تخوض النقابة الوطنية للتعليم العالي، اليوم وغدا إضرابا وطنيا قررته لجنتها الإدارية، بعد أن استنفذت كل الوسائل الأخرى لإسماع صوت الأساتذة الباحثين الذين ما فتئوا يدقون ناقوس الخظر جراء الحالة المأساوية التي آلت إليها أوضاع الجامعة، والتي أدت إلى بروز بعض الظواهر التي كانت إلى الأمس القريب غريبة عن الحرم الجامعي ومنها تفشي العنف الذي طال الأساتذة والطلبة معا، وجرد الجامعة من مكانتها الاجتماعية والثقافيية والعلمية باعتبارها فضاء للمعرفة والتربية على احترام التعدد والإيمان بالاختلاف وفضيلة الحوار. وعندما يضرب رجال التعليم العالي فإن السيل قد بلغ الزبى، ذلك أن النقابة الوطنية للتعليم العالي عودتنا أنها لا تقدم على خطوة كهذه إلا بعد أن يتبين لها أن الحوار مع الوزارة الوصية أصبح يراود مكانه، وأنه لن يؤدي إلى نتيجة تذكر. والذي يتأمل أوضاع الجامعة المغربية اليوم يصل دون شك إلى أن المسألة لا تتعلق فقط بمطالب نقابية سبق أن توصلت بصددها النقابة والوزارة إلى حلول بقيت حبرا على ورق، بل تطال كيان الجامعة في هويتها وتجردها من رسالتها التي ظلت تقوم بها منذ الاستقلال إلى الآن. إن وزير التعليم العالي الحالي عوض أن يعمل على ترسيخ مبدأ الشراكة الذي جاء به الميثاق الوطني للتربية والتعليم وكرسه الإصلاح الجامعي اختار الهروب إلى الأمام عندما دعا إلى فتح الباب أمام الرأسمال الأجنبي كي يستثمر في عقول المغاربة. ومن ثم فإن الوزير قد انحاز إلى اختيار يزيد التعليم العالي تشتتا ويعرض التعليم العالي في سوق البورصة تكون الغلبة فيه لمن يدفع أكثر . هذا يعني أن توحيد التعليم ومجانيته أصبحا من الماضي، مما يخلق جوا من انعدام الثقة في الجامعة المغربية ويؤدي إلى خلل في تكافؤ الفرص بين المتعلمين، والأكثر من هذا وذاك فإن هذا الاختيار يعمق الشرخ بين "تعليم نخبوي" تتوفر له كل شروط النجاح، و"تعليم عمومي" توضع في وجهه كل العراقيل التي تحول دون أن يودي مهمته على الوجه الأكمل. من هنا جاء السيد الحسن الداودي كي يبشر المغاربة بتعليم طبقي يتماشى مع سياسة الحكومة التي ينتمي إليها. سياسة إفقار الفقير وإغناء الغني. هناك من يرى في موقف النقابة الوطنية للتعليم العالي من خلق "جامعات خاصة" عزفا منفردا، لأن السياق الحالي لم يعد يتحمل هذه الغيرة الزائدة على الجامعة المغربية. ولكن أدبيات النقابة تعتمد منطقا بسيطا ومعقولا، مفاده أن علينا أولا أن نؤهل الجامعة المغربية لتصمد في وجه الزحف الرأسمالي على التعليم العالي، مما يوهلها لجو المنافسة الذي سيؤدي إليه فتح جامعات دولية. ولكي تتأهل الجامعة المغربية لتقوم بهذا الدور، عليها أن توفر للأستاذ والطالب معا نفس الشروط التي توفرها الجامعة الخاصة. وواقع الجامعة المغربية اليوم يشير إلى أنها تعرف انتكاسة حقيقية على جميع المستويات، على الرغم من محاولات الإصلاح المتكررة. والسبب في ذلك راجع إلى أن تلك المحاولات المتكررة لإصلاح التعليم العالي ببلادنا لم تنبع من إرادة سياسية حقيقة تضع الجامعة في المكانة التي تستحقها باعتبارها رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن ثم ظلت حكومة السيد بنكيران تنظر إليها على أنها عبء مالي على الدولة. في حين أن كل إصلاح للتعليم العالي له كلفته المادية باعتباره استثمارا حقيقيا في العنصر البشري. ومن هنا بدا واضحا أن أي كلام يقوله وزير التعليم العالي حول تطوير الجامعة المغربية وتقدمها هو شعارات جوفاء تجعل الواقع لا يرتفع. لا يمكن للجامعة المغربية أن تحتل مكانتها بين جامعات العالم إلا إذا وجدت حلولا لبعض المعضلات التي رافقتها منذ سنين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر معضلة الاكتظاظ، فالأستاذ بالجامعة المغربية ما زال يلقي دروسا أما أكثر من خمسمائة كالبة وطالبا دفعة واحدة، وما يزال يصحح أكثر من ألفي نسخة من أوراق الامتحانات، وما زال يجري الأعمال التطبيقية والتوجيهية لعدد يستحيل معه التواصل المباشر مع الطلبة. ولا يمكن يمكن للجامعة المغربية أن تحتل مكانتها بين جامعات العالم إلا إذا وفرت للأستاذ شروط البحث العلمي. والحال أن أساتذة التعليم العالي بالمغرب ينفقون من أجورهم الخاصة كي ينجزوا أبحاثا، ونحن من الدول القليلة في العالم التي تفرض ضريبة عن البحث العلمي. لا بد هنا من الإشارة إلى أن الأستاذ المغربي الباحث يعد على المستوى العالمي من أكفأ الباحثين، ولا أدل على ذلك أن الذين أتيح لهم العمل في ظروف سليمة أغنوا البحث العلمي بأبحاث أصبحت مراجع أساسية في تخصصها. وأخيرا فإن الجامعة المغربية بحاجة إلى تدبير جيد لشؤونها، وإلى دمقرطة حقيقية لتسييرها وإلى استقلالية كاملة تجعلها بمنأى عن تقلبات أمزجة الوزراء ورؤساء الجامعات. ذلك أن الفساد الذي طال كل شيء في الحياة العامة ببلادنا بدأ يتسرب شيئا فشيئا إلى الجامعة المغربية. وهناك اليوم أشخاص على رأس بعض الجامات المغربية من الذين جاءت بهم رياح السياسة المتقلبة يعبثون بمستقبل الأجيال، كما هو الشأن في مراكس ومكناس وغيرهما. وعلى الرغم من الاحتجاجات المتواليىة التي نظمها الأساتذة الباحثون بهاتين المدينتين الجامعيتين فإن الوزير الوصي على التعليم العالي ظل مكتوف اليدين ولم يستطع التدخل من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. عندما تقرر إذن النقابة الوطنية للتعليم العالي خوض إضراب لمدة يومين فإنها تلفت الانتباه إلى ما يتهدد الجامعة من أخطار، أمام سياسة الهروب إلى الأمام التي تنهجها الوزارة الوطية التي اصيح شعارها "كم حاجة قضيناها بتركها": الجامعة العمومية تعيش مشاكل، لا حاجة إلى البحث عن حلول، ففي ذلك تعب كبير، الحل هو أن نستورد تعليما جامعيا جاهزا لمن يستطيع أن يدفع، ومن لم يستطع، عليه أن يتحمل زحام الكليات ذات الاستقطاب المفتوح، ففي ذلك مبعث على ترك الجامعة نهائيا... إنه البحث عن الحلول السهلة. لم تصم وزارة التعليم العالي آذانها على الوضعية المزرية التي آلت إليها الجامعة المغربية فقط، ولكنها تخلت عن تعهدات واتفاقيات سبق أن توصلت إليها مع النقابة الوطنية للتعليم العالي، بل إنها تعمل على الإجهاز على ما أصبح يعتبر مكاسبا انتزعها الآساتذة الباحثون بفضل نضالهم الطويل، ومن ذلك تجميد ترقية الأساتذة العادية منذ 2010، وعدم إخراج الاتفاق الذي تم النوصل إليه والقاضي بترقي الأساتذة المؤهلين إلى أساتذة التعليم العالي، والسكوت عن الترقية إلى الدرجة دال، وعدم تصفية الملفات العالقة ومنها ملفات الأساتذة حاملي الدكتوراه الفرنسية، وإعادة النظر في القانون الأساسي للأساتذة الباحثين وغير ذلك من المطالب التي أعلن الوزير في أكثر من مناسبة أن اتفاقا حصل بخصوصها دون أن ترى النور لحد الآن، على الرغم من أن النقابة الوطنية للتعليم العالي قد منحت شهرا كاملا للوزير كي يفي بالتزاماته أمام الأساتذة الباحثين.