حميدة نعنع، صاحبة «الوطن في العينيْن» التي قرأناها بحبّ ونهم خلال أيام الجامعة، والعضو السابق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، هي سورية تقيم بباريس، بعد اْنْ نفيت من سوريا إلى الجزائر في السبعينيات، عينت مديرة مكتب جريدة السفير في شمال إفريقيا وأوروبا، اشتغلت فيه مديرة لمجلة «آفريك آزي»، كانت صديقة الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، وكانت قريبة من ياسر عرفات أيضا، عاصرت العديد من السياسيين والأدباء. في هذا الحوار، الذي أجْريناه معها إثْر زيارة صداقة وحبّ لها لمقرّ الجريدة، تتحدث عن علاقتها بالراحل محمد باهي وبمحمود درويش وأدونيس، وعن موقفها من الانتفاضة السورية والمعارضة وقطر والسعودية والغرب. { الأستاذة حميدة، نحن في «الاتحاد الاشتراكي»، نعرف علاقتك النضالية والثقافية والإعلامية المتينة بالراحل محمد باهي، هل يمكن أن تحدثينا في البداية عن المرّة الأولى التي تعرفتِ فيها على الراحل؟ تعرفت على باهي، لأوّل مرة، في العاصمة السورية دمشق. كانت آنذاك حركة 23 شباط سنة 1966، إبّان انشقاق حزب البعث، القوميون العرب. لقد جاء باهي لمدة قصيرة، لكنه سرعان ما ألف المكان وقضى ستة شهور ونصف. خلال هذه الفترة، التحق بجريدة «البعث»، حيث كان يكتب مقالا أسبوعيّا ، وسرعان ما نجح في التعرف بدقة على التركيبة الاجتماعية السورية، وهو الوقت الذي كنت قد بدأت فيه العمل الصحافي، كمتدربة في جريدة «اتحاد العمال الاشتراكي» التي كان يرأس تحريرها طارق عزيز. كنا نحن مجموعة من الأصدقاء (الماغوط، باهي، عزام، باهي وأنا). كان المرحوم باهي في جريدة «المجاهد». بعد ذلك سافر إلى بيروت وأصبح واحدا منا ولم يكن غريبا بالنسبة لنا. بعد ذلك سيلتحق به في سوريا الفقيه البصري وعائلته. غير أن باهي كان مع الجميع، بعد ذلك، ظل التواصل قائما فيما بيننا؟ { وماذا حصل بعد هذه الفترة؟ اضطررنا، سنة 1973، لمغادرة سوريا، في ظلّ الحكم الاستبدادي لحافظ الأسد، واللجوء إلى الجزائر كلاجئين سياسيين. بعد سنة واحدة، غادرت الجزائر إلى باريس. كنت أظنّ بأنني سأعود بعد إنهاء دراستي العليا بعد سنة أو سنين، غير أنني بقيت هناك طوال هذه السنوات، حيث تابعت من موقعي الأحداث الكبار التي شهدتها المنطقة : تعاظم الكفاح الفلسطيني، ثم حرب لبنان، وبعدها حرب العراق الخ. في هذه السنة بالضبط، 1974، كان اللقاء الثاني بالمرحوم محمد باهي. ساعتها التحقت للدراسة بالسوربون واشتغلت باليونسكو. كتبت في جريدة «لاتريبي» لميشال روكار، بفضل باهي، وعشنا أجواء سياسية هامة: ما عرفته قمة بغداد سنة 1978 من توتّر، وهي القمة التي طُرد منها الرئيس المصري أنور السادات، حيث كان باهي وقتها صحافيا في العراق، في وكالة الأنباء العراقية. كانت العراق بمثابة ثكنة عسكرية، وحين عدت في زيارة للعراق، سمع باهي بوجودي، وفي طريقه إلى المطار عائدا إلى فرنسا، كان باهي يتصل بي وأنا بالفندق، وعندما ربط الاتصال بي قال لي بأنه يبتعد عن الفندق بحوالي 30 كلم، وبعد إلحاحي بعودته، رجع ماشيا على قدميْه. ولأنه اعتاد ألاّ يستأذن مني فقد دخل الفندق وصعد إلى الغرفة. وبما أن العراقيين محافظين كثيرا، فقد أوقفوه في بهو فندق الرشيد قائلين له :»وين رايح؟ الرجال ما يطلعو عند النسوان»، نزلت وسألت عن أسباب منعه، فلما أخبروني شرحت له، وكان هذا حدثا طريفا. { اشتغلتِ أيضا في جريدة «السفير»؟ التزمت مع صحيفة «السفير» اللبنانية، وكان محمد باهي يأتي يوميا إلى مكتب الجريدة بباريس. { وباهي ظلّ في الوكالة العراقية؟ نعم، كان باهي معينا بصفته مديرا لوكالة الأنباء العراقيةبباريس برتبة وزير. كانت يحمل الجنسية العراقية، لكن هذا لم يغير شيئا من صحراويته. الأهمّ من هذا كله، هو أنّ باهي أعطى الشيء الكثير، وكان يتمتع بموهبة كبيرة خارقة: يستيقظ في الصباح وينكب على قراءة جميع الصحف اليومية، وبعد ساعة واحدة يقدم التقرير الشامل والمفصل لها. كان مواظبا على كتابة «رسالة باريس»، لكنه في كلّ ذلك يبقى باهي حرّا. ولا زلت أذكر أنه كان يحمل معه كيس الجرائد والكتب، ويذهب ليقرأها في المقهى. أما نحن، فقد كان يعاملنا مثل الوطن. ويمكن أن أقول لك سرّا وهو أن روايتي الأولى «الوطن في العينين»، كانت متأثرة، في لغتها وحرارتها ومضمونها (التعبير عن الأم، الكواري وسعيد سلمان وعدد من المثقفين)، بمحمد باهي. { كيف كانت الأجواء في باريس؟ كانت الأجواء مليئة بالفكر القومي والانفتاح على الفكر الشيوعي واليساري في فرنسا: ألتوسير، لوفيفر، مارشي، وكان النقاش محتدما حول القضية الفلسطينية والعالم العربي. كنا نصطدم بجهل المثقفين الفرنسيين بقضايا العالم العربي، باستثناء مكسيم رودنسون، الذي كان يهوديّا يساريا وملما بالشأن العربي. ومن بين من اصطدمنا معهم بهذا الشأن، جماعة مجلة «تيلْ كيلْ»، وخاصة حول مفهوم وحقيقة الصهيونية. وقد كان باهي أفصحنا في اللغة الفرنسية، وأقدرنا على التعبير والإقناع، كان يترجم عنا وعنهم، وكان أقدرنا على إيصال أفكاره. ولا زلت أذكر أنه، في سياق النقاش حول القضية الفلسطينية، حضر معي باهي خلال مقابلة لي مع رولان بارت، في بداية الثمانينيات، ومقابلات صحافيى أخرى مع سارتر ودو بوفوار. كان متشبعا بالثقافة الفرنسية إلى أبعد الحدود، وكان قادرا على ذلك، وخصوصا على النقاش مع الفلاسفة الجدد، ولكثرة انشغاله، كان يبدو بأنه لا يصلح لأن يكون ربّ بين وأسرة. ربما لأنه كان بطبيعته قلقا ومتوترا، يتلفن في أيّ وقت. وهنا لا بدّ أن أذكر حدثا طريفا في هذا السياق يدل على أن باهي كان جزءا من بيتي، وهو أنه هو من زوّجني بزوجي الأول. وفي اليوم الثاني لزواجي، حيث كنت ما أزال نائمة أنا وزوجي، زارني باهي بدون استئذان، في الثامنة صباحا، وكان يوم سبت. جاء لكي يستعمل الهاتف، تركته في الصالة، وسرعان ما ألف المكان وبدأ يتلفن للجميع، بالمشرق والمغرب، وفي نهاية الشهر جاءت فاتورة الهاتف التي بلغت35 فرنك فرنسي. بسرعة يتحول البيت إلى بيته، وهذه ميزة عرف بها. كانت تجربة باهي غنية وثرية ثقافيا وإنسانيّا، لكن الأهمّ في الموضوع هو أنه كان بمثابة موسوعة ثقافية وذاكرة متنقلة. مع المرحوم باهي لا تحتاج إلى أرشيف، فهو يكتب بسهولة بمجرّد ما ينتهي من القراءة. كان أمين معلوف يقول لي:»أنتِ يا حميدة مع باهي لستِ في حاجة إلى أرشيف». وهو كان مستعدا لذلك، وأنا شخصيا أعتبره معلّما لي في ميدان الصحافة، لأنني أنا جئتُ من الأكاديمية إلى الصحافة. { هل يمكن القول بأن عملك في الصحافة أثّر سلبا على كتاباتك الأدبية؟ صحيح، لقد أثر العمل الصحافي على اشتغالي وعطائي في الرواية. لقد أخذت مني الصحافة الوقت الكثير، بحيث كان عليّ أن أسافر إلى شمال إفريقيا أسبوعيا تقريبا، إلى الجزائر والمغرب وتونس. { هل تعرفتِ في منفاك على شخصيات مغربية أخرى؟ في المنفى، تعرّفت على مغاربة أعزّهم كثيرا: اليوسفي، الفقيه البصري، بن اسعيد، الجابري، العروي، عبد الهادي التازي. وبفضل هؤلاء تعرفت على المغرب. { كيف التحقْتِ بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأنت في باريس؟ في سنة 1967، جاءني أمر حزبيّ يأمرني بالالتحاق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثاني أكبر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، عند تأسيسها كامتداد للفرع الفلسطيني من حركة القوميين العرب، أسسها مجموعة من قياديي القوميين العرب وبعض المنظمات الفلسطينية التي كانت منتشرة في حينه وعلى رأسهم مؤسسها وأمينها العام السابق جورج حبش ومصطفى الزبري المعروف بأبو علي مصطفى ووديع حداد وأحمد اليماني وحسين حمود (أبو أسعد) ومحمد القاضي الذي تنحى برضاه ن عن عمله في منتصف السبعينات، ولم يشغل اي منصب قيادي بالحركة آنذآك. في هذه التجربة تدربتُ على المقاومة. { هل قمت بعمليات فدائية معيّنة؟ أجل، نفّدت عملية القنيطرة التي نسفت فيها نادي القنيطرة، كما قمت بعملية أخرى بعد الانشقاق. الأهم في هذه التجربة هي علاقة الصداقة القوية التي كانت لي مع جورج حبش ونايف حواتمة. وأذكر أنني حزنت كثيرا لتبنّي حبش الماركسية بشكل سريع، وقدْ عبّرت له عن حزني قائلة: «ماذا سيتبقّى منك؟». { وكيف كانت علاقتك بالشاعر الراحل محمود درويش؟ كان محمود درويش صديق عمري، من الناحية الثقافية والإنسانية وخصوصا بعد خروجه من فلسطينالمحتلة واستقراره في تونس. كانت علاقتنا فيها مزيج من المودة والنفور. فمحمود درويش إنسان عصبيّ، كثيرا ما كنا نختلف في السياسة، وحتى في الشعر في بعض الأحيان، فهو فنان عاش معاناة الأديب والفنان، وجرب أن يستقر مرتين ولم ينجح، فعاش لقضيته وشعبه، قدم ما لم يقدم جيش بأكمله، لكنني تخاصمت معه طويلا، وحدث أن كنّا في بيت الفلسطيني عدنان كامل بباريس، وكان معنا عبد المعطي حجازي، وحين كنتُ أشرع في قراءة أبيات شعرية لي، كان يشوّش عليّ ولا يتركني أواصل. كان يغازلني لكنْ بطريقة مشوّشة. وهنا لا بدّ أن أقول بأنّ باريس لمْ تضف لدرويش أيّ شيء. { وعلاقتك بالشاعر أدونيس؟ تعرفت على أدونيس عند تأسيس مجلة «وقائع»، وكان حدثي معه أساسيا ومفيدا. هو كان ممنوعا من الدخول إلى سوريا، لكنه دخل إليها سنة 1972، وأسس مجلة «مواقف». كنت مولعة به وبحديثه، رغم اختلافنا. { الاختلاف في أيّ شيء؟ سياسيّا، كان أدونيس قوميّا سوريّا، بينما نحن كنا قوميين عربا. وثقافيّا، كانت له رؤية للتراث العربي لا أتفق معها، خصوصا حين يميّز بين الظاهر والباطن في هذا التراث، بينما كنت أقول له بأنّ الظاهر والباطن معا فيهما الغثّ والسمين. كما أنه في تلك المرحلة، كان أدونيس يدخلنا في نقاشات تمسّ قضايا الأقليات والطوائف والأمّة. باستثناء هذا فقد كنا أصدقاء، أدونيس دمث الأخلاق، وكان يعجبني كثيرا وأقرأ له كثيرا. { ما رأيكِ فيما أثارته آراؤه الأخيرة من الانتفاضة السورية؟ ليس مطلوبا من أدونيس، كشاعر، أن يخرج إلى الفضائيات ويعطي تحليلات ليس من رهاناته. هو كمثقف وشاعر سوريّ يعيش في باريس، طالب من بشار الأسد أن يستقيل وهذا لم يحصل، لكن لا يمكن تخوينه. { وأنت ما هو رأيك في المعارضة السورية باعتبارك مثقفة سورية أيضا؟ أنا ضدّ المعارضة السورية، فهي معارضة تستجدي كلاّ من قطر والسعودية والولايات المتحدة، معارضة لا استقلالية لها. أنا عشت مشكلة العراق، وما حزّ في قلبي أنا النخب تم شراؤها وسهل تجنيدها من الخارج. فكيف يمكن لدولة مثل قطر أن تعلّم السوريين كيفية المعارضة؟ قضية سوريا باتت قضية إقليمية معقّدة تتدخل فيها السعودية، من خلال مشاكلها مع إيران، هذا مع القول بأنّ النظام السوري نظام فاسد وسيّء، وأنا ما زلت لحدّ الآن بدون جواز سوري. كنتُ مع الانتفاضة الأولى، لكن سرعان ما جاءت التنظيمات الإسلاموية، وتحوّل الوضع إلى حرب طائفية يغذّيها النظام، مع أنّ سوريا عاشت، منذ القديم، في حضارات لم تعرف الطائفية ولا مشكل الأقليات ولا مشكل الصراع بين الشيعة والسنة. الذي حصل هو أنّ النظام السوري، منذ حافظ الأسد، نظام دكتاتوري قامع للحرّيات. { كيف يبدو لك الحلّ السوري في الأفق؟ - للأسف لا يبدو لي الأفق قابلا للحلّ. فالقضية السورية لم تعد لسوريا بمفردها، صارت دوليّة وتدور في إطار مصالح الدول العظمى. ولا بدّ من توقّف السعودية وقطر، ومن ورائهما الغرب، عن تمويل هذه القطعان البشرية التي جاؤوا بها، التي ولّدت كل هذا العنف والقتل الذي لم يعرفه السوريون، لا من قبل النظام ولا من قبل المعارضة. فحتى أيام الإسلام السياسي، في الخمسينيات، كان هناك تجاور بين الفكر القومي والشيوعي والاشتراكي حتى داخل البرلمان. التحوّل وقع مع حافظ الاسد وأموال النفط التي باتت عاملا من عوامل إضعاف الدولة.