يستسهلُ الإعلام، لا سيما الجزائري، تقديمَ أمر الصدامات في غرداية جنوب البلاد على أنها فتنةٌ طائفية قد لا تختلفُ ملامحُها عما هو سائدٌ، وأضحى من عادي اليوميات في مناطق عديدة من العالم العربي. في هذا التبسيط تقدمُ الدولة نفسها بريئةً من إثمِ الشوارع بين إباضيين ومالكيين، بين عرب وأمازيغ، وتدفعُ بحقيقة الصراع إلى شرفاتٍ برّانية لا تعترفُ بلبِّ المعضلة ومسؤولية النظام السياسي الجزائري عن تفاقمها. في تصادمِ المالكيين والإباضيين مذهبياً، أو في تصادم العرب والأمازيغ عرقياً أعراضُ تشققٍ في اللحمة الاجتماعية في الجزائر، أو علاماتُ تمزّقٍ للنسيج الشعبي العام. فوحدةُ الجزائريين على تنوّع مشاربهم وأعراقهم ومذاهبهم وتياراتهم بقيت أساس تشكَل دولة الاستقلال، كما أساس المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. جاء الاستقلالُ جزائرياً وطنياً تتنوع شخوصه بين عرب وأمازيغ، بين إباضيين ومالكيين، بين إسلاميين ويساريين، بين متعرّبين ومتفرنسين... إلخ. في دولة الجزائر المترامية الأطراف، يجري أمر غرداية وكأنه تفصيل أهليّ عابر، كذلك الذي تشهده القرى الريفية الساكنة. تتواترُ أخبار الفتنة، تنتشرُ صور الصدامات، تنقلُ وسائط التواصل الاجتماعي أخباراً مقلقة عن قتلى وجرحى يسقطون، عن هجمات تطالُ البيوت والمتاجر، عن حربِ شوراع بين شبان الجماعتين. لكن الفتنةَ لا تحرّكُ لدى السلطات إلا تدابيرَ بوليسية تأتي متأخرةً، أو أنها، وكما تفيدُ بعض التقارير، تأتي متحيّزة للعرب المالكيين على نحو سافرٍ مقلق. في الجزائر العاصمة، الموسمُ موسم انتخابات، ولا يُراد للحدث في غرداية أن يشوّه ما رسمه القيّمون على حملة التجديد للرئيس بوتفليقة. يمثّل حدث غرداية بأبعاده الحقيقية فضيحة للنظام الحاكم، من حيث عجزه عن تحويل الثروة النفطية الهائلة إلى برنامج تنمية فاعل وناجع وشامل يخلّص البلاد من آفات البطالة والعوز التي تقف حقيقةً وراء الصدامات المذهبية العرقية (رئيس الحملة الانتخابية للرئيس المرشح عبد العزيز بوتفليقة، عبد المالك سلال، زار مدينة غرداية وأعلن أن من أولويات الرئيس إعادة الأمن والاستقرار). لا ننقلُ جديداً في الكلام عن أزمة اقتصادية معيشية في الجزائر. عبّرت التحركات المطلبية والاضرابات القطاعية عن ذلك قبل مدة. لكن تعبيرات الأمر في غرداية تأخذُ شكلاً بشعاً، ذلك أن المطالبة بتوزيع الثروة تستهدفُ معالم البحبوحة التي قد يعتبرها المحتجّون رمزاً لعوزهم وعنواناً لحاجتهم. والبحبوحة في غرداية تظهرُ لدى الميزابيين الذين أحسنوا استثمار ثرواتهم وإدارة أعمالهم بعيداً عن أي تورط مع نظام المنافع المرتبط بالدولة وشبكتها. ويعودُ نجاح الميزابيين أيضاً إلى نظام تكافل داخلي يرعى الثروات داخل مجتمعهم، ما يخصب الإنتاجية ويُبعد أي هدر، ويوفّر تنمية حقيقية أظهرت حجم التفاوت المعيشي مع الآخرين (يعيبُ الميزابيون على خصومهم الاتكالية على الدولة وتخريب ممتلكات خاصة بناها أهل ميزاب معتمدين على أنفسهم على مدار السنين). في السنوات الأخيرة نشطت الفتنة الأهلية بشكلٍ متصاعد مقلق. انفجرت أولى الشرارات الحديثة صيف عام 2008 ثم ربيع عام 2009 ثم أواخر عام 2011 مرورا بصيف 2013 انتهاء بالتطورات الدراماتيكية الخطيرة في الأسابيع الماضية. في كل مرة كانت تسفرُ الصداماتُ عن قتلى وجرحى وأضرار بالممتلكات. وفي كل مرة كانت تتمكّن الوساطات وأصوات الاعتدال من الطرفين من فرض خيار التسوية والصلح والتعايش. لكن الأمور هذه المرة تأخذُ أبعاداً خطيرة، ذلك أنها أكثر دموية وأوسع انتشاراً، كما تنبضُ بما يتجاوزُ الحدود، لا سيما أن الإعلام غير الجزائري العابر للحدود اهتم بالحدث بصفته شرارة خبيثة تعكس ورماً مقلقا داخل المجتمع الجزائري. يروي التاريخُ أن قبائل أمازيغية إباضية نزحت إلى غرداية، أهم مدن وادي ميزاب وعاصمة ولاية غرداية، فشكّل من أصبحوا يسمون بالميزابيين حالة لافتة من حيث تميّزهم الأقلوي عن المذهب المالكي الغالب، ومن حيث تميّزهم بإدارة ذاتية نسبية أيام العثمانيين كما أيام الفرنسيين. قلما اهتم الميزابيون بالسياسة والسلطة رغم أنهم كانوا جزءا من الحراك الوطني ضد الاستعمار. رسموا سيرتهم في دنيا التجارة والأعمال التي امتدت إلى حاضرات الجزائر الأخرى. نحو سكينة المزابيين تكدّست الهجرات من القبائل العربية (لا سيما «الشعانبة» و«المدابيح») فكبرت المدينة وتمددت. في خلفية التعايش، حساسية بين الإباضين والعرب، وصراع طائفي قديم في المدينة يعود إلى أربعة قرون (مؤرخون يتحدثون عن أن الصراع بين قبيلة الشعابنة العربية والإباضيين الأمازيغ بدأ سنة 1722، وأن المعارك كانت تتجدد بين عقد وآخر إلى أن ينجح تدخل أعيان وشيوخ المنطقة من المذهبين في رأب الصدع وتدوير الزوايا وإقامة عهد سلم آخر). لكن التصادمَ المتقطّع عبر التاريخ لم يمنع من تحقيق تعايش مسالم كانت تنظّمها معاهداتُ القبائل بعيدا عن رعاية الدولة. بيد أن تلك الهجرات عززت روح المنافسة على الملكية من جهة، كما روّجت لذلك التوتر بين من يملك ومن لا يملك. ضمن ذلك السياق بات الميزابيون يشعرون بالقلق على سكون خصوصيتهم وأمن ثقافتهم وعادتهم إزاء أغلبية تكبرُ وتختلطُ وتحاصرُ كينونَتهم، وباتت مؤخراً تهددُ مذهبا وعرقا ونمطا وأسلوبا وحضارة تنهلُ عبقها من ماضٍ غابر. الحكايةُ الحقيقية ليست بين المذاهب بل تتمحورُ حول أزمة اقتصادية تأخذ أشكالا مصطنعة لا تعالج داءً ولا تشفي علّة. على أن استقالة الدولة من مسؤولياتها التنموية، وتبرّعها بالمواهب الأمنية، أسسَ لما يشبه حرباً أهلية تطلّ في السنوات الأخيرة وتأخذ أبعاداً دراماتيكية في الأسابيع الأخيرة. أما تقاعسُ الدولة عن حماية الميزابيين، بل وتحيّز أدواتها الأمنية لصالح المالكيين، فقد أدى إلى تراجع الاعتدال لدى الطرفين ورواج خطاب التطرف، ما أفشل كل مساعي الوفاق الكلاسيكية التي كانت تنجح سابقا في إخماد الفتن. في الجزائر من يرى أن أمرَ الفتنة لا يعودُ إلى أجندة سياسية أو مطلبية بل إلى مافيات لها مصالح في زعزعة أمن المنطقة من خلال افتعال الفتنة لتمرير خططها. تكالُ الاتهامات إلى مافيا المخدرات التي تشعلُ الحرائق بين مالكيين وإباضيين كي تمرر أعمالها وتحوّل أنظار أجهزة الأمن عن نشاطاتها. وتؤكد مصادر مختلفة أن ما يجري في غرداية امتداد لسلسلة من السيناريوهات التي تخطط لها جهات نافذة في مافيا التهريب والمخدرات، مستغلة التركيبة الطائفية المختلفة والفوارق العرقية. في شعور الميزابيين بجسامة ما يتعرضون له في بلدهم من قتل وتنكيل واضطهاد، تنشطُ لدى تيارات ميزابية أصواتٌ تطلبُ تدخلاً أمميا وتطالب بتضامن الأمازيغ في العالم مع قضيتهم، فيما تعمل بعض الدوائر على تسويق القضية بصفتها حالة من حالات المعاناة التي يسببها التطرف التكفيري السني الذي تتبرع إيران في إدعاء التصدي له في سوريا كما اليمن ولبنان والعراق..الخ. وإذا ما كان أمر ذلك ليس ظاهرا، وقد يكون مرفوضا من قبل الميزابيين، إلا أنه كان لافتا اهتمام الإعلام الإيراني بما يجري في تلك المنطقة، ليس من زاوية الخبر والإعلام، بل من زاوية ما يسببه الإسلام التكفيري السني من خطرٍ على الأقليات. ما زال بالإمكان خنقُ الفتنة في غرداية. ولئن كانت شرارة الفتنة محليَة محدودة، فإن اندلاعها وسط براكين المنطقة المعدية ينذرُ بانتشار الحريق، كما يمهدُ لتدخلات دولية لم تظهر بوادرها بعد رغم المطالبة بها، وهو أمرٌ يمقته النظام الجزائري ويقلق من احتمالاته. ربما المطلوبُ أن لا تُترك غرداية لمصيرها، وأن يشترك الجزائريون جميعاً في معالجة العلّة وأسبابها الحقيقية المباشرة. وإذا ما كانت الانتخابات تحجبُ الحاجة للعجالة، فإن المنطقَ المذهبي الذي تنتجه المنطقة العربية قد يجدُ له تسويقا مريحا في الحالة الجزائرية يمهدُ لانقسامات جديدة بين مذاهب جديدة (هذه المرة بين السنة والإباضية) قد تمتد شراراتها لتطال مناطق وبلدان جديدة لم تمسّها فتنة.