عاد من قلب الجامعة الأمريكية مؤمنا بالهوية العربية وحتمية الانتصار على المشروع الصهيوني فوق الأراضي العربية. وبينما كان الراحل ياسر عرفات يقول إن اتفاق أوسلو هو الممكن، كان رد جورج حبش بأن الثورة الفلسطينية قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن. فكان بذلك من ألد المعارضين للاتفاقيات المبرمة بين الفلسطينيين وإسرائيل، دون أن يمنعه ذلك من التوقيع كشاهد على عقد زواج ياسر عرفات، ويطلق عليه هذا الأخير لقب «حكيم الثورة». أيها الراحل تمهل فوالله إن فراقك لهو أكثر مرارة من طعم العلقم... لم لا تتمهل وأنت تترجل عن حصانك الذي ما خذلك أبداً؟ وكانت وجهته دوماً فلسطين بفقرائها الذين أحبوك... جورج حبش الكبير في اسمه... الكبير في مكانته... الكبير في ما قدم لوطنه وشعبه... الكبير وصاحب القامة العالية بين أقرانه من الزعماء... جورج حبش.. ما أحوج شعبك إليك الآن وهم شيع وأحزاب متناحرة. جورج حبش لم تركت رفاقك وهم يتلمسون الطريق نحو إعادة مجد جبهتهم التي هزت الدنيا بنضالها وملاحقتها للعدو في كل مكان؟ بهذه العبارات نعى الكاتب الفلسطيني زياد أبوشاويش الراحل جورج حبش الذي فارق الحياة أول أمس السبت في أحد مستشفيات العاصمة الأردنية عمان. هذه المدينة التي حل بها مستهل عقد الخمسينيات من القرن الماضي، متأبطا شهادة تخرجه كطبيب أطفال، ويؤسس عيادة مشتركة مع رفيقه الدكتور وديع حداد، فكانت غطاء لعملهما السياسي، خصوصا في المخيمات الفلسطينية. وكانت هذه العيادة مركزاً للتعبئة السياسية والتوعية ونشر أفكار حركة القوميين العرب. لم يكن حلول جورج حبش بالعاصمة الأردنية هربا مباشرا من عصابات الحركة الصهيونية، بل كانت هجرته الأولى نحو العاصمة اللبنانية بيروت طلبا للطب، هناك حيث ولج الجامعة الأمريكية سنة 1944، وهناك حيث سيتلقى الخبر الصاعقة، بإصدار القرار الأممي القاضي بتقسيم أرض فلسطين بين اليهود والفلسطينيين، ليقرر في يونيو 1948، وفي عز حركة الهجرة الفلسطينية تحت ضربات الإرهاب الصهيوني، أن يعود إلى بلدة اللد التي رأى فيها النور سنة 1925، مفاجئا أهله ووالديه بقرار هو أقرب إلى الانتحار. عمل كطبيب متدرب في مستشفى البلدة، محاولا معالجة جراح بني جلدته، لكنه عجز عن بلسمة جراح أخته الكبرى التي توفيت تاركة خلفها أبناءها الستة، وتضطر أسرتها إلى دفنها جوار بيت العائلة لاستحالة نقل جثمانها إلى المقبرة. بدأت رحلة عائلة جورج في الترحال بين اللد ويافا ورام الله وعمان... هناك حيث عمل طبيبا في مخيمات الأردن. وشكل رفقة زملائه مجموعة عمل طلابي، توجت بتأسيس «كتائب الفداء العربي» التي كان هدفها ضرب المصالح الإنجليزية والصهيونية والعملاء المتعاونين معهما. لكن الحركة لم تحقق طموحات هذا الثائر، فبدأ يفكر بكيان سياسي يسعى إلى تحرير فلسطين، لينتهي إلى تأسيس «حركة القوميين العرب» التي شكلت نواة للعديد من الحركات القومية العربية، ولعبت دورا مؤثرا في تأجيج المشاعر الوطنية لدى الشعوب العربية. فانتشر هذا المد الوطني الاشتراكي في الوطن العربي على يديه وعلى أيدي أتباعه. وكان من إنجازاته قيام دول عربية تؤمن بهذا الفكر في العراق وسوريا واليمن، زودت حركته بالدعم اللازم ليهاجم إسرائيل. قيام الضباط الأحرار في مصر بإعلان الثورة على النظام الملكي سنة 1952، وبدء المد القومي بالتنامي بدعم من الرئيس عبد الناصر، وصولاً إلى إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، كل هذا أعطى زخماً كبيراً لحركة القوميين العرب، حيث كانت هناك روابط متينة وعلاقة متميزة للراحل جورج حبش مع الرئيس عبد الناص، مما أرغمه على دفع ثمن الصراع الناصري-البعثي، ليصدر في حقه حكم بالإعدام من طرف بعثيي سوريا، قضى بسببه سنة من الاعتقال (1968) لم يخلصه منها سوى عمل رفاقه المسلح، حيث أخرجوه من السجن السوري بالقوة. كانت بداية عقد الستينيات من المراحل بالغة الصعوبة والقاسية في نضاله السياسي، إذ تميزت بطابعها السري، نتيجة اشتداد حملات المطاردة والملاحقة لاعتقاله، وترافق ذلك مع بداية حياته الزوجية، حيث تزوج في العام 1961 بفتاة مقدسية هي هيلدا حبش، التي ستمنحه بنتيه الوحيدتين: ميساء الطبيبة ولمى المهندسة الكيماوية؛ مما اضطره عام 1964 إلى الانتقال سراً من دمشق إلى بيروت ومواصلة نضاله من هناك. فترة الخمس سنوات التي قضاها «الرفيق» حبش في عمان لم تكن للاستجمام والتألق المهني، بل ربط خلالها علاقات قوية بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وبالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والعقيد معمر القذافي والرئيس فيدل كاسترو، إضافة إلى القيادات في اليمن الجنوبي السابق... ولم تكن مقاومة الاحتلال الصهيوني تختلف لديه كثيرا عن مقاومة المد الليبرالي الإمبريالي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكان تأسيسه للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كرد فعل على نكسة العرب أمام الجيوش الإسرائيلية عام 1967، فكانت الهزيمة سبباً في التحول الإيديولوجي من حركة قوميين عرب إلى حزب ماركسي لينيني. وبدأ الإعداد الجدي للكفاح المسلح، حيث سطع اسم جورج حبش في العالم إثر قيام «الجبهة الشعبية» بخطف طائرات واقتيادها نحو مطار أردني مهجور في الصحراء وتفجيرها في عام 1970، بعد إخلائها من ركابها المدنيين، وهو ما اعتبر يومها الشرارة التي فجرت القتال بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، وأدت إلى إخراجها من الأردن. كما قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالعديد من الهجمات ضد المصالح الأمريكية، كتفجير أنابيب النفط وزرع الألغام البحرية لشل خطوط الملاحة البحرية. فيما كان أتباع الجبهة يستفيدون من آلاف المنح الدراسية في دول المعسكر الشرقي. ولد جورج حبش لعائلة من الروم الأرثودوكس، وترعرع وسط سبعة أفراد لأسرة ميسورة تمتلك أراضي زراعية ومحلات تجارية لوالد تاجر. أكمل دراسته الابتدائية بمدارس اللد، والثانوية بمدارس يافا والقدس، وامتهن التدريس في مدارسهما وهو لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر، قبل أن يلتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، ويعيش حياته الجامعية جامعا بين الطب وهواياته الفنية والرياضية. فكانت المرحلة الجامعية فرصة لتشكل انتمائه وفكره القومي، متأثرا بأستاذه الفلسطيني قسطنطين زريق الذي كان الأب الروحي للفكر القومي آنذاك. فعاد من قلب المؤسسة الأمريكية مؤمنا بالهوية العربية وحتمية الانتصار على المشروع الصهيوني فوق الأراضي العربية. وبينما كان الراحل ياسر عرفات يقول إن اتفاق أوسلو هو الممكن، كان رد جورج حبش بأن الثورة الفلسطينية قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن، فكان بذلك من ألد المعارضين للاتفاقيات المبرمة بين الفلسطينيين وإسرائيل، دون أن يمنعه ذلك من التوقيع كشاهد على عقد زواج ياسر عرفات، ويطلق عليه هذا الأخير لقب «حكيم الثورة». ظل الدكتور جورج حبش يشغل منصب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى غاية سنة 2000، حيث ترك موقعه لاشتداد مرضه، ليخلفه فيه مصطفى الزبري المعروف بأبو علي مصطفى، هذا الأخير سرعان ما سيذهب ضحية اغتيال إسرائيلي في قلب رام الله، لترد الجبهة باغتيال أحد الوزراء الإسرائيليين المتطرفين. وعندما كانت جبهة البوليساريو تعقد مؤتمرها الأخير بمنطقة تيفاريتي، كانت الدبلوماسية المغربية تهتز لورود كلمة مؤيدة للحركة الانفصالية باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ وهو الموقف الذي سرعان ما تبرأت منه سلطة محمود عباس. وفي أحد البيانات السياسية التي أصدرتها هيئات سياسية مغربية منذ سنوات بمناسبة يوم الأرض، انزعج الرفاق في الجبهة لورود اسم جورج حبش ضمن «الشهداء»، مما يعكس العلاقة الملتبسة التي ظل الراحل يحتفظ بها مع المملكة. لكن «ورغم علقم فراقك الذي لا يحتمل، نقول لك ونحن الذين عرفناك جمل المحامل والصبور على المكاره والمبلسم لجراح شعبك وجبهتك، نقول باق أنت في قلوبنا وعقولنا، ولن ننتحب، بل سنضع اسمك الكريم شمعة تضيء ليل الغارمين المتعبين وكل من آمن بفكرك، ولن يغيب الرجل الذي قدم كل عمره لنا، وعلمنا كيف نحمل الراية دون أن تهتز أيادينا»، يقول الكاتب الفلسطيني زياد أبوشاويش.