لعب الرئيس الفلسطيني محمود عباس كل أوراقه دفعة واحدة بدلا من الحفاظ على سريتها في مسعى محير للوصول إلى هدف إقامة الدولة الفلسطينية وتعزيز شرعيته. ففي الأسابيع القليلة الماضية ، تحول عباس من التصريح بأنه سيتصدى لإسرائيل في الاممالمتحدة كدولة جديدة إلى التهديد بتسليم حكومته لإسرائيل لأنها بلا سلطات. وأذهل عباس واشنطن يوم الأربعاء حتى وهو يواصل محادثات السلام التي تتم برعاية الولاياتالمتحدة بإقامة مصالحة مع حركة حماس الإسلامية التي يعتبرها الغرب منظمة ارهابية. ويقول أنصار عباس (أبو مازن) إن التحركات الفلسطينية تظهر أن عباس لديه خيارات كثيرة، وأنه يعمل على ترتيب أوضاعه بكل براعة. أما منتقدو الرئيس الفلسطيني البالغ من العمر 78 عاما فيقولون إنه منفصل عن الواقع ومشتت الذهن، ويتخبط بحثا عن أفكار. وقال حسام خضر عضو المجلس التشريعي السابق عن حركة فتح التي يتزعمها عباس إن أبو مازن يدرك جيدا أن شرعية النظام السياسي الفلسطيني ككل انتهت، وأن الوضع الفلسطيني كارثي بل وفي أسوأ المراحل على مدى تاريخ القضية الفلسطينية. ومن الواضح أن مسألة الشرعية تقلق عباس. انتخب عباس رئيسا في عام 2005 وانتهت ولايته قبل خمس سنوات لكن الانقسامات الفلسطينية حالت دون إجراء انتخابات جديدة ، وظلت حركة حماس مسيطرة على قطاع غزة بينما ظل عباس يتمتع بقدر محدود من الحكم الذاتي في الضفة الغربيةالمحتلة. ولقي مسعاه العاجل للمصالحة الوطنية المقرر أن تؤدي إلى انتخابات جديدة خلال ستة أشهر، قبولا واسعا في الداخل ويبدو أنه يرمي لاكتساب التفويض الضائع لما قد يأتي بعد المفاوضات الاسرائيلية التي سينتهي أجلها في 29 ابريل الجاري. وقال عباس يوم الثلاثاء إن الانتخابات هي الخيار الفلسطيني من حيث المبدأ سواء نجحت المباحثات أم فشلت، مؤكدا على ضرورة تجديد الشرعية. وأضاف أن الأمر ليس اختيارا بين حماس واسرائيل وأوضح أنه مع المصالحة إذا تم الاتفاق على إجراء الانتخابات، وأن تظل اسرائيل أيضا شريكا في عملية السلام. وشدد على أن الدولة الفلسطينية ذات السيادة لن تتحقق إلا من خلال التفاوض. تجميد ورغم أن عباس يعتقد أن من الممكن التوفيق بين المصالحة ومحادثات السلام، فإن الاسرائيليين والامريكيين لا يعتقدون ذلك. ويسعى عباس لإقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزةوالضفة الغربيةالمحتلة والقدس الشرقية وكلها أراض احتلتها اسرائيل في حرب 1967. وبدأت الجولة الحالية من مفاوضات السلام في يوليوز الماضي على أن تنتهي بعد تسعة أشهر. غير أن الجانبين يؤكدان أن المباحثات فشلت في معالجة القضايا الجوهرية مثل الحدود والترتيبات الأمنية في الوقت الذي أعلنت فيه اسرائيل عن إقامة آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية في أراض محتلة ، واختلف الجانبان على مسألة الاعتراف بيهودية دولة اسرائيل ولم تحرز المساعي الامريكية لمد أجل المحادثات أي تقدم. وجاء اتفاق المصالحة في هذا التوقيت الحساس ليمكن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو من إلقاء اللوم على عباس في فشل المحادثات. وقد حذرت واشنطن من أنها ستعيد النظر في المساعدات التي تقدمها بمئات ملايين الدولارات والتي ساهمت في استمرار السلطة الفلسطينية. ولذلك يبدو أن عباس يجازف مجازفة كبيرة بالسير في طريق المصالحة مع حماس، والتي فشلت مساعي تحقيقها في الماضي. كانت حماس قد فازت في الانتخابات الفلسطينية عام 2006 وبعد عام انتزعت السيطرة على قطاع غزة بعد حرب قصيرة مع حركة فتح التي يدعمها الغرب. ولم تجر انتخابات منذ ذلك الحين وحدث شقاق عميق بين فتح وحماس شهد قيام كل من الجانبين بسجن قياديين من الطرف الآخر. ويوم الخميس الماضي أوضح ياسر عبد ربه نائب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أن اتفاق المصالحة قد لا ينفذ أبدا. وقال لإذاعة فلسطين إنه يجب عدم المبالغة في خطوة المصالحة وإن من الضروري مراقبة تصرفات حركة حماس في كثير من الأمور خلال الأيام والأسابيع المقبلة. حيرة كان إعلان المصالحة هو المرة الثانية خلال شهر التي يفاجئ فيها عباس حلفاءه الأمريكيين ، وذلك بعد توقيعه المفاجئ على 15 اتفاقية دولية في خطوة ترمي إلى تعزيز مساعي إقامة الدولة المستقلة. وقال الزعيم الفلسطيني إنه اضطر لاتخاذ هذه الخطوة من جانب واحد لأن إسرائيل لم تحترم تعهداتها ، وهو موقف بدا في ذلك الوقت أن واشنطن تتقبله. ويقول عباس إن هناك نحو 50 اتفاقية أخرى لم يوقع عليها، من بينها طلب الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي والتي قد يلجأ اليها الفلسطينيون لمقاضاة اسرائيل على احتلالها العسكري الطويل لأراضيهم. وبعد هذه الخطوة حير عباس العدو والصديق على السواء هذا الاسبوع عندما جدد تهديده القديم بالتخلي عن السلطات المحدودة التي تتمتع بها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربيةالمحتلة ،وتسليمها لإسرائيل حتى تتحمل «المسؤولية الكاملة» بما في ذلك الأمن وسداد رواتب العاملين وتمويل المؤسسات. وقال نتنياهو يوم الاثنين «بالأمس تحدث الفلسطينيون عن تفكيك السلطة واليوم يتحدثون عن الوحدة مع حماس. يجب أن يحسموا رأيهم إن كانوا يريدون التفكيك أم التوحيد.» وأضاف «عندما يريدون السلام فليبلغونا.» وبدا عليه أنه يشعر بالانتصار على القيادة الفلسطينية. ويقول منتقدو عباس في الداخل إن تحولاته السياسية تشير إلى أنه ركز سلطات أكثر مما ينبغي في يديه، وأنه بين نارين الان فمن ناحية يرغب في تلميع صورته في الشارع الفلسطيني ومن ناحية أخرى يسعى لإرضاء الولاياتالمتحدة. وقالت ديانا بطو المستشارة السابقة لدائرة المفاوضات الفلسطينية «هو يتصرف مثل شخص لا يملك تفويضا.» وأضافت «فأنت ترى أمورا مثل مبادرات الاممالمتحدة التي كانت ترمي لتعزيز مصداقيته. ثم جاءت المفاوضات التي لم تكن لها مصداقية وليست لها شعبية. حينها وقع الاتفاقات (الدولية) الأخيرة.» وعندما انتهت الجولة السابقة من مباحثات السلام دون نتيجة عام 2010 ، سعى عباس للحصول على العضوية الكاملة في الاممالمتحدة لكنه سرعان ما تراجع عن هذه الحملة عندما اتضح أنه لن يستطيع التغلب على الفيتو الامريكي في مجلس الأمن. وانتهج عباس خطا هجوميا جديدا عام 2012 وفاز بنتيجة ساحقة في تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لتصبح فلسطين دولة تتمتع بوضع المراقب دون العضوية الكاملة ، لكنه لم يواصل السير في هذا الطريق المنفرد وعاد للمفاوضات المباشرة مع اسرائيل. ويصر مسؤولو حركة فتح أنهم يثقون في قرارات الرئيس لصالح القضية الفلسطينية بعد أن قاربت الجولة الجديدة من المفاوضات على الانهيار. وقال عباس زكي المسؤول في حركة فتح لإذاعة فلسطين يوم الثلاثاء الماضي إن للفلسطينيين خياراتهم وأسلحتهم على المستوى الدولي وعلى مستوى ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل. وقال مسؤولون فلسطينيون لرويترز مشترطين عدم الكشف عن هويتهم إنه إذا انهار اتفاق المصالحة مع حماس، فإن عباس يبحث سبل إجراء الانتخابات في غزة عبر الهاتف المحمول أو الانترنت أو قصر الانتخابات على الضفة الغربية لفترة مؤقتة. وقال الوزير السابق غسان الخطيب الاستاذ حاليا بجامعة بيرزيت في الضفة الغربية «إذا فشلوا في إقناع حماس بالانتخابات في الضفة وغزة ، أعتقد أن عليهم إجراء الانتخابات حيثما تكون ممكنة.» اتفاق المصالحة اختبار لعباس وحماس في مواجهة التحديات (أ .ف .ب) يضع اتفاق المصالحة بين حركة حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية الطرفين أمام تحديات كبيرة يتوجب عليهما مواجهتها ب»حكمة» لتشكيل حكومة توافق وطني مقبولة عالميا واسرائيليا، على ما يرى محللون . ويقول ناجي شراب أستاذ الفكر السياسي في جامعة الازهر بغزة «ما دفع الطرفين لاتفاق المصالحة أنه لا خيار لحماس أو السلطة الفلسطينية إلا المصالحة. الرئيس أبو مازن أدرك أن المفاوضات فشلت ويريد أن يكون أكثر قوة في مواجهة اسرائيل، وحماس تريد الخروج من مأزق الضغط المصري من خلال نافذة المصالحة لتحسين علاقتها الاقليمية والعربية ومصر من خلال الشرعية السياسية». وشدد على أن الانقسام «بات يشكل ضررا كبيرا على حماس بعد خسارة الاخوان المسلمين في مصر وصعوبة الوضع المالي لها»، محذرا من أن «كل التوقعات واردة بما فيها التراجع والإخفاق». فيما يعتبر أشرف أبو الهول نائب رئيس تحرير جريدة الاهرام «ان إغلاق مصر للأنفاق (على حدود غزة) والضغط المصري دفع حماس للجلوس على الطاولة وقبول المصالحة، لافتا الى أن مصر «لا تريد ان تقطع حبل العلاقة مع حماس وتطالب بعدم تدخل حماس بالشأن المصري كشرط لتحسين العلاقة». عدنان أبو عامر استاذ السياسة والاعلام في جامعة الأمة بغزة يشير من ناحيته الى أن ابو مازن ذهب الى المصالحة «وهو يعلم أن طريقه غير مفروشة بالورود وقد تكون هناك عقوبات اسرائيلية، في المقابل حماس أحوج ما تكون للمصالحة لإنقاذها من الغرق لتوتر علاقتها مع مصر». ورأى أبو عامر أن «أي انتكاسة للمصالحة عواقبها سيئة على الطرفين». لكن كثيرين من الفلسطينيين يشككون بإمكانية نجاح المصالحة «بسبب التجربة السيئة» في الاتفاقات السابقة وفق مخيمر ابو سعدة أستاذ العلوم السياسية بجامعة الازهر الذي يتوقع «صعوبة» في تنفيذ اتفاق غزة. ويقول أبو الهول أن الاتفاق «هذه المرة قابل للتنفيذ. حماس لن تناور على الوقت لان مصر على اعتاب انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي، ولن تجد حماس منفذا لها إلا بتنفيذ المصالحة». ويعتقد أن علاقة حماس بمصر «ستتحسن كجزء من الكيان السياسي الفلسطيني. ومصر حريصة على التعامل مع حكومة الكفاءات ثم حكومة تفرزها الانتخابات البرلمانية الفلسطينية القادمة، وستنعكس إيجابا على العلاقة مع غزة كجزء من فلسطين». وتشهد العلاقات بين مصر وحماس توترا غير مسبوق منذ عزل الرئيس الاسلامي محمد مرسي، حيث تواجه حماس اتهامات مصرية بارتباطها بنشاط جماعة الاخوان المسلمين. وعبر شراب عن قلقه من «حدوث تقلبات داخلية من قبل المستفيدين من الانقسام تعيق تنفيذ المصالحة لأن مدة ال5 أسابيع لتشكيل الحكومة فترة طويلة تطرح كل الاحتمالات، وإمكانية التدخلات الخارجية الرافضة للمصالحة». وأعلنت الاذاعة العامة الاسرائيلية ان الحكومة الامنية المصغرة التي تضم أهم الوزراء اجتمعت لإجراء «مناقشات عاجلة» حول سلسلة من العقوبات. ورأى المحلل في صحيفة يديعوت احرونوت اليكس فيشمان أن «الكرة في ملعب الولاياتالمتحدة. وما لا يوجد رد امريكي قاس، فإن هذا سيمثل بداية انهيار دبلوماسي سيقود الى اعتراف الغرب بحماس». واعتبر ابو سعدة من جهته أن الرئيس ابو مازن «بحاجة» لمدة الاسابيع الخمسة «لاستكشاف الموقف الاسرائيلي والامريكي من المفاوضات رغم إدراكه باستمرار الاستيطان والاجراءات العدوانية الاسرائيلية». ويقول أبو سعدة «اسرائيل ستنتظر الحكومة القادمة (لترى) هل فيها أشخاص من حماس أم تكنوقراط وهل ستعترف بشروط الرباعية الدولية لتقرر كيفية التعامل معها». وأضاف أن أبو مازن «سيشكل حكومة تقبل شروط الرباعية وتنهي الحصار على غزة لسحب الذرائع من اسرائيل كي لا تفرض اسرائيل عقوبات». وكشف أبو الهول أن «اتصالات وترتيبات غير معلنة جرت بين السلطة الفلسطينية وفتح مع مصر للمصالحة». وتسعى حماس لتحقيق شراكة سياسيةإذ يقول شراب «حماس تستطيع بالمصالحة إعادة نفسها للمنظومة السياسية المقبولة دوليا». وأعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الامريكية جنيفر بساكي أن على اي حكومة فلسطينية أن تلتزم «دون لبس» بمبادئ اللاعنف ووجود دولة اسرائيل. وأضافت أن «غياب الالتزام الواضح بهذه المبادئ يمكن أن يعقد بشكل جدي جهودنا لمواصلة المفاوضات». ويقول شراب إن حماس «باتت تملك رؤية سياسية أعمق وأقرب للبرغماتية السياسية» مشيرا الى نيتها للمشاركة بانتخابات الرئاسة القادمة بالترشيح أو بدعم مرشح، وستتعامل ببرغماتية مع المفاوضات». وشدد عزام الاحمد مسؤول ملف المصالحة في فتح أنه «لا يمكن أن يقبل الطرف الفلسطيني باستئناف المفاوضات دون وضوح كامل بمرجعية وأسس المفاوضات، وفي مقدمتها الحدود والخارطة ووقف الاستيطان». ويعتقد محللون أن شن الطيران الحربي الاسرائيلي غارة على بلدة بيت لاهيا شمال غزة فور إعلان الاتفاق «رسالة» اسرائيلية لرفض المصالحة. ويعتقد شراب أن حماس «لن تخسر كثيرا من المصالحة طالما بقيت بنيتها الامنية والاقتصادية والبيروقراطية في غزة كما أنها ستنأى بنفسها عن وصفها بالإرهاب» لكنه أشار الى «خطر عدم وجود ضمانات» لتنفيذ اتفاق المصالحة . وكانت حماس وفتح توصلتا من قبل لاتفاقات مصالحة عديدة، ولم تنفذ كان أبرزها اتفاق القاهرة برعاية مصر في مايو 2001 واعلان الدوحة في فبراير 2012. وبينما يعتقد بو سعدة أن «العلاقة بين مصر وحماس قد تشهد انفراجة»، لم يستبعد بو عامر أن تشهد «العلاقة بين مصر وحماس شهر عسل كالذي شهدته العلاقات زمن مرسي لكن المصالحة ستنهي الطلاق بين مصر وحماس».