في منحه البطولة الرئيسَة لفنان تشكيلي ذي مزاج ولغة خاصَّيْن، حقق الروائي محمد برادة خصوصية «الضوء الهارب»، استنادا إلى معارفه الفنية المترجَمَة عبر اعتماد الثقافة البصرية واللغة المستمدة من قواعد النقد الفني الذي ظل مهتما به وقريبا منه منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث كتب العديد من النصوص التقديمية والنقدية حول أعمال عدد من التشكيليين المغاربة. وهو الاهتمام الذي قاده إلى ترجمة كتاب «مرسم ألبرتو جياكوميتي» لجون جينيه، وقد اختار له (من النص ذاته) عنوان: «الجرح السري». علاوة على ذلك، تَغْرِف معارفه الفنية من زيارة المحترفات والمعارض والمتاحف العالمية، ومن احتكاكه وصداقاته بالفنانين. في سيْر متابعاته تلك، ورد في الرواية حديث (قراءة) عن أعمال أحد التشكيليين المغاربة دون ذكر اسمه؛ جاء على لسان العيشوني: «صديق رسام ظل يرسم لفترة طويلة هياكل مفرغة في شكل جلابيب تنتصب دون أجسام بشرية، والقُبّ المثلث ذو الخطوط الأسطوانية يوحي بالانتفاخ واللاحدود (كسدة بدون روح كما نقول). ظللت أمدا أقرأ تلك الرسومات من خلال إيحاءاتها قبل أن أبدأ في النظر إليها مكتفيا بها. لكنني كنت دائما أستشعر أن هناك أشكالا أخرى يمكن أن تضاف إلى تلك الجلابيب المفرغة المتحركة بآلياتها الخاصة». تعود هذه الهياكل المفرغة إلى الفنان بغداد بنعاس الذي عُرِف برمزيته التشخيصية باعتماد تنقيطية دقيقة مونوكرومية (أسود على أبيض) في سبعينيات القرن الماضي، وبصداقته مع الفنان فؤاد بلامين زمَنَئِذ. لعله تكريم رمزي لهذا الفنان الذي غاب عن الساحة المحلية. مع التذكير بتحية خاصة بالفنان خليل غريب من خلال غلاف الطبعة الأولى. فيما وردت الإشارة إلى عدم وجود متحف وطني للفن المعاصر (على لسان فاطمة). ذلك ما يجرنا للقول بأن زمن كتابة الرواية ينحدر إلى تاريخ هذا الاهتمام بالفن والوعي بفاعليته الأدبية. هذا الولع الجمالي الخاضع لدربة الكتابة، مكَّن الروائي من تطويع الخطاب البصري، باستثمار معجم فني ثرّ، بحيث نجد اللون يفيد التعيين والتحديد مثلما يفيد التوصيف والاستعارة (الهواجس السوداء والرمادية، الاستنجاد بحمرة الخجل، مجاملات رمادية، الأحلام الأرجوانية...). كما تم توظيف توليفات لغوية تمس الخط Ligne والشكل Forme (ثنائي الأبعاد) والحجم Volume (ثلاثي الأبعاد)، كي تقوم مقام الرسم والتجسيم لتأكيد الإيحاءات المرئية الموازية لعناصر التشكيل (اهتزازات ردفي وعجيزتي اللولبية، غيلانة الشقراء المدورة الوجه الممتلئة الصدر، الدحماني بقامته المربعة، كتلة بشرية، تداخل دائري، وجهها الأسمر الطويل، وجوه عريضة، جسوماتها شبه المستطيلة الواسعة، يرسمون حركات دائرية بأيديهم، بيوت فسيفسائية الأشكال...). فضلا عن هذا الأسلوب السردي التصويري (pictural)، يتضاعف شحذ البعد البصري بإدماج القارئ في أجواء الفن عبر عناوين اللوحات والقطع النحتية وأعلام الفن الغربي وتياراته (رامبرانت، كليمت، سيزان، براك، مونيه، كلي، ماتيس، بيكاسو، ديغا، جياكوميتي، دى بوفيه، رودان، هوكيزاي...)، والفضاءات الفنية (صالون مادام شانطال، معرض فيينا عاصمة الحداثة، متحف اللوفر، حديقة الليكسمبورغ...)، مع استحضار الفن المعماري باعتباره من مكونات الفنون التشكيلية، إضافة إلى مجالات إبداعية أخرى كالموسيقى والسينما والأدب والفلسفة. هذا الإبحار التصويري هو ما جعل الرواية تتجاوز فنِّيتها الروائية، لتساهم بدورها في نشر الثقافة الفنية التي تحتل فيها المعارف التشكيلية مركز الصدارة. لتكثيف الجدوى في هذا المنحى، ألا يمكن تصور طبعة إيكونوغرافية (مرفقة بصور الأعمال الواردة في النص، نماذج من أعمال الفنانين المذكورين، صور الفضاءات الفنية...)، ليس كصور وثائقية داعمة فقط، بل كنصوص أيقونية تفرض سياقها التكاملي مع النص الروائي؟ في هذه الرواية المائزة، يشكل الجسد سندا للحب والتصوير ضمن منظومة حِسِّية تمزج بين الجنسي والإبداعي (الجسد الموديل)، عبر تقعيد مُتخَيَّل لفلسفة مسار وحياة موَجَّهَيْن بنفسية البطل الفنان الذي برع الروائي محمد برادة في فسخ وتفكيك تشابك مشاعره وتصوراته وهواجسه وآماله وآلامه وإخفاقاته (في أجواء مغرب ما بعد الاستقلال). ذلك عبر إغناء وتوسيع الحوارات الكاشفة وتصعيدها أملا في القبض على سر الوجود المنفلت على الدوام،كما الضوء المنفلت بحكم مادته النورانية الجديرة بتثبيت (fixation) صورة العالم وحرقها أيضا: بقدر ما يكشف الضوء نصاعة اللون، بقدر ما يقتات من هذه النصاعة لتصبح باهتة، منطفِئة، فمُعْدَمَة، إلى حد المحو التام. ضمن سياق حديثه عن الرواية باعتبارها أفقا لتعدد الشكل والخطاب، أكد محمد برادة (1993) على أن «هذا التنوع المفرط داخل الجنس «الواحد» يسم الرواية بحرية الشكل ويؤمن لها التجدد». «الضوء الهارب» (1993) تمثل التجاوب والتفاعل الأمْثَليْن مع هذا الطرح النقدي. من ثمة، فإن قوة هذا العمل الروائي تُعَدُّ نتيجة لكتابة إبداعية بأياد متعددة. كتابة موصوفة ببلاغة تصويرية يتواشج فيها الخيالي والفني والثقافي عبر إيقاع تعبيري مُدَوْزَن بمهارة الروائي ورؤية الناقد الأدبي والفني.