1 لم أكن أظن البتة أنني سأجد ما وجدته، ولا أني سألتقي fما التقيت به، مما قد يعتبر مثل صدفة منتظرة، وإن بدا تناقض ما بين الكلمتين. لكن المعروف، أن الكتاب قد يلتقون أشياء قد خُيل إليهم أنهم رأوها، أو تراءت لهم، سيان. فحين نزلت من الحافلة رقم 6 المتجهة نحو أوتيل دو فيل في تقاطع شارع ميريدياك ذاك الصباح، كان غرضي أن أذهب إلى الحديقة العمومية الواقعة في وسط بوردو. وبالفعل ذلك ما حدث، لكن كان علي أن أسير مسافة ليست بالهينة أنستني إياها العمارات التاريخية الواقعة في طرفي الشارع، والتي بدت لي مثل مقطوعات معمارية منحوتة ومحفوظة في الفضاء العام. فأنا إنسان يكفيه القليل كي يشعر بالسعادة. وإذن وصلت إلى باب الحديقة بسرعة كما قد كنت خمنت. كانت هادئة، ساكنة، تحلق فيها نسائم رائقة تسللت إلى روحي وأنعشتها. بعد تردد خطوت قليلا نحو اليسار، ثم سرت, أحدق وأتوقف وأحدق، وأنظر، وأتأمل. أشجار باسقة، عشب مُبستن بشكل جيد، بط وإوز في البحيرة وسط الحديقة. نساء ورجال بلباس الرياضة يعدون، وآخرون يجولون رفقة كلاب الأنس، وعشاق يتبادلون قبلا مضمخة بالبلل. وأنا وحدي، أشعر بهناء. بعد لحظة عن لي أن أتخذ لي مقعدا. كي أتوقف وأحدق وأنظر وأتأمل من زاوية ثابتة. لا، في حقيقة الأمر كي أمد ساقي أمامي، وأشعر أنني في حديقة بوردو الشهيرة. نعم، كي أسمع وقع حفلات الرقص والباليه، وإيقاع الموسيقى الأوبرالية التي كانت تدور رحاها هنا في القرنين الثامن والتاسع عشر، في عز سنوات النور. هل سمعت؟ ربما لكني تخيلت. ونهضت من مكاني بعد حين. وعرجت على ممر جانبي. وهنا، خلال تجوالي الوئيد المتأمل المأخوذ رأيت الرأسين هادئين ساكنين, الواحد بعد الآخر. ولا أحد اهتم بهما سوى أنا. رأسان بدون جسديهما. وقد كانا موجودين في الفضاء العام، وممنوحين للعيان، وليس متخفين أو ملتبسين عن النظر. الأول رأيته بالقرب من البحيرة من جهة الباب الجنوبي. هادئ، واقف، لا مبال من جهة ما لما يجري حواليه. استرعى انتباهي، ثم لما قرأت ما كتب أسفله على لوحة رخامية، اتسعت دهشتي. هو رأس منحوت بالطبع. هو للشاعر ليون فالاد الذي أهداه الشاعر بول فرلين قصيدة، ذاك الذي صادق أرثر رامبو. من نفس الطينة جميعهم. لكن لعنة شاعرنا لها تفرد مختلف, لأنها ستصيبه سنوات طويلة فيما بعد. لكن الفكرة الأولى التي طرقت دهني أن الرجل لا بد وأن رمته لعنة أولية، لنقل لعنة ترابية (ماذا تفعل الترابية هنا؟ لا ادري، فقط حلت مرغمة)، رمته في جسده بخطوطها وأليافها، لكن في اللحظة التالية بدا لي أن فكرتي لا تمت للشعر بصلة أو ببيت شعري حتى. المهم أن رأسه تشمخ غير عابئة بالحر ولا تهتم بالفر. فقط تنظر في الثبات المحيط بها. تمثاله النصفي البليغ. ليس هو بل شبيهه. الأول، الأصلي الكليم بقدر الإبداع، راح ذات يوم في فرن نازي. لماذا الشعر يقلق الخوذات الكريهة؟ تقول اللوحة الرخامية بأن النازيين أخذوا الرأس النحاسية وأذابوها في اللهب الحامي. تخيلت الأمر في وقفتي وأنا أقرأ بتأن وتعجب. بدت لي العيون والشعر والوجنتان تنمحيان لتصيرا ركاما، ليس ترابا مثل ما حدث حتما للرأس الآدمية الأولي للشاعر بعد خروج الروح، بل معدنا سائلا بلا شكل ولا ملمح. لكن التمثال والرأس التي يتجسد فيه يقول لي بأن الشعر ينبعث دوما من نيران الأحزان، والحريق ماؤه. البرونز يموت ولا ينحل. غياب بعد محو، وعود بعد غياب الشكل الأول. هذا الشكل أراه أمامي، وأراني منجذبا مأخوذا ممتلئا فجأة بالشعر، وحدث القتل الرمزي. لا يا صديقي الشاعر الذي لا تعرفك كثيرا كتب الدرس وتحاليل الناقد. لكن ألم تكن عضو حلقة الهيدروباثيين الأفاضل، أعداء الماء ورفاق النبيذ، وأكاد أشم رائحة التراب الممزوج بالرحيق ينفذ من خلال برونزك. لا عليك سأسارع بعد حين لشرب نخب صداقتك كأس معتقة في سطيحة مقهى لو برونيس بجادة ألغاليان قليلا. فأنا لي «شعاع قمر في رأسي المجنونة، مثل كل الشعراء والسكارى والمجانين» كما بُحت في قصيدتك «ليل باريس». ويكفي أني التقيت بك هنا أيها البرناسي، بين زقزقة العصافير، حداء أشجار العالم التي تحكي كل شجرة منه تاريخا ومنطقة من جغرافيا العالم.. هي تجاورك في درب الأبدية.. وتشاركي فرحي باللقاء وبالعثور على رفيق قديم, أليس كذلك أيتها العداءة الجميلة المارة من جنبنا أنا وهو، تمنحين للعين المنبهرة بالشعر والصفاء جسدا عرقانا مهرول الخطى كقصيدة كتبها لك هنا ذات مساء بعيد. مثلا : «حين أتت كان لها/ ما يذهب، ما يندثر/ مع عطر الروائح الثمينة/ مع ريح رقصات الفالس المدوخة». وقرأت بعض سور الشعر وأنا أبتعد محمولا بعبق اللحظة، ومتأسفا بعجب عن مصير رأس لم تسلم من حرق ورغبة حاقدة في محو ذكري صاحبها الشاعر. 2 وضربت الأرض بقدمي بعد أن فكرت قليلا في كل هذا. لكني وأنا أعرج على ممر ثان، تلقفتني رأس ثانية.. ألن تسلم من جولتي من الرؤوس؟ قلت وأنا أبتسم.. كانت بالقرب من باب الخروج، على بعد ربع مسافة ممر، عند نهاية البحيرة الوسطى. الرأس الثانية. آه، لم أكن أعرف أنه من بوردو, أنه جيروندي الأصل. نعم هو فرانسوا مورياك الروائي النحيل. حقا لم أقرأ له كثيرا، فقد كان جان بول سارتر وحواريوه قد رموا غطاء نفور من حواليه. لأنه بورجوازي، كاثوليكي، قالوا. لكن روايته الكبرى في نسخة الجيب، حيث في الغلاف الأحمر القاني الخلفية صورة امرأة بشعر نصفي وسيجارة في اليد، منحنية الهامة، هذه الرواية والصورة لم تغادرا مخيلتي منذ رأيتهما أول مرة في سوق الكتب القديمة «القريعة» بالدار البيضاء ذات مراهقة. لأن رواية « تيريز ديكيرو» تلك كانت من أشهر ما كان يعرضه الكتبيون آنذاك. وتوقفت بالقرب من الرأس، أمام التمثال النصفي. ياه ! سمك دقيق كأنه لوحة إعلان يحتمل رأس كاتب كبير. الأدهى أنه نحت «معوج»، أي أن الفنان الطلائعي الذي أنجزه سنة 1943 رام أن يمنحه شكلا متمايلا، مقعرا ومسطحا في ذات الوقت، تبدو من خلال التجاويف العينان والأنف والجبهة العارية، الملامح الأساس، لكن كل ذلك يعطي تعبيرا قويا. روائي عبقري في سمك شريط طائر، قلت لنفسي. لكني تداركت ملحوظتي في اللحظة التالية بما أن النحت من البرونز الخالص. وبعد الاندهاش هذا، قرأت اللوحة أسفل الرأس كما في طبيعة الأشياء. أن تمر بالقرب من الدهشة ولا تقرأ لأمر غير معقول ولا يخل في خانة الاتزان، خاصة إذا كنت تدعي أنك كاتب، أليس كذلك؟ وقرأت، وزاد اندهاشي أكثر فأكثر. تصوروا أنه لم يسلم من الدمار هو أيضا مثل رفيقه الشاعر في شمس وظلال الحديقة ! حتى أنت ! تقول اللوحة الرخامية أنه سرق سنة 1993، وتم العثور عليه سنتين بعد ذلك، ولم يعد إلى مكانه، بل هو منتصب في متحف ومحروس. ما شاهدته هو نسخة طبق الأصل لتمثال فرانسوا مورياك الأصل أنجزته مؤسسة وليس نحات. وبفرح كبير أخذت لي صورة بالقرب منه. قلت لرجل كان مارا أن يلتقطها لي، وفعل وهو يقول لي مبتسما بشيء من الإعجاب: c_était un grand monsieur, أجبته طبعا وأن أبوح في باطني لنفسي: ولم رأيتني آخذ لي صورة؟ آه ! الناس أحيانا يتصرفون بسذاجة لطيفة. 3 وفي كل ما كنت فعلت كنت أحاورهما. معا، التمثالان. حوار على الطائر. كتابة في الهواء. مثل ثقل الاكتشاف في مسير سائح. بعد مغادرتي لهما، توقفت قليلا ولعبت بالتراب قليلا وأنا مطرق الرأس. هندست أشكالا ترافق تفكيرا هائما، ثم رفعت رأسي ملتفتا، وحدقت في مورياك، وألقيت نظرة أبعد نحو ليون فالاد، وبدا لي هذا الأخير يبتسم هو الذي تخيل، في قصيدة رائعة لقاء بامرأة جميلة تدق نعشا له، تخيط كفنا له، تحفر قبرا له. تخيل ذالك في القرن التاسع عشر الذي لم يمنحه كثير متعة ولا كثير ألق. فهنا الآن، في حديقة بوردو المركزية، المرأة تخيط المتعة، تحفر في باطن اللذة، تدق موسيقى. هي حفيدة تيريز ديكيرو التي شرعت باب الحرية وبراءة الجسد، وهاهي وصويحباتها يمارسن الركض الخفيف، تبتسم سيقانهن العارية للريح، والأنفة الرائقة تصول في وجناتهن. آه، وغادرت، خطوت مغادرا، سائحا فيما تبقى من الحديقة العمومية. والحق أقول: كنت سعيدا، كأني صادفت لقاء أدبيا غير منتظ