أعتذر عن ارتباكي: فأنا عادة ما أشعر بالارتباك عندما أكون أمام وردة، فما بالكم عندما أكون بالقرب من حديقة وارفة.. وأصدقكم القول، أنا لا أحتمي ببلاغة الاستعارة لأهرب من واجب التواضع الفعلي، فأنا أشعر بأني صغير دوما أمام شجرة اللوز، وازداد صغرا عندما أكون بالقرب من لبلابة مزهرة!! لهذا أفضح قلبي بأريحية كبيرة لما أكون أمامك ومعك الشاعر الكبير عبد الرفيع الجواهري.. يحلم الشعراء بأن يتحقق لهم، مثل فص محكم في خاتم التأويل ما تحقق للمتنبي، الشاعر الأول. يحلمون بأن ينظر الأعمى إلى كلماتهم. عبد الرفيع جواهري، تحقق له ذلك. كان عبد السلام عامر الفنان /البصير، والملحن / الأعمى، قد نظر إلى راحلة، والقمر الأحمر، وسخرها للعملاقين، الحياني وبلخياط.. ووضعها في خدمة النشيد الجماعي. في هذا الرفيع الأعلى، تربت قلوب مغربية كثيرة، على نشيد العاطفة. الشاعر جواهري الذي كتب الكلمات، قصيدة غنائية، نابتة في حقل التحديث الشعري المغربي، ليس بعيدا عن المجهود الجماعي لإخراج القصيدة من قدرها التقليدي، لأن المشتل الشعري كان يضم أضمومات شعرية طبعت جيل التأسيس للتحديث من الطبال إلى الأشعري، ثم راجع والكنوني فابن طلحة.. وغيرهم كثير. وكانت للشاعر عبد الرفيع الجواهري عناوينه في ذلك :»وشم في الكف « ،»شيء كالظل»، «الرابسوديا الزرقاء « وسيرته الصوفية «كأني أفيق ..»، ولامستشار له في ذلك سوى الخيال. «أشواق» ،»أغني لها» أو «اطفال الحجارة»، القصائد - الاغنيات رافقت المغاربة، الجمهور الأول لخيال الشاعر، في كل تضاريسهم العاطفية والوطنية، لكنها أيضا كانت مدارج كثيرة لأصوات غنائية (الغرباوي، الصقلي، رجاء بلمليح..) للوصول إلى الفؤاد. لتحديد خارطة الغناء المغربي. وأذكر في السيرة كيف أن الشاعر حمل جمال الداليات، العصافير، والسواقي، ذات مساء إلى سيدة «راحلة..»، فأصبحت تلك عادة المغاربة في ترديد العشق الحزين.. وأذكر في السيرة أنه الذي حرر عاطفتنا كثيرا من الاستعارات القادمة من عواطف أخرى.. في الوقت الذي كان الشرق- وأحيانا أخرى الغرب- يموج بالاغاني ويقدم للجميع وصفات لإعلان الحب والعاطفة، جاء الجواهري ليحرر أصواتنا من استعارات الآخرين ومن آهاتهم، ويعطينا ما نبت في مروج هوانا أو حزننا.. شحذ قلوبنا بمفرداته المغربية وبعباراته القريبة إلينا من وريدنا.. ليحررنا من قواميس الاخرين في حبنا. وأذكر في الكتاب أيضا كتاباته السياسية. فهذه الرقة عندما تلتقي في السخرية السياسية، تتحول أيضا إلى ظاهرة مغربية، وتولد «نافذة» التي غيرت بدورها من عادة القراءة في الصحافة، ووفرت المادة الساحرة الكافية ليحتك الوعي المغربي بأسئلة حارقة (شكل ثاني حبك أنت، وحرب الخليج) كمثال، فأصبحت للمقال الصحافي سيرة خاصة يصوغها في تقاطع السياسة والشعر، والعاطفة، وتظل الكينونة واحدة. السلطة بطبعها واجمة، ويزداد تجهمها مع الاستبداد، وعندما نرسم ابتسامة سخرية على ملامح الناس تنفعل، وتعتبر كل ضحكة بيانا تحريضيا ضدها.. وتعتبر كل بسمة صفعة. لهذا، إن الشاعر عبد الرفيع الجواهري يقلق، والذين يذكرون فترة حرب الخليج يذكرون كيف أن مقالاته كانت تثير الغضب ويصل الصدى إلى الردهات التي لا يعرفها العموم.. في الواقع أرى الحديث عن هذا الانسجام الرائع والنادر حتما، بين الأغنية والسخرية، والعقيدة الأخلاقية في السياسة. أريد أن أقيس ما أضعناه حقا من شساعة في الحقل الوطني عندما يغادر الجواهري السياسة والصحافة. هذه الفداحة الكبرى تجعلنا نقول ، كم صغرنا. وأذكر في الكتاب، كتابات عبد الرفيع، وهو يستقبل العهد الجديد، ودفاعه عن الأمل والهندسة الجماعية للذاكرة الحرة، وعن أفق مغاير يضع سنوات الاستبداد بين قوسين من حجر صلب.. ثم دفاعه عن الحق في الشك، عندما استعصى الماضي على القوسين.. من على بعد الإرادة القوية في صناعة القلب وصناعة الارادة نفسها نقيس.. صغر المرحلة، ونقول بلسان القلب: عد إلينا، فنحن يا صديقي نبدو صغارا في زمن يبدو شاحبا. أنقذنا منا عندما نذوب في الخرائط.. المحجمة! ودم رائعا صديقي، وأنت تسندنا في.. حبك لنا ونحن نشكرك على حبنا لك!