قضيت صحبة السي محمد برادة أياما لا تنسى في بروكسيل. كان في تلك الأثناء غائصا في لجج روايته الأخيرة. ولهذا خلال تلك الأيام المطيرة كان كلما التقيته بدا لي كأنما خارج من معركة ما مع شخصايته وأنه غادرها للتو. وكنت أعرف أيضا أنه قد يكون مشرفاً على إنهائها. لهذا كلما اقتربت منه لمست حنينا ملحا إلى العودة إلى المعركة، حنيناً ثاويا خلف الحركة والكلمة والضحكة. أو كأنما هو عائد من رحلة بعيدة. الطفل الصغير الذي كان يركض في أزقة فاس، يراه الآن، يسير جنبه في هذا الشارع الذي نعبر. تحت المطر الخفيف. لست أدري لماذا كلما ضبطته متلبسا يفكر، وحده أم وسط الناس. أقول إنه يفكر بفاس. ليس فاسالمدينة ولا حتى فاس التاريخ. عن فاس أخرى أتحدث. فاس الروح والأناقة والحدق. بها يكتب ومن خلالها يرى لغة رواياته، جميلة مشذبة لا تتذوق عطرها حتى تتوغل في الممرات السرية لشخصياته. بعد شارعين نجلس في مقهى. أراه يراقب الزبناء فأقول إن ما يراه الكاتب الآن ليس الزبناء وإنما امرأة مجلببة قرب محطة القطار ورجل ذو نظارات سوداء في الحافلة وشاب وفتاة يتلامسان وهما متكآن على ملصق أحد أفلام فريد الأطرش. الكاتب يأخذ زاده اليومي ليس مما يراه وإنما مما ينسج حول رؤاه. يطهو قوته على كل أنواع الحطب. وهذه المشاهد هي الأخرى ليست سوى صور قديمة محفورة في حدائقه الداخلية. وهو أيضا من خلال واجهة المقهى يتأمل العابرات. الفتيات الجميلات العابرات. إنما بدل أن يسألني من هي هذه السيدة. بعد طول تأمل يسأل من هو هذا الوجه؟ كأنما يتذكر وجوه النساء الكثيرات اللائي عبرن حياته. لوجوه النساء عنده سمات خاصة. العينان والوجه والقوام ليست سوى رجع صور فتيات ضاجات يركضن في أفنية دور فاس الظليلة ومازالت تشعل في نفس الكاتب وجعا لذيذا. أو ربما إنه الكاتب العاشق ينسج الخيالات والأشواق، يضفي عليهن ولعه واشتياقه وحبه للجميل والهش والعابر. المرأة طفلة مشعة عامرة بالأسرار قشعريرة مخدرة تسري في قفاه تحفر فيه لغة نشوة دائمة. ثم نعبر الحديقة بين تماثيل رجال رحلوا وحيوانات لم توجد وأشجار أسطورية. تحت نفس المطر الخفيف الذي ينعش الروح. وصمت الظهيرة يمتد. لأول مرة أسأله هل انتهيت من عملك؟ كنت أعرف أنه دخل منعرج النهاية، منعرج النهايات المفتوحة على كل المخاطر، مخاطر ما سطر الكاتب ومخاطر ما لم يسطر. تطفو على وجهه ابتسامة ما بين الأسى والخوف والتفاؤل. وأقول ها هو الكاتب يرى الحرائق القادمة. ذلك أن الكاتب الشغوف بالتفاصيل يذهب إلى الكتابة كما يذهب الغرباء إلى الغابة، يشقون آخر طريق، وجلون، مذعورون، لاصطياد الأحلام المبعثرة التي ليست سوى أحلام الآخرين، وذكريات تخص الآخرين. وقبل أن يدخل الغابة، قبل أن يتوغل في تفاصيلها يقدم نصيحته الغالية للداخل الجديد : لا تكن موضوعياً ولا محايداً وأساسا لا تهتم بالأغلبية، لا تنخدع. الأغلبية منافقة، مخاتلة، ثعلبية، حربائية لأنها ببساطة في الغابة. وسأكتشف، بعد أن عبرنا الحديقة الظليلة، أن الكاتب لا يفعل سوى أن يحتمي من الموت والنسيان بالتذكر. وبعد المقهى والحديقة نكتشف أن المساء قد حل. نقف الآن في موقف الحافلات. نحتمي من المطر. ونقول إن شهر أكتوبر كان رحيما هذا العام. أسمع بجانبي دندنة خافتة. إنه الآن يغني لسبب لا أعرفه. تجذبه موسيقى لا أسمعها وفي نفس الوقت يقول هل تسمع؟ لا أسمع شيئاً يا السي محمد. ثم أسمع موسيقى برازيلية آتية من إحدى الطوابق التقطها الكاتب بحاسته الأخرى. يلتفت جهتي وأهز رأسي موافقاً. ابتسامته المتفائلة تضفي على الوجه المبلل لطفاً نادرا ما أراه على الوجوه. في روايته الأخيرة ترى كل هذا. البراءة والطفولة والمرح. وترى أشياء أخرى أيضاً. الأبطال يسيرون على سراط لا يتحكمون فيه. لا يدرون إلى م يفضي. حقائقهم مقلوبة. كأنما يسيرون بعيون في قنة رؤوسهم. تأتي الحافلة. نتوادع. انتهى هذا النهار ليس كما بدأ. ذلك أن الكاتب ترك بين يدي شيئاً منه، كما هي الحال في كل مرة ألقاه فيها. هذا ما يفعله الكاتب دوون أن يدري. يرمي إلينا برسائله ووصاياه، يحملنا أحلامه وفواجعه قبل أن يحترق بها وتأكله نيرانها. يهرب الكاتب إلى أول شرفة ليطل على عالم آخر لا نراه حتى المحطة القادمة من مسيرته الكتابية. في رواية السي محمد الأخيرة لا أحد يخرج كما دخل، لا أحد يعود سالماً.