هذه الورقة هي اعادة صياغة لمجموعة من الافكار التي انتبهت الى العنف في مجالات متعددة ، في خلفياته النفسية والاجتماعية فالاقتصادية ..استرجاع لمقولات متعددة وعلاقة كل هذا بالفضاء الجامعي المفروض أن يمهر بثقافة الاختلاف والحوار .. تشهد بعض الجامعات المغربية، أحيانا، انتشار ظاهرة العنف التي قد تمس بالحق في الحياة (حالة الطالب الحسناوي رحمه الله)! فهل يصح أن ينتقل الحق في الاختلاف من الصراع إلى الموت ( نقيض الحق في الحياة)؟! و هل يعقل أن تتحول الجامعة من فضاء للمعرفة و التواصل و الاختلاف إلى حلبة لاستعراض القوة و قتل الآخر؟! فعلى خلاف العنف و المال. .تتميز المعرفة بأنها النوعية العالية للسلطة (بما تعنيه من قوة ومن قدرة على التأثير)، فلماذا يترك التلميذ أو الطالب هذا المصدر (للتفوق و الإقناع) و يبحث عن مصادر تنتصر لأطروحة - البشر قتلة بطبعهم - ( Robert ANDREY).؟ هل نجد الإجابة في الطالب نفسه أم في الجامعة أم في الدولة أم في السياق الاجتماعي و الثقافي و السياسي أم في جبروت النظام الرأسمالي؟ أليس العنف في المدرسة أو الجامعة قضية دولة أولا؟ في نظرنا المتواضع، فإن العنف، بصفة عامة، و في المدرسة و الجامعة ، خاصة، يعتبر قضية دولة (بما تمارسه من وظائف)؛ و في ما يلي بعض الحجج المؤيدة لهذه الدعوى: 1- الدولة و احتكار العنف المشروع: حسب علم الاجتماع السياسي إن الحياة الاجتماعية لا تكون ممكنة من دون أجوبة على ثلاث ضرورات، غير قابلة للاختزال، و هي: تبادل الخيرات، التي بفضلها سيتم إشباع الحاجات المادية للأفراد ؛ و « تبادل الإشارات» لتحقيق التفاهم المتبادل و السيطرة على قضية الإكراه : عبر تهميش العنف الجسدي و إقامة نظام حقوقي فعلي .(فيليب برو: علم الاجتماع السياسي. ) تحيلنا هذه الضرورات الثلاث ، بالنسبة لموضوعنا، إلى وجود علاقة ثلاثية الأطراف تضم: التلميذ / الطالب ، و هو المتلقي و المشارك في إنتاج المعرفة ، والأستاذ، و هو المصاحب بالمعنى اليوناني للبيداغوجي، والإدارة، لتي تمارس الضبط/ التنظيم من أجل الاستقرار و التوازن. و هي تؤدي وظائفها باسم الدولة باعتبارها - أداة حكم تحتكر استخدام القوة في إقليم محدد و تسيطر على شعب محدد - . حسب هذا التعريف فإن الدولة تحتكر - العنف المشروع - (M. WEBER)، إلى جانب خصائص أخرى تميزها: - عقلنة القانون بما تعنيه تخصص السلطتين التشريعية و القضائية؛ - إنشاء شرطة لحماية أمن الأفراد و تأمين النظام العام؛ - عقلنة إدارية، مبنية على أنظمة واضحة تسمح لها بالتدخل في شتى الميادين؛ - امتلاك الدولة لقوة عسكرية دائمة تقريبا. لنخلص إلى أن منطق الدولة يقيد منطق الفرد الذي لا يمكنه اللجوء إلى استعمال العنف الذي تحتكره الدولة حصريا ، عبر مؤسسات يمنحها القانون هذا الاختصاص ، و تحث مراقبة القاضي الساهر على احترام الشرعية. مما يقودنا إلى طرح الأسئلة التالية : ألسنا في حاجة إلى دراسة علمية ، يسهر عليها أساتذة علم الاجتماع، تبحث في تمثلات التلاميذ و الطلبة للإدارة و من خلالها للدولة ؟ مما من شأنه ، في نظرنا، تمكين صانعي السياسات من فهم المتلقي لأي سياسة و لأي تدخل . فمثلا : هل يمكن للمقاربة الأمنية أن تحد من تفشي ظاهرة العنف؟ أم نحتاج إلى منطق «تواصل القابلية»؟ 2 - الدولة و الضبط : يستعمل مفهوم الضبط في حقول علمية متعددة (علم التحكم، الاتصالات، الاقتصاد)، و دون الدخول في التفاصيل نوظف التعريف الإجرائي التالي: « تقييد الخيار (الخاص) بفرض قواعد ( عامة)»؛ و ذلك من أجل غايات و هي، بالخصوص، الاستقرار؛ و التوازن. عبر القانون كوسيلة تقتضي ، حسب بعض الدراسات ((HIRSHI ، وجود أربعة أنواع من الروابط التي تصل بين الناس و المجتمع و أنماط السلوك الملتزمة بالقانون: أ- التعلق؛ ب- الالتزام؛ ج- الانخراط؛ د- الاعتقاد. هنا كذلك نطرح السؤال التالي: هل نتوفر على دراسات علمية دقيقة تتناول هذه الأنماط من السلوك عند المغاربة، عامة، و الشباب ، خاصة؟ مثلا: هل هناك اعتقاد راسخ بسمو القانون و سيادته؟ و في إطار عملية الضبط تطرح إشكالية ذات أهمية ، و هي : لمن الأولوية : منطق الحرية أم هاجس النظام العام؟ 3- السياسة التعليمية: يقع على عاتق الحكومة وضع سياسات عمومية لترسيخ قيم و أنماط سلوك تعطي الأولوية للحب و ليس للبغضاء و الكراهية ، و في هذا الصدد يتم التركيز على ثلاث مقاربات: - تربوية : يتم تصريفها عمليا عبر مدخلين: - المناهج و الكتب المدرسية التي ستتضمن محتوياتها نشر قيم التسامح، التعاون، العيش المشترك ، الحوار، قبول الاختلاف، الحقوق و الواجبات (...). - الحياة المدرسية و الأنشطة الموازية عبر إحداث مراكز الاستماع، والأندية ، و تشجيع التربية البدنية و الرياضة المدرسية و الجامعية ، و المسرح الجامعي ، و المسابقات الثقافية (...) و تذكرنا هذه المقاربة بإشكالية العلاقة بين التربية و السياسة، خاصة المكانة التي خص بها أفلاطون التربية في كتاب « الجمهورية» و الترتيب الذي وضعه: التربية البدنية ؛ التربية الموسيقية (ضمان التوازن في النفوس)؛ الديالكتيك (الجدل و فن الحوار و المناقشة) و أخيرا الرياضيات (التجريد). - قانونية: في نظري يتعين العمل على تجاوز المفهوم التقليدي للقانون بربطه بالجزاء و العمل على البحث في المرودية الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية له. - أمنية : تأمين الفضاء المدرسي، وترسيخ قيم السلوك المدني و نبذ العنف أيا كانت صوره. و هنا كذلك يتعين العمل على تجاوز المفهوم الضيق للأمن/ الجيش و الشرطة و ربطه بأبعاده الشاملة ، و خاصة الأمن الاقتصادي و غرس الأمل في النفوس، و في هذا الصدد يؤكد Harold J LASKY في كتاب : « الحرية في الدولة الحديثة « (1930) على حاجة الحرية إلى اقتصاد متوسع كشرط أساسي، فحينما نوفر هذا الشرط أحس الناس بأن الأمل موجود أمامهم ، و « الأمل ربما كان أهم شرط حيوي لاحترام القانون». فلماذا نقارن أحيانا بين مستوى التعليم في الستينيات و السبعينيات ومستواه اليوم ؟ لأن الفرق ، في نظري، يكمن في أن في تلك السنوات كان التلميذ ،و الطالب، يعرف ماذا ينتظره من آفاق لا توفرها إلا المدرسة ، فهل السياسات الاقتصادية ، قبل التعليمية، تضمن هذا الأمل للشباب المغربي اليوم؟ و هل لا زالت المدرسة/ و الجامعة مصدرا للارتقاء الاجتماعي؟ و بصدد هذه المقاربات (التربوية، القانونية و الأمنية) تطرح أسئلة عديدة حول الإجراءات العملية لتنزيلها نورد من بينها على سبيل المثال لا الحصر: - هل القوانين تلعب دورها الزجري في الحد من ظاهرة الغش، و ما قد يرافقها من عنف و تهديد في مواجهة الأستاذ؟ و هل القوانين الداخلية للمؤسسات تحوز الرضى و تضمن السير العادي للدراسة؟ - هل تمركز القوة الأمنية أمام المؤسسات كفيل بضمان الأمن؟ و عليه، يبرز في نظري العمل على تكثيف الجهود ، و استغلال جميع الإمكانيات الكفيلة بضمان النظام العام في إطار الحفاظ على الحقوق و الحريات، عبر التدابير الآتية (أحيل بالخصوص إلى دفاتر التربية و التكوين العدد 5) : - التربية على القيم : خاصة بتحويلها إلى اقتناع ، التزام و ممارسة. - تنمية السلوك المدني: بأبعاده : - التربوية المتعلقة بالتنشئة؛ - الاجتماعية المنظمة للحياة العامة؛ - القانونية المرتكزة على احترام القوانين و حقوق الإنسان. - التربية على حقوق الإنسان و المواطنة: عبر ترسيخ سيادة القانون و ثنائية الحق و الواجب (...) لكن في الواقع نشهد تكاثف مجموعة من الحدود من شأنها تقييد القدرة على الحد من ظاهرة العنف، أو على الأقل التخفيف من حدتها، مما يضع هذه الإشكالية في إطار واسع يتجاوز ما هو تقني/ أمني/ سياسي، نورد من بينها: 1- المفارقة بين الخطاب (يطبعه التضخم) و الممارسة (تطبعها الندرة)؛ و نأخذ كمثال على ذلك علاقة نص الدستور المغربي الذي يقول ب» الحق في: (...) الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة(...) ( الفصل 31)، و تفعيله على مستوى الممارسة. فكيف نستطيع أن نقنع المتلقي لهذا النص بصدقية أسمى قانون في الدولة؟ و ما قد يترتب عن ذلك من نتائج قد تمتد لمصداقية كل ما يصدر عن الفاعلين السياسيين. 2- معيقات أمام سيادة العقلانية و التفكير النقدي: و من تجلياتها اعتماد بعض الكليات، ذات الاستقطاب الواسع، نظام الأسئلة QCM في الامتحانات ( أو ما أسميه - من خلال التجربة التي عشتها شخصيا - بمن سيربح 20 / 20 : تقدير إجابتين و الاتصال بصديق (ة) أو بالجمهور (الطابور الذي ينتظر بجانب أسوار الكليات على مرأى الجميع)، و هو نظام يقوم على ترسيخ الحفظ والاستظهار والتكرار والتلخيص و الغش في علاقة مع استعمال القوة من أجل الوصول على هذه الغاية. 3- مجتمع الشبكات و تعدد مصادر المعلومة و تضاربها و صعوبة الرقابة ، مما قد يؤذي إلى» نهاية» الأستاذ مصدر المعلومة الوحيد و «نهاية» الكتاب المدرسي وحصر وظيفتهما في الامتحان ( معلومة من أجل غاية و ليست غاية في حد ذاتها)، و إذا أخذنا بالاعتبار علاقة الامتحان بالرسوب ،الذي قد يعتبر عقوبة في حق غير الناجح، فإن الأستاذ ينظر إليه ليس باعتباره «رجل علم» و «مصاحب» بل «معاقب» مع ما يحمله ذلك من توتر في العلاقة بين الطرفين. 4 - الحدود الثقافية : على هذا المستوى نذهب إلى أن العنف في المدرسة أ و في الجامعة قد تكون له أبعاد ثقافية ؛ سواء تعلق الأمر بغياب ثقافة المشاركة الضرورية في الدولة المدنية و تعويضها بثقافة الخضوع و الثقافة الرعوية (منطق الرعايا و ليس المواطنة)؛ أو على مستوى مفهوم الدولة في الثقافة العربية و التي تتميز عن الدولة الوطنية؛ فحسب دراسة للمرحوم محمد عابد الجابري نجد عند ابن خلدون المفاهيم التالية: « غلبة المدافع و الممانع؛ الافتراس؛ الاستطالة؛ الاستيلاء على الملك و انتزاعه؛ استبداد صاحب الدولة على قومه؛ الانفراد بالمجد؛ كبحهم من التطاول؛ جدع أنوف العصبيات و قرع عصبيتهم... « ، و بالمقابل نجد في الدولة الوطنية مفاهيم من قبيل: « الحقوق و الواجبات؛ الحرية؛ المسؤولية؛ العدل؛ القانون؛ الفرد؛ الشخص؛ الحكومة و الانتخاب...». 5 - الانخراط في منظومة الليبرالية بما تتميز به من طابع فائق استهلاكي ولتبضيع معمم للأشياء الخدمات، جعلت التربية - حسب Ricardo PETRELLA - رهينة ل: - تكوين «المورد البشري»، وهو كغيره من الموارد المادية وغير المادية يعتبر بضاعة اقتصادية. - التربية أصبحت بضاعة تباع و تشترى: - المقاولة التربوية -. - التربية تقدم كأداة مفتاح لحماية كل فرد، وفي نفس الوقت كل بلد في عصر التنافسية العالمية، وهذا يحولها إلى «رابطة» تنمي ثقافة الحرب (تكريس تفوق الذات) أكثر منها ثقافة الحياة (العيش بشكل جماعي). و ختاما إذا كان مفهوم الأزمة (مثال العنف في المدرسة و الجامعة) عند اليونان يعني «القرار الحاسم» فإن الوقائع الحالية لا بد أن تدفع إلى مساءلة صانعي السياسات في المغرب حول ما هي القرارات القادرة على ترسيخ فكرة الجامعة في النفوس، بما تعنيه من أولوية للمعرفة ؟ * أستاذ القانون العام