"العدل" تستعدّ لإصدار نصّ تنظيمي بشأن تطبيق قانون العقوبات البديلة    جلسة حوارية "ناعمة" تتصفح كتاب "الحرية النسائية" للمؤرخ بوتشيش    برشلونة يحرز لقب كأس إسبانيا    "لبؤات الفوتسال" يواجهن أنغولا    حقيقة قتل "سفاح ابن أحمد" لطفلة    احتجاج أمام "أفانتي" في المحمدية    "المرأة البامبارية" تُبرز قهر تندوف    المديني: روايتي الجديدة مجنونة .. فرانسيس بابا المُبادين في غزة    توقيف شخص بتهمة الوشاية الكاذبة حول جريمة قتل وهمية    فوزي لقجع نائب أول لرئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    الأمن يصيب جانحا بالرصاص بالسمارة    بنكيران يتجنب التعليق على حرمان وفد "حماس" من "التأشيرة" لحضور مؤتمر حزبه    الدوري الماسي: البقالي يحل ثانيا في سباق 3000 متر موانع خلال ملتقى شيامن بالصين    مخيمات تندوف تغرق في الفوضى تحت أنظار الجزائر    قتلى في انفجار بميناء جنوب إيران    الكرفطي ينتقد مكتب اتحاد طنجة: بدل تصحيح الأخطاء.. لاحقوني بالشكايات!    المباراة الوطنية الخامسة عشر لجودة زيت الزيتون البكر الممتازة للموسم الفلاحي 2024/2025    الكلية متعددة التخصصات بالناظورتحتضن يوما دراسيا حول الذكاء الاصطناعي    أدوار جزيئات "المسلات" تبقى مجهولة في جسم الإنسان    أخنوش يمثل أمير المؤمنين جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    العثور على جثة بشاطئ العرائش يُرجح أنها للتلميذ المختفي    تتويج 9 صحفيين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    مناظرة جهوية بأكادير لتشجيع رياضي حضاري    جديد نصر مكري يكشف عن مرحلة إبداعية جديدة في مسيرته الفنية    بواشنطن.. فتاح تبرز جاذبية المغرب كقطب يربط بين إفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة    المغرب يرسّخ مكانته كمركز صناعي إفريقي ويستعد لبناء أكبر حوض لبناء السفن في القارة    جيدو المغرب ينال ميداليات بأبيدجان    إطلاق مشروعي المجزرة النموذجية وسوق الجملة الإقليمي بإقليم العرائش    مؤتمر "البيجيدي" ببوزنيقة .. قياديان فلسطينيان يشكران المغرب على الدعم    برهوم: الشعب المغربي أكد أنه لا يباع ولا يشترى وأن ضميره حي ومواقفه ثابتة من القضية الفلسطينية    بدء مراسم جنازة البابا في الفاتيكان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    البشر يواظبون على مضغ العلكة منذ قرابة 10 آلاف سنة    من تندرارة إلى الناظور.. الجهة الشرقية في قلب خارطة طريق الغاز بالمغرب    هولندا.. تحقيقات حكومية تثير استياء المسلمين بسبب جمع بيانات سرية    شبكات إجرامية تستغل قاصرين مغاربة في بلجيكا عبر تطبيقات مشفرة    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" ببني شيكر.. والدرك يفتح تحقيقات معمقة    تتويج الفائزين في مباريات أحسن رؤوس الماشية ضمن فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب 2025    كرانس مونتانا: كونفدرالية دول الساحل تشيد بالدعم الثابت للمغرب تحت قيادة الملك محمد السادس    بدء مراسم تشييع البابا فرنسيس في الفاتيكان    اعتذار على ورق الزبدة .. أبيدار تمد يدها لبنكيران وسط عاصفة أزمة مالية    ولاية أمن الدار البيضاء توضح حقيقة فيديو أربعة تلاميذ مصحوب بتعليقات غير صحيحة    ماذا يحدث في بن أحمد؟ جريمة جديدة تثير الرعب وسط الساكنة    المرتبة 123 عالميا.. الرباط تتعثر في سباق المدن الذكية تحت وطأة أزمة السكن    الصين تخصص 6,54 مليار دولار لدعم مشاريع الحفاظ على المياه    الهلال السعودي يبلغ نصف نهائي نخبة آسيا    وثائق سرية تكشف تورط البوليساريو في حرب سوريا بتنسيق إيراني جزائري    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلاقات الأدبية العربية - الإفريقية الحوار المجهض، المستقبل الممكن

إنه لمن باب المخاطرة أن نتحدث، يقينا أو افتراضا لا فرق، عن تأثير ما متعيّن الطوابع والقسمات، للأدب الإفريقي، المدوّن منه أو الشفاهي، في نسيج الأدب العربي ما دام التّدبّر المتّئد للأدبين، كلّ على حدة، قد لا ييسّر تسويغ تفكير من هذا القبيل، ومن هنا فإن منتهى ما يصح التأشير عليه، في هذا المنحى، هو المحايثة القوية، فعلا، للموضوع الزنجي في مختلف أجناس الأدب السوداني الحديث و أشكاله و تلاوينه، ممّا تبرّره حيثيات جغرافية وتاريخية وإثنية وثقافية.. تخص السودان دون سائر الأقطار العربية.
على أن احترازا من هذا القبيل لا يمنع، و ربّما اعتبرنا هذا الأمر أكثر أهمية وملحاحية من غيره، من إعمال النظر في صلب هذه القضية و بسط موجبات تفاعل أوكد و أقوى و أمتن بين الأدبين، العربي و الإفريقي، تستدعيه جملة من العوامل الجغرافية و التاريخية و العقدية و الثقافية..
بهذا المعنى فإن عنصر الجوار الجغرافي بين العالمين، العربي والإفريقي، لممّا قد يقوم، لوحده، مقام علة كافية لهذا التفاعل و يضفي عليه صدقية نافذة، ذلك أن قدر الجغرافيا سيشاء لهما أن يتماسّا عن قرب، ناهينا عن أن قسما وافرا من العالم العربي، أرضا و ساكنة، يحسب على القارة الإفريقية. و علاوة على عامل الجغرافيا هناك أيضا عامل التاريخ المشترك، نقصد انتماء العالمين كليهما إلى خانة العالم الثالث مع ما يقتضيه هذا الانتماء من تطلعات مشروعة نحو الدّمقرطة و التحديث و التقدم و الرخاء.. إثر عهود من الاستعمار و الاستغلال و الاضطهاد.. مرّ بها العرب و الأفارقة في ظل السيطرة الغربية التي سوف تترسّم مع مؤتمر برلين (1884) و اتفاقية سايس - بيكو (1917).
هذا وإذا ما كانت الذاكرة الإفريقية لمّا تزل رازحة تحت وطأة جرح جزيرة غوري السينغالية، وحيث توالت، لمدى عقود، أطوار ذلك النزيف البشري المدمّر الذي حكم على جزء لا يستهان به من أبناء وبنات القارة - بين خمسين ومائة مليون نسمة بحسب التقديرات التاريخية - بالتحول إلى رقيق مسخّر يسام مشاقّ وأهوال تحقيق الحلم الأمريكي، لتتقوّض، جرّاء هذا، بنيات و أنظمة و وشائج و تقاليد.. لن يزيدها حلول الاستعمار إلاّ محوا و اجثتاثا.. و إذا كانت، أي هذه الذاكرة، لم تشف، سوى بالأمس القريب، من جرح آخر لا يقلّ عنه فظاعة ألا وهو جرح الأبارتيد الذي طال أبدان، كما مشاعر، أجيال من سود جنوب إفريقيا التي جسدت، وبامتياز، بؤرة الغطرسة البيضاء و التعالي العرقي وإقصاء الآخر، فإن الذاكرة العربية لم تقو، من جهتها، على البرء من جرح اجتياح المغول لبغداد، منارة العصر الوسيط، وتبدّد البرهة الحضارية الأندلسية الفريدة، في الوقت الذي ما برحت فيه المأساة الفلسطينية تنغّص على الشعور العربي العام. لكن إن كان الغرب المسيحي، المتمدّن، قد عاث خرابا في إفريقيا، فضاء وبشرا وثقافة، فإن لممّا يحسب كفضل للعرب على جيرانهم الأفارقة أنهم وفّقوا إلى انتشال الملايين منهم من اعتناقاتهم الوثنية واقترحوا عليهم الإسلام، كعقيدة كونية بديلة، سندهم في هذا مثال بلال، الأسود المسلم النّد لأيّما عربي مسلم قحّ كان، مثلما أتاحوا لهم الانتهال من معين الثقافة العربية، لغة و أدبا و فكرا و تصوفا - الطريقتان التيجانية و الشاذلية بوجه خاص - وأشكالا فنية.. فعلوا كل هذا توسلا بجهود زمر من الفقهاء والمتصوفة والدبلوماسيين والتجار والرحّالة وجوّابي الآفاق.. وليس عن طريق الحروب والغزوات (...).
ولا شك في أن أية مطارحة للأدب الإفريقي إلاّ و تقتضي، لزوما، استحضار فكرة الزنجية التي تناوبت على تثبيتها وتصليبها أجيال من الإنتلجنسيا السوداء، الإفريقية والأفرو - أمريكية والأنتيلية، والتي هي بمثابة النواة الصلبة لكافة تجليات الثقافة السوداء. فبإزاء غرب متعجرف وعدواني دمّر هوية إفريقيا وروحيتها.. احتقر إنسانها ونهب خيراتها.. كان لابد وأن يدفع هذا المصير الظالم بالسود إلى البحث عن إمكانية استعادة هوية قارتهم الأمّ وترميم روحيتها المشروخة.. الإعلاء من شأن إنسانها واسترجاع خيراتها و ثرواتها. وفي هذا المضمار يمكن التنويه، مثلا، إلى الفيلسوف آمو غينيا آفير الذي سيساق إلى أروبا كمجرد عبد وبأثر من إحساسه بمأزقه العبودي الخانق سيتفتح وعيه على هويته المغايرة، بل و سيعمد إلى التسلح بالمعرفة الغربية، الفلسفية تحديدا، كيما يستقيم له أن يفكر في مأزقه ذاك و يعقلنه، و ينظّر، بالتالي، لاختلافه عن أسياده البيض، ومن ثم نبوغه في ألمانيا آنئذ إلى حد تربّعه على كرسي الأستاذية في جامعات هال وويتنبرغ وإينا خلال العقد الرابع من القرن الثامن عشر، لتتوالى بعده أسماء أخرى، فكرية أو سياسية، كإدوار بلايدن وويليام دي بوا و جورج بادمور و قوامي نكروما وجومو كينياتا و جوليوس نيريري وباتريس لومومبا وأحمد سيكوتوري وأميلكار كابرال ونلسون مانديلا..
غير أن الانتعاشة الكبرى للفكرة وكذا ترسيمها في المحافل الأدبية والثقافية العالمية يعودان إلى الثالوث الذائع الصيت، إلى السينغالي ليوبولد سيدار سنغور والمارتينيكي إيمي سيزير والغوياني ليون داماس، وذلك من خلال مجلة «الطالب الأسود» (1934-1940) التي شكلت، إلى جانب مجلتي «الدفاع المشروع» و»مدارات»، منبرا حيويا لتفعيل الفكرة وتجذيرها، أو توسطا بأعمالهم الشعرية العميقة، مثل «أغاني الظل» (1945) و»القرابين السوداء» (1948) و»إثيوبيات» (1956) و»ليليات» (1961).. لسنغور، و»مذكرة العودة إلى مسقط الرأس» (1939) و»الأسلحة الخارقة» (1946) و»أغلال» (1960).. لسيزير، و»أصباغ» (1937).. لداماس، الذي نشرته دار غاليمار الباريسية ثم ليصادر بدعوى معاداته للغرب. وبالموازاة من هؤلاء ستتبلور أسماء أخرى وازنة ستساهم هي أيضا في الدفع، شعريا، بالفكرة ووصلها بآفاق تعبيرية وتخييلية مستحدثة ومتراحبة. من بين هؤلاء نشير، على وجه الخصوص، إلى كل من دافيد ديوب، بيراجو ديوب..من السينغال، جان جوزيف رابيريفيليو، جاك رابيمانانجارا، فيلافيان رانيفو.. من مدغشقر، تشيكايا أوتامسي.. من الكونغو، دنيس أوسادباي، غابرييل أوكارا، جوزيف كاريوكي.. من نيجيريا، ميخائيل ديانانج، كايبر منسا.. من غانا، أغوستينو نيتو، أنطونيو جاسنتو.. من أنغولا، سامورا ماخيل، نعيمة دي سوزا، مارسيلينو دوس سانتوس.. من الموزمبيق، أونيسيمو سيلفيرا.. من جزر الرأس الأخضر، لانغستون هيوز، كونتي كولن، سترلينغ براون.. من الولايات المتحدة، نيقولا غيين، خوسيه زكريا طاليت.. من كوبا، إدوار غليسان من الغوادولوب..
هؤلاء ممّن ذكرنا وغيرهم سيعملون، متضافرين، على اجتراح جملة شعرية نوعية ذات معجم خاص وتوليفات معتنفة، ابتناء مجازات وترميزات مغرقة في كثافتها و انعضالها، عملهم على استذمام المدنيّة البيضاء وتمجيد طزاجة الحياة الإفريقية وبدئيتها و التعرية عن مخازي الاسترقاق والاستعمار والميز العنصري، مسترفدين مختلف السّجلات اللغوية الإفريقية والمرويات الشعبية والطقوس الشعائرية، كطقس الفودو الهايتي، وذلك في مرمى إعادة الاعتبار للذات السوداء واسترجاعها لجدارتها وكرامتها المصادرتين ضدّا على النظرة الازدرائية البيضاء التي جعلت من الأسود، «ولنجرؤ على الإقرار بذلك، عدوا للقيم، وبهذا المعنى فهو الشرّ مطلقا» / فرانز فانون: «معذّبو الأرض» /، وهي نفس الغاية النبيلة التي سيسخّر لها نظراؤهم في الأجناس التعبيرية الأخرى نصوصهم و تجاربهم، سواء كانوا روائيين كالسينغاليين عبدولاي سادجي، سامبين عثمان، الشيخ حاميدو كان.. والإيفواري برنار داديي.. و الكونغولي جان مالونغا.. والغيني كامارا لاي.. والمالي سيدو باديان كويات.. والجنوب - إفريقيين بّيتر أبراهامس، هوت شنسون.. هذا دون أن ننسى الروائي الغوياني الكبير روني ماران الذي نال جائزة الكونغور الفرنسية الشهيرة عن روايته المتألقة «باتوالا» (1921)، وقد علّلت لجنة التحكيم تتويجه الرمزي هذا بكونه أول زنجي يتمكن من إبداع رواية تعكس بحق الروح الزنجية الأصيلة.. أو مسرحيين كالغانية إيفوا ثيودورا سوثرلند، صاحبة «سوف تؤدي اليمين»، والنيجيري وول سوينكا، صاحب «النسل القوي» و»سكان المستنقع»، ثم الجنوب - إفريقي أثول فوغارد، صاحب «عقدة الدم».. إضافة إلى سينمائيين نابهين، من أمثال السينغالي سامبين عثمان.. المالي سليمان سيسي.. الكاميروني ديكونغي بيبا.. النيجيري عمرو كندا.. اقتدروا على المواءمة بين اشتراطات الإبداعية السينمائية و بين التزامهم بقضايا العالم الأسود وهمومه(...).
ففي الوقت الذي لم تمنع فيه النظرة الاستعمارية الغرائبية إلى إفريقيا كمدى غابوي خرافي لا يحدّه البصر.. كموطن لزنوج عراة، وثنيين، يعتاشون على لحم البشر.. عددا من الشعراء الأروبيين، مثل غيوم أبّولينير و أندري بروتون، من الاستفادة، بالنسبة للأول، من جمالية التماثيل الزنجية في إغناء مشروعه الشعري - الكاليغرافي، و الإقرار، بالنسبة للثاني، بتتلمذه، من غير ما تحرّج، على يد الشاعر الزنجي السريالي إيمي سيزير في عمله المدوّخ «مذكرة العودة إلى مسقط الرأس»، و كذلك رسامين، كجورج براك و هنري ماتيس و بابلو بيكاسو، من الإشادة بالبساطة المذهلة في التشكيل الإفريقي و الاغتراف من تقنية التقنيع و تكسير الأبعاد في أعمال الفنانين الزنوج الفطريين.. لم يقتصر الأدباء العرب، و معهم الإعلاميون، على تجاهل الأدب الإفريقي و كفى بل و سوف يتسم تموقفهم من أقرانهم السودانيين طابع الاستغراب، إن لم يكن التضايق، إذ «ما أطول الدهشة التي ظلت تمارسها الصحف العربية تجاه الأدب السوداني الحديث» / ندوة «قضايا الأدب السوداني»، إعداد: حسب الله الحاج يوسف، مجلة «الآداب»، ع 3، مارس 1972 /.
إنه لمن المتعذر، فيما نرى، المجازفة بإحالة بعض الأعمال من المتن الأدبي والفني العربي الحديث على المرجعية الإفريقية، فلا روايات نجيب محفوظ و فؤاد التكرلي وعبد الكريم غلاب و الطاهر وطار و محمود المسعدي.. و لا قصص يوسف إدريس وزكريا تامر ومحمد زفزاف و محمد خضيّر.. و لا مسرحيات سعد الله ونوس و ألفريد فرج و الطيب الصديقي و روجيه عسّاف.. و لا اللوحات التشكيلية لجواد سليم وآدم حنين و أحمد مرسي وفاتح المدرس.. ولا سينما يوسف شاهين و محمد ملص والجيلالي فرحاتي و فريد بوغدير.. تغري بالحديث عن تضمّنات ثقافية ما متقصدة إن فكريا أو جماليا. وإذا ما استثنينا انفعال الرسام المغربي الراحل محمد القاسمي، نسبيا، بالفنون التشكيلية وخوضه لتجارب إبداعية في قلب إفريقيا السوداء وكذلك تحويل رواية «آه.. ابك يا بلدي الحبيب» للكاتب الجنوب - إفريقي ألان بّاتون إلى السينما من طرف المخرج المغربي سهيل بنبركة فالظاهر أننا لن نعثر على شيء ذي بال في هذا المضمار.
قد تشكّل اللغة المشتركة وازع مثول بعض الاستيحاءات والتداعيات والظلال في جانب من نصوص كتاب و شعراء فرانكوفونيين، كعبد اللطيف اللعبي ومحمد خير الدين.. من المغرب، ومولود فرعون وكاتب ياسين.. من الجزائر، وعبد الوهاب مؤدب.. من تونس، وأندري شديد.. من مصر، و جورج شحاذة و صلاح ستيتيه وفينوس خوري غاتا.. من لبنان، مصدرها أعمال كتاب و شعراء أفارقة يكتبون باللغة الفرنسية، كما قد لا يعزّ علينا ردّ مواظفة الموضوع الزنجي في قصائد نادرة لكل من بلند الحيدري و أحمد عبد المعطي حجازي و معين بسيسو وسميح القاسم.. إلى أسباب معزولة لا ترقى إلى مرتبة قاعدة مهيمنة، في حين يمكننا تبرير التقاطع اللافت، حقا، بين بعض قصائد محمد عفيفي مطر و قصائد بعينها لإيمي سيزير، إن من حيث التغريب اللفظي - الدلالي و فائض الكثافة الترميزية أو من حيث النزوع الاستبطاني - السريالي، بمحض المصادفة الشعرية. إن الخلفية الرؤياوية المستحكمة في الشعرية العربية المعاصرة لهي خلفية تمّوزية ضاربة تتفاوت تنويعاتها الميثولوجية بين هذه التجربة و تلك بيد أنها لا تنأى عن جوهرها الإحيائي، الابتعاثي، المعروف، أمّا الشعرية الإفريقية فهي تصدر، في مجملها، عن حسّ رؤياوي أورفيوسي يؤول إلى دلالة الفقد، الحرمان، و الاستحالة، و هو ما يدافع عنه جان بول سارتر في تقديمه المميّز، الموسوم ب «أورفيوس الأسود»، الذي خصّ به «أنطولوجيا الشعر الزنجي الجديد و الملغاشي المكتوب باللغة الفرنسية» التي أنجزها ليوبولد سيدار سنغور، بل إن حلقة من الشعراء النيجيريين، نشأت في ستينات القرن العشرين، سوف تعمّد نفسها بتسمية «أورفيوس الأسود»، هذا و ليست هذه الشعرية هي ما يصدر عن الأورفيوسية و إنّما كامل الأنواع الأدبية الإفريقية و كمثال صدور رواية للكاتبة الكاميرونية ويريري لينكنغ تحت مسمّى صريح ألا و هو «أورفيوس إفريقيا» (1982).
من المحقق أن هناك بعضا من نقاط الضوء أو العلامات الإيجابية في سيرورة العلائق الأدبية و الثقافية العربية - الإفريقية، من ذلك ما شهدته مصر الناصرية، في تضاعيف خمسينات و ستينات القرن المنصرم، من انفتاح إيجابي على إفريقيا و انخراط في قضاياها سيعرفان ملموسيتهما الأدبية و الثقافية في حصيلة لابأس بها من الدراسات والوثائق والمترجمات التي ستقرّب أكثر العالم الإفريقي إلى أذهان المبدعين و القراء العرب سواء بسواء. و بالمناسبة لا ضير في أن نفرد بالذكر بعض العناوين الأساسية في هذا المضمار، ككتاب «وجدان إفريقيا» لجمال محمد أحمد و «مطالعات في الشؤون الإفريقية» و»ألوان من الأدب الإفريقي» لعلي شلش، الذي سيتولى كذلك ترجمة كتاب جيرالد مور المعنون ب «سبعة أدباء من إفريقيا»، و»مختارات من الشعر الإفريقي - الآسيوي» الذي أشرف عليه كل من إدوار الخراط ونهاد سالم بينما تكفلت بالترجمة جماعة من الكتاب.. هذا دون إهمال ما كان من فائدة التقاء و تحاور الأدباء العرب و الأفارقة في إطار منظمة الكتاب الأفرو - آسيويين التي احتضنتها القاهرة و تجاور قصائد الشعراء منهم في رحاب مجلة «اللوتس»، لسان حال المنظمة، أو حظوة عاصمة عربية، هي الجزائر، باستضافة الدورة الثانية لمهرجان الثقافة السوداء عام 1969، بعد دورته الأولى التي انعقدت بداكار عام 1966 وقبل الدورة الثالثة التي جرت أطوارها بلاغوس عام 1977.
لكن، وحيال هذه التحققات، فإن السمعة الطيبة التي كانت لليوبولد سيدار سنغور، بوصفه أحد حكماء إفريقيا، في العالم العربي، و في المغرب بوجه خاص، لم تتثمر امتدادات شعرية يعتدّ بها لتجربته في الكتابة الشعرية العربية المعاصرة، تماما كما لم يفلح تواجد الجالية السينغالية بالمغرب، مثلا، في إفراز أسماء و كفاءات إبداعية يمكنها خدمة التقارب الأدبي السينغالي - المغربي، والإفريقي - العربي في نطاق أوسع، و بالمثل فإن إقامة الشاعر الرومنتيكي السوري اللامع، عبد الباسط الصوفي، لردح من الزمن في غرب إفريقيا، و ذلك في إطار مهامّه الدبلوماسية، لم يسفر عن تأثيرات محسوسة في النص الشعري الإفريقي. وإذا كانت الجالية المغربية - اللبنانية في السينغال و الغابون وغينيا وساحل العاج... ونظيرتها اليمنية - العمانية في تنزانيا وزنجبار.. قد نجحتا في إفراز رجال صناعة ومقاولين ومتاجرين وحرفيّين.. موهوبين و مهرة فإنهما أخفقتا، بالمقابل، في بلورة أسماء وكفاءات إبداعية بمقدورها تشكيل طليعة متقدمة لاختراق الكتابة و الذائقة الإفريقيتين كلتيهما.
على سبيل الختم نقول: هل سيبقى محتّما على الأدباء العرب و زملائهم الأفارقة أن يشتطّوا بمخيلاتهم بعيدا صوب المراكز الأدبية العالمية المتنفذة، صوب أروبا والأمريكيتين واليابان والصين.. متنكرين، هكذا لبعضهم البعض ؟ أهي عقدة الولاء للمركز الثقافي و إقصاء الهوامش الثقافية لبعضها البعض ؟ أو ليس في مجازاة اسمين أدبيين كبيرين، العربي نجيب محفوظ و الإفريقي وول سوينكا، بوسام نوبل للآداب عبرة و أيّما عبرة لأدبين اثنين متجاورين مفادها جودة أدائهما و عمق محمولهما ممّا استحقّا عليه هذه الالتفاتة الكونية ؟ أفلا تستوجب مخاطر الآلة العمياء، الكاسحة، للعولمة الثقافية تعاضدا أكثر وأصلب بين الهويات والثقافات، المحلية و الجهوية والقارية، وإلاّ حكمت على نفسها بالاندثار والامّحاء؟!
وممّا لا شك فيه أن الوعي المسؤول للقائمين على الشأن الأدبي، في العالمين كليهما، بجسامة إضاعة ما ينطوي عليه جوارهما من فرص جمّة واعدة لهو المفتاح الحقيقي لبوّابة مستقبل أدبي مشترك، أرقى وأمثل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.