1. لا أدري، إلى الآن، كيف تستسيغ هذه الآنسة أو السيدة، العاملة بالمكتب الوطني للسكك الحديدية هذه الكلمة الباعثة على الضحك، دون أن تعرف معناها اللغوي الدال على »»عضويتها»« الجسدية، فهي كلمة سوريالية، لأنها مرتبطة عضوياً ب «»كائن»« حديدي يجوب المدن والقرى، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب. فأثناء الانتظار بقاعة المسافرين، يتناهى إلى أسماعنا صوت المذيعة وهي تخبرنا بقرب قدوم القطار القادم من والذاهب إلى، مُنبّهة إيّانا بأن نبتعد عن الرصيف، وبأن الدرجة الأولى توجد في »»مؤخرة»« القطار! وها هو يصل في وقته أو متأخراً كعادته، فنهرع إلى عرباته! أغلبنا إلى الدرجة الثانية وأقلّيتنا المحظوظة إلى الدرجة الأولى، لكن أين توجد هذه الدرجة؟ في »»مؤخرة«« القطار! وعلى أصحابها »»الميامين»« أن يقْطعوا مسافة ليْست بالهيّنة لكيْ يظفروا بمقاعدهم الوتيرة بعيداً عن الحلّوف! فهل ستكون أيها المسافر المفترض من ركاب »»إلى الأمام»« أمْ من الخلف؟ الأمر يتعلق باختيارك أنت الدرجة التي تريد، فهناك في تصوّري ثلاثة مستويات من الركوب: ثمّة مقدمة القطار الأمامية،وثمة »»مؤخرتها»«، و ثمة وسطه عبارة عن معدة طاحنة تهيء فضلاتها للمؤخرة، لكن الدرجة الأولى لا تستقر على حال، فهي إما في المقدمة أو في الوسط أو في المؤخرة، وهذا يعني أن هناك طبقتين في المجتمع: طبقة شعبية متوسطة، وطبقة ميسورة أو شبه ميسورة من كبار الموظفين ورجال الأعمال ممن يفضلون »»المؤخرة»« على المقدمة. لنسأل السّيّد لخليعْ، مدير قطارات المغرب، هل يسمع كلمة مثل »»المؤخرة»« وهي تتكرر في كل المحطات بالمغرب؟ وهل يركب هو القطار مثلنا؟ ربما لتدشين القطارات الجديدة التي يستوردها مكتبه، وبما أننا نسافر كثيراً للسياحة أو لقضاء مصالحنا، في هذه المدينة وفي تلك، فستظل كلمة «»مؤخرة» القطار« لصيقة بآذاننا، وعلينا أن نضحك قليلاً إذا ما سمعناها، وعلى مذيعة المحطات المحترمة هنا وهناك أن تستفسر أحد اللغويّين لكي يصحح لها معنى كلمة »»المؤخرة»« التي يتوفر عليها جلّ ركاب القطار، فالمؤخرة هنا هي المرحاض الذي يوجد بدوره في »»المؤخرة««! إنها اللغة التي تخدع صاحبها وتخدعنا نحن أيضاً. فما معنى »الفيلم الطويل« وهو ليس »»كائناً»« مخلوقاً مثل البشر؟ إنه الفيلم المطوّل لأن مخرجه هو الذي يتحكم في زمنه القصير أو المطول، وهذا خطأ شائع عند المخرجين و »نقاد« السينما الذين تناسلوا حتى صارواأكثر من الأفلام. 2. لا داعي للسخرية أو الاستهزاء من هذه السيدة التي تنطق بهذه الكلمة »»الأخيرة»« بشكل عفويّ وبدون نيّة مُسبقة، فالأمر في غاية البساطة والبراءة، ربما قد تكون ترجمة حرْفية للكلمة الفرنسيةDerri?re.هكذا أظنّ، وإذن، فإنّ الخطأ في النطق العربي، هو نطقٌ عفوي غير قصدي. إن ما يجمعنا، في هذه اللحظة، هو القطار بمختلف فئاتنا الاجتماعية، سواء في مقدمته أو في »»مؤخرته»« أو في وسطه، إذ في نهاية المطاف (مطاف السفر) سيلفظنا من »جسده« الحديديّ، ونجد أنفسنا مشتتين في المحطات التي نقصدها. لقد تساءلتُ غير ما مرّة، وأنا أهمّ بالسفر عبر القطار السريع والبطيء: هل ينتبه المكتب الوطني للسكك الحديدية، عبر مديره الجميل السيد لخليع، إلى هذا الخطأ اللغوي الشائع، بغض النظر عن كونه يضحكني مراراً وتكراراً؟ على السيد لخليع، القابع في كتبه الأنيق كمدير، أن يأخذ من وقته قليلاً ويخرج ويقف إلى جانب المسافرين فوق رصيف محطة «أكدال» وينتظر بدوره قدوم قطاره القادم من والذاهب إلى، لكي يستمع إلى موظفته المحترمة، وهي تنطق بكلمة »»في مؤخرة القطار»«، فبدون »»المؤخرة»« (وهي كلمة ينطق بها الصحفيّون الرياضيّون في الإذاعة والتلفزة وحتى في الصحف اليومية، عندما ينشرون نتاذج المباريات وتراتيبها العامة)، ذلك أنه بدون »»المؤخرة»« سيقع إمساك عن طعام المعدة الطاحنة! 3. إذا لم تخني الذاكرة، فقد أصدر المرحوم السعيد الصديقي (عزيزي) في أواسط السبعينيات جريدة أسبوعية ساخرة سماها »»جحا»« ناطقة بالفصحى وبالدارجة، كانت مختصة برصد المفارقات اللغوية التي يكتبها البعض فوق المحلات التجارية بالدار البيضاء من قبيل »»التغذية من القُنْتْ»« (وهو اسم حانوت بقالة يقع في زاوية ما من الدرب) أو »»النهائي والهبوط قبل الوقوف»« (إشارة إلى تلك الصفيحة الألمنيومية المُثبتة داخل حافلات كازا الكهربائية أيام فرنسا) وغيرها من الأسماء المثيرة. وبقراءة عابرة لهذه الأسماء في جلّ المدن الكبرى، سنجد أن ثمة لغة خاصة بكاتبيها، وهي لغة تحاول أن تكون قريبة من الفصحى، لتجد نفسها غارقة في دارجة مضحكة، والأمثلة عديدة لا أستحضرها الآن. فهل إنّ القطار مقدمتنا أم »»مؤخرتنا««؟ نحن مجرد »فَضَلات« هذا القطار الذي يلفظنا في نهاية السفر.