ظلت التفاعلات السياسية التي عرفها الحقل السياسي الإسباني الداخلي خلال عقود النصف الأول من القرن 20 حدثا مغربيا بامتياز، لعل أهمها تلك المرتبطة بثقل مشاكل الجوار وتجذر الروابط الاستعمارية منذ مطلع القرن 15م، ثم استمرار تجدد الأزمات الدورية ذات العمق التاريخي إلى يومنا هذا. ويبدو أن الأمر قد أضحى سمة مميزة لمجمل تحولات العلاقات المغربية الإسبانية لزماننا الراهن، بل ووجدت امتدادات عميقة له داخل الحقل السياسي المغربي من خلال أزمات دورية وتعبيرات متجددة لأوجه التدافع المستدام. ورغم أن حدث وصول الجمهورية الثانية إلى السلطة سنة 1931 يعد شأنا إسبانيا داخليا، فالمؤكد أن ظلاله المغربية تظل قائمة عند كل الباحثين في تحولات خطاب الحركة الوطنية بالشمال وفي مواقفها من إكراهات واقع الضغط الاستعماري. وعموما، يبدو أن الموقف يتجاوز تأثيراته المغربية، بالنظر لارتباطه بمجمل مكونات المشروع الكولونيالي الإسباني للقرنين 19 و20، بما أفرزه من مشاكل داخلية مزمنة أسقطت نظما وأوصلت للسلطة نظما بديلة، سياسيا وثقافيا واجتماعيا، بل وأدت إلى تأجيج التناقضات الداخلية الإسبانية، ودفعها في اتجاه البحث عن مصادر «التنفيس الخارجي «. وبطبيعة الحال، فقد شكل المغرب حضنا جاهزا لاستقبال هذه التناقضات، من خلال تحويله إلى منقذ من تبعات إفلاس المشروع الكولونيالي الإسباني المعاصر. وقد ازداد الأمر حدة، مع تفاقم المشاكل الداخلية المرتبطة بفقدان إسبانيا لآخر مستعمراتها بأمريكا الجنوبية وبالفلبين سنة 1898، الأمر الذي ترسخ مع سلسلة الهزائم التي تكبدها الإسبان أمام المغاربة، في سياق مواجهتهم المفتوحة للمقاومة الريفية الأولى بقيادة الشريف محمد أمزيان خلال مرحلة ما بين سنتي 1909 و1912، ثم للمقاومة الريفية الثانية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي خلال مرحلة ما بين سنتي 1921 و1926. لقد ترتبت عن هذه الهزائم خيبات متواصلة، دفعت بالجنرال بريمو دي ريفيرا، وبدعم مباشر من الملك ألفونسو الثالث عشر، إلى الاستيلاء على السلطة سنة 1923، وترسيخ أركان نظام حكم ديكتاتوري منسجم مع أجواء صعود التيارات الشمولية بأوربا خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. ورغم أن بريمو دي ريفيرا قد سعى إلى تقديم مشروعه الشمولي كبديل عن حالة الاستقطاب السياسي المزمنة التي عاشتها إسبانيا خلال هذه المرحلة، فإن الشعب الإسباني قد وقف ضد هذا المنحى. فازدادت الأوضاع الداخلية احتقانا، خاصة عقب بداية بروز نتائج الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى لسنة 1929 وانعكاساتها السلبية والخطيرة على الأوضاع الداخلية لإسبانيا. وأمام حالة التردي المتواصل، اضطر الملك الإسباني لدفع الجنرال بريمو دي ريفيرا إلى التخلي عن السلطة، مما فتح الباب أمام تنظيم انتخابات حرة أسفرت عن انتصار المعارضة، ثم عن قيام الجمهورية الثانية بإسبانيا سنة 1931. ونظرا لقوة الارتباط بين مسار هذه التحولات وأوضاع المنطقة الخليفية من المغرب، فقد وجدت لها أصداءا مختلفة بتعبيرات عميقة، كما أنها أدت إلى التأثير في خطابات الحركة الوطنية المغربية بالمنطقة المذكورة، وإلى بداية انخراطها في « الشأن الإسباني « بأشكال مؤثرة ودالة، لعل أبرزها تلك المرتبطة بمواقف المغاربة من الحرب الأهلية الإسبانية التي مزقت إسبانيا خلال مرحلة ما بين سنتي 1936 و1939. واعتبارا لعمق هذا الحضور المغربي في « الشأن الإسباني « للمرحلة المذكورة، فقد اهتمت قطاعات واسعة من الباحثين المغاربة المعاصرين بالموضوع، وصدرت أعمال قطاعية متخصصة، وتوثيقية دالة ساهمت في تحويل خبايا الموضوع إلى قضايا متجددة في الذاكرة التاريخية المشتركة لكل من إسبانيا والمغرب، ويمكن أن نستدل بهذا الخصوص بالأعمال التأسيسية لكل من محمد بن عزوز حكيم والمرحوم عبد العزيز خلوق التمسماني وعبد المجيد بن جلون وبوبكر بوهادي وعبد العزيز السعود ومصطفى المرون ... في سياق هذا الاهتمام المتجدد، يندرج صدور كتاب « المغرب والجمهورية الثانية في إسبانيا ( 1931 ? 1936 ) « لمحمد بويقران، خلال سنة 2013، ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، في ما مجموعه 287 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والعمل إضلفة هامة لجهود باحثي مغرب اليوم من أجل إعادة تنظيم الاشتغال حول خبايا الموضوع، من موقع البحث في البيبليوغرافيات وتجديد القراءات، بشكل يعيد تجميع عناصر «الحضور المغربي « داخل الحدث الإسباني من جهة، وفي التأثير في مسارات الحركة الوطنية المغربية من جهة ثانية. وقد حدد الأستاذ محمد بويقران بعضا من معالم هذا البعد، عندما قال في كلمته الافتتاحية : « إن الطابع التراكمي للتجربة التاريخية التي كانت موضوع وكنه العلاقة المغربية الإسبانية يفرض علينا احترام الذاكرة السياسية والاجتماعية المشتركة، ومنه الوقوف على الامتدادات السياسية التي نعيشها اليوم. فالراهن السياسي والعلائقي المشترك لا يمكن فهمه دون استحضار مميزات مرحلة الجمهورية ... خصوصا إذا علمنا أن جوانب مهمة من العلاقة الراهنة بين المغرب وإسبانيا قد رأت النور خلال فترة الثلاثينيات، لما يميزها من إطار واسع من الحرية وأفق النظر الممتد نحو المستقبل ... « ( ص. 11 ). تتوزع مضامين هذه الدراسة بين بابين متكاملين، اهتم المؤلف في أولهما بإبراز مشاكل الجمهورية الثانية المزمنة، وعلى رأسها وضعية المؤسسة العسكرية ونزوعاتها اليمينية الانقلابية المتواصلة. وفي نفس الباب كذلك، توقف المؤلف لتفصيل الحديث عن أداء الحركة الوطنية بالمغرب الخليفي خلال عهد الجمهورية الثانية، وهو الأداء الذي ظل يصطدم بتصلب مواقف الجمهوريين ضد الحق المغربي ودفاعا عن الحلم الاستعماري الإسباني المتجدد. وفي الباب الثاني من الكتاب، انتقل المؤلف للبحث في خبايا مواقف إسبانيا الجمهورية من القضية المغربية، من خلال رصد ملامح السياسة الاستعمارية للجمهورية بالمغرب، وتتبع طرق تدبير هذه الجمهورية لحمايتها الاستعمارية ببلادنا، ثم من خلال توضيح سياقات ضم المنطقة الجنوبية من المغرب إلى الحماية، كتعبير عن التعطش الاستعماري الجمهوري في المغرب. ورغم كل ما يمكن أن يقال عن غياب الاستثمار التشريحي لرصيد المادة الوثائقية الدفينة الموزعة بين مراكز شمال المغرب وإسبانيا من بين مواد هذا العمل، وكذا لغياب نتائج بعض الأعمال المجددة بإسبانيا والمغرب من لائحة البيبليوغرافيا المعتمدة، فالمؤكد أن الكتاب يشكل إضافة هامة لمجال دراسات الحضور الإسباني في المشهد السياسي الوطني لعقود النصف الأول من القرن الماضي. ولا شك أن توسيع دوائر البحث باستثمار رصيد الوثائق المحفوظة لدى الخواص بشمال المغرب ولدى الكثير من المراكز الوثائقية الرسمية الإسبانية، سيقدم الأجوبة الضرورية للكثير من الأسئلة المتناسلة التي لازالت تفرضها قضايا تنكر الجمهوريين الإسبان لقيم العدل والحرية والمساواة في تعاملهم مع القضية المغربية خلال مرحلة حكمهم بإسبانيا خلال ثلاثينيات القرن 20.