاستعارات التي تشعرنا بوقع الحديد الحامي على الجلد المحروق، أو بأنين الوردة حين تداس بقدم في الطريق العام. وأتصور أن غرس سكين في عنق الاستعارة ليس هو الحل، ولا يمكنه أن يكون كذلك، وأنا هنا أتحدث عن الاستعارة الشعرية تحديدا، ذلك أن الاستعارات في العمق ليست علاقة لغوية محض، بل إنها أيضا علاقة تأويلية تساعد على إزالة الأقنعة التي تحبها اللغة. ولا أدري لماذا علينا أن نتعامل مع «تقاليد المجاز» كما لو كانت حفرة غويرة ينبغي أن نبحث عن حبال «اللغة البيضاء» لنخرج منها. الأمر ليس كذلك. لأن الدرس البلاغي علمنا أن لا وجود للغة بيضاء (الدرجة الصفر من اللغة)، ولا وجود للغة لا تشير إلا لنفسها خارج الثقافة والفكر والحياة، ولا وجود لأي معنى شعري خارج كوكب الاستعارة وإخلاف ما نتوقعه من «اللغة» المطورسة ( من الطرس). أما عن استعارية اللغة في القصة أو السرد عموما، فأعتقد أن الأمر ليس حكرا على المغرب، ويكفي أن نحيل مثلا على أعمال غارسيا ماركيز الذي حول الأدب إلى استعارة كبيرة، ساحرة وممتعة.. إنني أتفق مع أستاذي الجباري حين قال لي إن «الاستعارة عند ماركيز استعارة بناء وليست استعارة لغة لأن ما يوجه السرد هو الفكر وليس اللغة». وأتفق معه أن هناك كتابا (تشيخوف، إدغار ألن بو، بورخيص، كافكا، همنغواي) كانوا ذوي نزعة لااستعارية، وأن الاستعارة في أعمال هؤلاء وغيرهم هي استعارة بناءات لا استعارة تراكيب لغوية واستعارة لغة شعرية. لكن مع ذلك، أرى أن الطابع المشهدي للسرد هو الذي يفرض في رأيي هذا النوع من الاستعارة دون أن يلغي استعارة اللغة، وهو يكاد يكون موجودا في كل الأعمال الناجحة، بما فيها أعمال كامي وسراماغو وكونديرا وموراكامي وباموق.. وغيرهم. إن الاستعارة، سواء أكانت بناء أو لغة، اختيار جمالي محض وليس قانونا ينبغي اتباعه. فمثلما يمكن للأليغورا أن تكون اختيارا جماليا، يمكن للعراك مع المجاز أن يكون كذلك. ولنا في المحكيات السردية العربية القديمة خير مثال. كما أن هناك كتابا عربا كبارا (عبد الرحمن منيف، غائب طعمة فرمان، جبرا ابراهيم جبرا، غالب هلسا، سليم بركات..) كتبوا روايات جميلة بلغة شعرية رائقة. بينما راهن آخرون على «استعارة البناء» أمثال صنع الله ابراهيم، ربيع جابر..