كيف يمكن للاجتهاد في الاقتصاد أن يوفر عوامل التحديث والتأهيل ويؤمّن مستلزمات الرفع من الفعالية العامة للاقتصاد والمجتمع؟ وماهي السبل الكفيلة باحتواء الأبعاد الاجتماعية للتحديث الاقتصادي؟ ثم ماذا عن النظام الاجتماعي الذي يطرحه الدستور الجديد للمغرب؟ هل من الممكن التوفيق بين الليبرالية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي لتحقيق التنمية المستدامة دون إشراك المجتمع المدني في هكذا مَسعى؟ إذن كيف يمكننا توسيع فضاء الحوار المدني، وإشراك الشباب في هذا الحوار، لترسيخ حكامة ديمقراطية تشاركية في بلادنا؟ هذه الأسئلة اقترحها ياسين عدنان أرضية لنقاش معرفي تم بثه على شاشة القناة الأولى من خلال برنامجه مشارف. وهو الحوار الذي دعا له عدنان رجل اقتصاد من عيار ثقيل هو الباحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية الدكتور إدريس الكَراوي الذي راكم العديد من الدراسات، وتحمل العديد من المسؤوليات أيضا. عضو الكتابة العامة للمجلس الوطني للشباب والمستقبل سابقا. مستشار سابق مكلف بالقطب الاجتماعي لدى الوزير الأول: عبد الرحمان اليوسفي، ثم إدريس جطو، فعباس الفاسي. رئيس جهة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للمجلس العالمي للعمل الاجتماعي. وطبعا أمين عام المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. مع تعقد المسألة الاقتصادية اليوم في ظل العولمة المتنامية وهذا الانفتاح والتحرير الاقتصاديين غير المتحكم فيهما، ألا ترى أننا صرنا اليوم أحوج من أي وقت مضى إلى الاجتهاد لكي نحقق الأمن الاقتصادي في بلادنا، ثم لكي نحتوي الأبعاد الاجتماعية للتحديث الاقتصادي. أستحضر هنا كتابك حول «الاجتهاد الاقتصادي» وأنا أطرح عليك هذا السؤال: كيف يمكن للاجتهاد في الاقتصاد أن يؤمّن مستلزمات الرفع من الفعالية العامة للاقتصاد والمجتمع؟ الفعالية العامة للاقتصاد والمجتمع تقاس اليوم بمدى قدرة الأمم على خلق الثروة . لأن الاقتصادات الوطنية والتجمعات الجهوية أصبحت خلال العقد الحالي من هذا القرن أمام تحدي كبير توفر على الموارد الضرورية لتمويل النمو الاقتصادي والتضامن الاجتماعي داخل مناخ يشهد بصفة متنامية احتدام الضغط على الطلب الاجتماعي وكذا الاستثمار المنعش للشغل من جهة وندرة الموارد من جهة أخرى. فمحددات الاستجابة لهذا التحدي لم تعد رهينة بتوفر بلد معين على عوامل الانتاج التقليدية، بل على الذكاء الاقتصادي واليقظة الاستراتيجية . وهذا التوجه أضحى اليوم رهينا بدور وبقدرة الامم على التثمين الأمثل لنبوغها الوطني من خلال قدرتها على تطوير اقتصاد المعرفة ونظم الابتكار وإصلاح منظومة التربية والتكوين والتطوير الارادي والبحث العلمي في شتى تجلياتها. لأن اقتصادنا الوطني ولج عمليا مرحلة النُّدرة: من ندرة الموارد المائية والطبيعية حتى ندرة الموارد البشرية المؤهلة. وتبقى الفلاحة ربما الأكثر تضررا في هذا الإطار. ولأنك ألفتَ كتابين حول الفلاحة والتنمية في المغرب، أريد أن أسالك كيف يمكن للمغرب أن يدبِّر ندرة المياه وإشكالية الجفاف وظاهرة عدم الاستقرار المناخي في ظل غياب نظام قارّ للتضامن والتأمين في هذا المجال؟ إن ما يميز اقتصاديتنا ومجتمعاتنا اليوم هو أنها بالفعل دخلت مرحلة الندرة في مفهومها الشامل، أي ندرة الموارد الطبيعية من ماء وطاقة وأراضي صالحة للزراعة ومراعي وغابات وثروات سمكية، وكذا ندرة الموارد البشرية النوعية ذات الأهلية والكفاءة العالية، وكل هذا في ظل تنوع المخاطر واحتدام التقلبات الفجائية للأسواق وتطور الكوارث الطبيعية وتنوع أشكالها وتسارع دوريتها. وكل هذه العوامل بقدر ما تؤدي إلى صعوبة التحكم المسبق في انعكاساتها، بقدر مابدأت تحث الحكومات على بلورة أنظمة وطنية للتأمين والوقاية واليقظة والتخزين الاحتياطي وكذا إلى ابتكار أشكال جديدة من أنماط الانتاج والتبادل و التدبير قوامها الضبط الاستباقي واليقظة الاستراتيجية. طبعا الفلاحة كغيرها من القطاعات الاقتصادية في المغرب مفتوحة بدورها على رهانات التحديث. وأولى مظاهر هذا التحديث تتجلى في بروز جيل جديد من المقاولين خصصتَ لهم أنت والأستاذ محمد نور الدين أفاية دراسة مهمة. سؤالي سيكون عن سلوكات هذه النخبة الاقتصادية الجديدة: هل تحس بأنهم بدؤوا يحدثون قطيعة مع الصورة الشائعة عن أرباب العمل التي تصورهم كنافذين يتغذون بالقرب من السلطة ويراهنون على الريع والمحسوبية أكثر مما يراهنون على المنافسة؟ أم أن نخبتنا الاقتصادية الجديدة بدأت تتشبع بروح المواطنة والمسؤولية الاجتماعية؟ ما يمكن قوله بهذا الصدد هو أولا الاقرار بأن المغرب يعرف، بالفعل، على صعيد الحقل الاقتصادي والانتاجي بزوغ وتطور نخب اقتصادية جديدة، وأن هذا الواقع تواكبه تحولات نوعية عميقة على صعيد سلوكات هذه النخبة رغم أن هذه السلوكات ليست سائدة على صعيد كل مكونات النخبة الاقتصادية. وهذا التطور يتوجه نحو التشبع بقيم الاستحقاق والمبادرة والمخاطرة والمنافسة الحرة النزيهة والوطنية الاقتصادية والمواطنة والمسؤولية الاجتماعية والبيئيية والمجتمعية الرامية كلها إلى احترام فعلية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الاساسية داخل المقاولة، وإلى تحديث العلاقات المهنية وإلى تغليب التعاقد والحوار، والتشاور داخل المقاولة. سألتك عن هذه النخب لأن تحديثها، إلى جانب تحديث الإدارة، هو الذي يمكنه أن يفتحنا على نموذج مغربي للتنمية. وعندنا نماذج تنموية نجحت من نفس محيطنا الإسلامي مثل ماليزيا. وأنت والأستاذ أفاية توقفتما عند تحليل «غي صورمان» الذي أشاد باستثمار الماليزيين الجيد للإسلام بوصفه عاملا اقتصاديا يؤسس لأخلاقيات العمل، فيما انتقد الصيغة الإقطاعية التي يتم فهم الإسلام بها في المجتمع العربي. يعني هنا واضح أن الاقلاع الاقتصادي مرتبط عضويا بالتحديث الفكري والثقافي؟ حالة ماليزيا وكذا أندونيسيا تظهر بما لا يدع مجالا للشك، وكما يؤكد على هذا كي صورمان، بأن الإسلام ليس نقيضا للديمقراطية وللتنمية، بل على العكس من ذلك هنالك في القيم الإسلامية ما يدعو إلى المبادرة والابتكار والمنافسة النزيهة والاحتكام إلى العمل والعلم والاستحقاق وإلى تخليق الاقتصاد، وكلها قيم في صلب التجربة الماليزية والاندونيسية وغيرها من الدول الاسلامية التي نجحت في بناء وتطوير نظم للإنتاج سماتها التحديث الاقتصادي والفعالية العامة للمجتمع. إلا أن هذه التجارب تبين، كذلك، أن التحديث الاقتصادي دائما ما تحضره نخب متنورة، متشبعة بروح العصر، منفتحة على أجود وأرقى وأنبل وأسمى ما تنتجه الحضارة الانسانية . وهذه النخب الثقافية والعلمية كانت دائما حاملة لمشعل التنوير والتحديث والإصلاح. وعادة ماكانت اهتماماتها تتقاطع مع النخب السياسية والاقتصادية والمدنية في المجتمع لما لها من آثار على مسار شعوبها. طبعا رهان الاقلاع الاقتصادي يجب ألا ينسينا واجب التنمية الاجتماعية وضمان حد أدنى من الحماية الاجتماعية للمغاربة. وفي هذا الإطار أريد أن أعرف هل يمكننا اليوم أن نتحدث عن نموذج اجتماعي مغربي؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي معالم السياسة الاجتماعية العمومية في بلادنا؟ النموذج الاجتماعي هو منظومة تشمل مجموعة من الحقوق الاساسية تتعلق بمختلف جوانب العمل الاجتماعي والتضامني، هدفها توفير حد أدنى للعيش يسمح بتلبية الحاجيات الاساسية المتعارف عليها مجتمعيا. وهذه المكونات هي الحق في التربية والتكوين ، والصحة، والسكن، والتغذية، والشغل اللائق، والتغطية الصحية، والتقاعد، والتعويض عن فقدان الشغل والرعاية الاجتماعية لفائدة الأرامل، والأشخاص المسنين، والأشخاص في وضعية إعاقة والأطفال المتخلى عنهم. ومن هذا المنظور يصح لنا القول بأن المغرب يتوفر بالفعل على نموذج اجتماعي متكامل يشمل العديد من البرامج في عدة مجالات مرتبطة بالعمل الاجتماعي والتضامني. لكن هذا النموذج لا يغطي كافة الفئات والحاجيات والمناطق، خاصة تلك المتواجدة في الوسط القروي والمناطق الجبلية وهوامش المدن والقطاع غير المهيكل. وبالتالي لازالت تعتري هذا النموذج أوجه مختلفة من العجز والاختلالات. أنا طرحت السؤال لأننا إزاء مفارقات كبرى في هذا الباب: الحكومة تخصص أكثر من نصف ميزانيتها العامة للبرامج ذات الطابع الاجتماعي ومازالت غير قادرة على مواجهة العجز الاجتماعي في الصحة والتعليم والسكن؟ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من 2005 وهي تتواصل بشكل دؤوب، ومع ذلك مازال المغرب لم يحقق أي تقدم يذكر في سُلّم التنمية البشرية عالميا. كيف تفسر هذا الوضع؟ بالفعل تخصص السياسات العمومية الموجهة للقطاعات الاجتماعية مايفوق عن 50 بالمئة من الميزانية العامة للدولة لكن ترتيب المغرب داخل المنظومة الدولية في مجال التنمية البشرية لا يرقى إلى مستوى هذا المجهود العمومي الهام. وهذا راجع إلى عدة عوامل من ضمنها: - انعدام قيادة مؤسسة موحدة للسياسات والبرامج الاجتماعية مما له عواقب على تجانسها والالتقائيتها والتنسيق بين مكوناتها مما يتسبب في هدر للموارد المالية البشرية؛ - عدم نجاعة استهداف الفئات الفقيرة والمحتاجة فعليا؛ - ضعف الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص في مجال العمل الاجتماعي والتضامني؛ - ضعف المراقبة والتقييم والتتبع والمحاسبة طبعا لا يجب أن ننسى أننا نطرح قضايا الاقتصاد والمجتمع في وضع غير مستقر. لأن المجتمع المغربي والعربي يمور بالتحولات: تحولات نوعية، ويعرف ظهور جيل جديد من الظواهر الاجتماعية، ويشهد دينامية يراها البعض ربيعا و يتصورها البعض الآخر خريفا. لهذا يهمني أن اعرف ما إذا كان الفاعل السياسي في بلادنا قد بلور استراتيجية للتعاطي مع هذه التحولات، ام انه ما زال يراقب الوضع فقط ويدبر الازمات برؤية يومية؟ الفاعل السياسي منشغل بالسياسة في مفهومها التقليدي. فمعظم الأحزاب السياسية لا تتوفر على أجهزة للدراسات والأبحاث رغم توفر البعض منها على كفاءات عالية في الجامعة ومراكز البحث والإدارات العمومية والمؤسسات المالية وغير المالية ، وذلك لفهم التحولات الاجتماعية النوعية التي يعرفها المجتمع . كما أنها لا تتوفر على مراكز يعهد إليها المتابعة العلمية للاشكاليات والتحديات الكبرى المطروحة على بلادنا، كأساس لوضع البرامج الانتخابية ولمواكبة العمل داخل البرلمان والجماعات المحلية التي يتواجد داخلها ممثلوها. وما يجري على الحقل السياسي المغربي يلاحظ على صعيد العالم العربي. وهذا ما يؤدي إلى عدم استثمار الأحزاب السياسية لنتائج البحث العلمي والدراسات الاقتصادية والاجتماعية المتوفرة لدى الجامعات ومراكز البحث الوطنية. مما يضيع عليها فرص تطوير خبرتها الداخلية وجعلها في خدمة فهم التحولات واقتراح البدائل الملائمة. لكن الفاعل السياسي ليس هو الحزب فقط. إذ ماذا عن الدولة؟ مثلا مؤسسة مثل (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي) الذي تشغل منصب أمينه العام، وأيضا هيئة مثل (المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي) الذي نص عليه الدستور الجديد، هذه فضاءات وسائطية مهمة توسِّع مجال الحوار المدني وتطوِّر الديمقراطية التشاركية في بلادنا؟ التجربة التي أفرزتها مؤسسة دستورية مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تظهر أن بلادنا كانت في حاجة ماسة إلى فضاءات لتطوير الممارسات الجيدة في مجال الديمقراطية التشاركية. ويرجع هذا الواقع إلى قدرة الحوار والانصات الواسع والتشاور مع الفاعلين والقوى الحية للمجتمع المدني المنظم لتقريب وجهات النظر لكل مكونات المجتمع حول الاصلاحات والجوهرية والقضايا الكبرى للأمة في أفق بناء تعاقدات اجتماعية كبرى. فهذه الفضاءات تقوي الرابط الاجتماعي وتطور المقومات الاساسية للعيش المشترك، مساعدة بهذا تملك المجتمع للتعددية اللغوية والدينية والعقائدية والاجتماعية، و تسلحا بالمبادئ والسلوكات المبنية على المقاربات الهادئة والسليمة والديمقراطية لمعالجة الخلاف والاختلاف والتنوع والصراعات جاعلة من التسامح والاعتراف بالآخر والتعايش بين الاديان والحضارات والثقافات والمذاهب والنماذج التنموية إيمانا راسخا واخيارا انسانيا قارا. وإني على يقين تام أن الهيئات الدستورية الاستشارية الأخرى التي نص عليها الدستور الجديد كالمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي ستساهم في تقوية هذا الصرح المؤسسي الضروري لبناء مجتمع متشبع بمبادئ ومقومات النظام الديمقراطي ببلادنا. ولقد استطاع المغرب أن يحقق استقراره السياسي لأنه عزز مؤسساته منذ أواخر التسعينات وأمّن وسائل المناعية السياسية بفعل الإصلاحات التي قام بها. لأنه كلما وسّعنا المشاركة أكثر وفتحنا المجال للمجتمع المدني نكون عمليا قد أعطينا الفرصة للشباب الذي يتحرك في الفضاء الجمعوي أكثر مما يتحرك في الفضاء السياسي الحزبي. وهذا سيقودنا في آخر سؤال إلى الكتاب الذي ألفته مع نور الدين أفاية حول«الشباب والالتزام». وسؤالي هو: كيف تتصور دور الشباب في صناعة التحولات في بلادنا بعد الربيع العربي؟ كما سبق لي أن وضحت هذا في مناسبات سابقة تظهر كل الدراسات خلاصة مفادها أنه كلما تحركت المؤسسات في اتجاه الشباب كلما انخرط الشباب داخل هذه المؤسسات. ومعنى هذا انه كلما عرضت على الشباب فكرة أو قضية أو مشروع جاد وجدي وواعد كلما تملكها الشباب وجعلو منها قضيتهم ومشروعهم. إلى الشباب المغربي يمر بمرحلة دقيقة تتميز بتطور مذهل وسريع للمهارات والتكنولوجيات ومختلف أنواع النبوغ والذكاء واليقظة، وكذا بتنوع المخاطر والتحديات. لدى علينا أن نعي وشبابنا أكثر أن العالم سوف لن ينتظرنا. ومن هنا تأتي أهمية زرع وتطوير ثقافة الفعل والمشاركة لدى الشباب، هذا الشباب الذي مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى المساهمة في الحركات الثقافية والعلمية والابداعية والمدنية والسياسية الكونية. فالمؤسسات التي تؤطر الشباب وعلى رأسها الأسرة والمدرسة والحزب السياسي ووسائل الاعلام الحديثة مطالبة اليوم كل واحدة من موقعها أن تنبذ ثقافة العدمية والتيئيس والاحباط وبعبارة أخرى ثقافة الموت وأن تطور ثقافة الأمل والمبادرة والخلق والابداع والابتكار والمسؤولية والمشاركة وبعبارة أخرى ثقافة الحياة. فهذه الثقافة مدعوة أن تمزج بين قيم الحقوق والواجبات، ثقافة تعترف بالشباب وتتق فيهم، ثقافة حداثية عصرية وديمقراطية تنور العقول وتفتح الآفاق للشباب وتطور نبوغهم وذكائهم وتقوي مشاركتهم في بناء مستقبلهم من خلال إسهامهم في تنمية بلادهم. وهذا ما يتطلب حكامة جديدة للحقل الشبابي قوامها معرفة قضايا الشباب، الاستثمار في الشباب، الانصات إلى الشباب، إشراكهم في العملية التنموية، تم تنظيمهم مؤسسيا ضمانا لتحويلهم إلى نخب المستقبل.