على سبيل البدء أزعم أنني كنت واحدا من أقرب المقربين للفقيد العزيز السي الغالي العراقي.. امتدت علاقتنا لأزيد من عشرين سنة، عايشنا العديد من الأحداث، واسترجع معي الكثير من وقائع الماضي وتحولات الحاضر، وخلالها عايشت السي الغالي في كل حالاته، وهو يبتسم، وهو يتألم، وهو ينفجر ضاحكا من وعلى... وهو ينفجر غضبا وحزنا وكمدا وغصة على ما آلت إليه الأمور والأوضاع والبلاد والعباد، فيصرخ بنبرة استنكار: آش هاد المسخ... كان كثيرا ما يتألم،، لأنه كان كثيرا ما يحلم... يحلم بمغرب آخر، جديد، جميل وسعيد، مؤمن حتى النخاع بالحرية، التي كان يربطها باستمرار بالمسؤولية، المسؤولية لا تعني لديه قمعا حريريا للحرية وتسييجا لها، وإنما الذهاب بالحرية إلى آفاق رحبة في سعادة وإسعاد الإنسان، المواطن، إنها مرادفة للتقدم، للكرامة، للعدالة الاجتماعية... يكره الكسل والخمول.. والانكفاء والانحسار داخل وثوقيات بلا معنى.. ولذلك كان كثيرا ما يتعذب.. وكثيرا ما يغرق في البحث.. هنا وهناك.. سعيا لفهم أكثر لما جرى، وأيضا لما يجري... فتراه يقرأ ويبحث عن المراجع وعن المصادر.. وتلك أهم خاصية عشتها مع الفقيد العزيز... ولعل أبرز مثال على ذلك مكتبه داخل بيته، بمجرد ما يدخل المرء إليه، تسترعي انتباهه خريطة ترصع زاوية من المكتب، تمثل التراب الوطني في حدوده الطبيعية والتاريخية، التي كانت تمتد من مدينة طنجة شمالا إلى مدينة أندرسان لوي السينغالية جنوبا، ومن الواجهة الساحلية للمحيط الأطلسي شمالا وجنوبا، إلى عمق التخوم الصحراوية الجزائرية شرقا، وبمحاذاة الحدود المالية، تخترق العرق الشرقي الكبير، الذي يمتد عبر مقاطعات الجنوب (تديكلت، وعين الصالح، والكورار)، مرورا بالأطلس الصحراوي، وجبال القصور، لتنتهي في سواحل البحر الأبيض المتوسط، بمحاذاة بني مصاف (الغزوات) شمالا... جوانب هذا المكتب مملوءة برفوف كتب مصففة، أغلبها مصادر ومراجع علمية وتاريخية، عربية وفرنسية وإسبانية، فيما جل مواضيعها تخص تاريخ المغرب، ومراحل نضاله خلال القرن الماضي، من الجهاد التحريري للخروج من ظلام الحجر والاحتلال إلى نور الحرية والاستقلال، وصولا إلى النضال الوطني من أجل استكمال الوحدة الترابية بتجسيد الحقوق الوطنية المشروعة على الأقاليم الجنوبية... هذه الكتب لا علاقة لتصفيفها بنزوع نحو الزينة والتباهي، إذ أن صاحبها التهمها عن آخرها، وظل، إلى آخر نفس، يطلب المزيد... السي الغالي، منذ عرفته، قارئ نهم، للكتب وللصحافة الوطنية والأجنبية، بصفة يومية ومنتظمة، بيد أنه لا يحصر نفسه في خانة القارئ المستهلك، إذ يصر على الإنتاج، والكتابة بانتظام، لطرح أفكار جديدة، أو لمناقشة آراء ومواقف تنشر في الساحة الوطنية والعربية، في كل ما يتعلق بتاريخ الحركة التحريرية المغربية والمغاربية... عشت معه الكثير من مراحل حياته الأخيرة، على مدى عشرين سنة، يقرأ، يبحث، يترجم، ويكتب... لا يتعب من الكتابة.. ويدقق في اللغة التي يكتب بها.. كان من الأطر القليلة في الحركة الوطنية، الذي كان يزاوج بين ثقافة فرنكفونية، وإلمام جيد بالإسبانية، إضافة إلى تكوين عربي أصيل وعميق... مجاهد من هذا الزمان انضم السي الغالي، وهو من مواليد يوم 27 فبراير سنة 1924، إلى الحركة الوطنية الاستقلالية، بتزامن مع تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، وعمره آنذاك 20 سنة، كان انخراطا طبيعيا في العمل الوطني، باعتباره يتحدر من عائلة محافظة وطنية ملتزمة، تربى في أوساط الكفاح والنضال، بتوجيه من أخيه المجاهد قاسم العراقي، ممثل حزب الاستقلال بناحية دكالة في العهد البطولي لمدينة الجديدة. ويصفه الراحل الأستاذ قاسم الزهيري في تقديم كتابه «ذاكرة نضال وجهاد»، أنه كان مناضلا متحمسا قبل أن ينتقل إلى مدينة البوغاز، حين دعته حميته إلى مواصلة الكفاح في هذا الثغر، قبيل الزيارة الملكية التاريخية إلى طنجة سنة 1947، ومن هذه القلعة الشامخة، انخرط السي الغالي في انتفاضة التحرير... وجاءت أول محطة، في هذا الصدد، في أعقاب مذبحة «كاريير سنطرال»، التي تخللتها تظاهرات دموية، على إثر اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد سنة 1952، إذ تأزمت الأوضاع بالمنطقة السلطانية، وألقي القبض على أغلب المسؤولين الوطنيين، والآلاف من المواطنين، فتكونت بطنجة لجنة الاستخبار والتنسيق لاستدراك الموقف النضالي الاستقلالي، وتشكلت، بالإضافة إلى فقيدنا الغالي العراقي، من: عبد الرحمن اليوسفي، وعبد اللطيف بن جلون، وعبد الكبير الفاسي، والمختار الوسيني، والعربي الفحصي... ثم أعقبتها ثاني محطة كبرى في حياة فقيدنا الغالي، على إثر مؤامرة نفي الملك محمد الخامس وأسرته، بتكوين أول خلية بطنجة لإمداد حركة المقاومة بالسلاح والعتاد، بتدبير مباشر من الحسن العرايشي.. وأعقبتها المحطة الثالثة، بعد تطورات الأحداث، حين التحق السي الغالي بالقيادة المركزية لجيش التحرير بشمال المغرب، وهي محطة غنية بجليل الأعمال، وبكثير من التضحيات والمعاناة، إلى أن حصل المغرب على استقلاله السياسي... 4 محاور أطرت اختلالات مغرب الاستقلال اختار السي الغالي لمساره صوتا فاعلا، ونشاطا بعيدا عن الأضواء منذ فبراير 1962، لعدة أسباب ليس هنا مجال التفصيل فيها، لكن يمكن إجمالها في ما كان الفقيد يعتبرهم عصابة القهر والظلم، وما مارسوه من أنواع المضايقات والتهديدات، التي واكبت مسيرة الكفاح الوطني، قبيل وبعد حصول البلاد على الاستقلال، وهي «العصابة»، التي ستدفع البلاد دفعا إلى ما سمي سنوات الرصاص... وبالنظر إلى ما لهذه القضية من علاقة وثيقة بتحولات مغرب اليوم، يمكن الوقوف عند هذه المرحلة، التي أطرها السي الغالي، في أربعة محاور، اعتبرها، في حينه، وظل يعتبرها من العوامل الأساسية لتعثرات البلاد آنذاك... المحور الأول: المؤسسة الملكية هي رمز السيادة والشرعية على مدى أكثر من ثلاثة قرون ونصف، وجدت محيطها، بعد نفي دام 27 شهرا، يفتقر إلى أبسط الأطر والأعوان لترتيب البيت، وتأمين مسالكه، ما ألزمها أولا البحث عن مخرج لكسر جمود وضعية مهترئة مبنية على أسس عتيقة، أدت إلى فرض الحماية واستعمار البلاد وتقسيم التراب الوطني... يعتبر السي الغالي أن المؤسسة الملكية، تحت قيادة محمد الخامس، تمكنت من تجاوز خلافات ذرية السلطان الحسن الأول، وحاولت الانتقال إلى مؤسسة ملكية رائدة وفاعلة، لم تتخل عن دورها النضالي في معركة التحرير الوطني... لكنها، أمام تراكم الاستحقاقات الأساسية وضغط الأحداث، تسامحت وغضت الطرف عن سلوكات خُدام المُلك الجدد وتجاوزات أفعال بعضهم السابقة، ومواقف البعض منهم خلال معركة التحرير، لدرجة أن اختياراتها انحصرت وسط العناصر العسكرية والمدنية الموجودة على الساحة أو المندسة عمدا وسط محيطها، فيهم من يفتقر إلى الرصيد الوطني والحس النضالي، ومنهم من وُجد لتنفيذ التعليمات الاستعمارية، لإجهاض الالتزامات الملكية الوطنية في بناء الديمقراطية، بل ويرى السي الغالي أنه جرى «التغرير ببعض دوائرها العاملة والمتبصرة، والدفع بها إلى مسار ملغوم، يسهر عليه عملاء الإنزال الاستعماري في ركاب العودة المظفرة، ويؤطر تحركه أعضاء نادي الأحرار المقربون من الدوائر المقررة، التي ساهمت في بوادر الأزمة الحكومية، وزادت من تشنجها وتعقيداتها، فلم يتورعوا في إقحام اسم المؤسسة الملكية في الخلافات السياسية والتنظيمية، خلال نقاشات ترتيبية للوضع الموروث عن إدارة الحماية، وجعلوا منها طرفا أساسيا في النزاعات، عوض أن يحتفظ لها بمكانة السيادة وهيبة الحكم». المحور الثاني: الحركة الوطنية السياسية هي التي بنت فكريا منهجية المستقبل، والتزمت بتكوين وتأطير القاعدة التنظيمية، وتوفير الوسائل الأساسية لخوض معركة الكفاح والجهاد.. لكن، عند الحاجة، ستجد أن هياكلها تفتقر إلى أطر متبصرة لسد الفراغات، وإلى كفاءات إدارية ضرورية لتحصين وتأطير أسس الدولة العصرية. وفي الوقت نفسه، وعوض أن تضبط مد الجسور الأساسية والتنظيمية لدى تكوين حكومة المفاوضات، توافقت وتسامحت وسمحت بمشاركة الانتهازيين، ومجاملة عناصر التعصب حاملي النظريات المتطرفة، التي تبوأت هي الأخرى مسؤوليات أمامية، زد على هذا وذاك بروز أشباح السياسيين من المتقاعدين والمتخاذلين المتفرنسين، الذين جعلوا من أول حكومة في عهد الاستقلال هيئة جامدة يرأسها ضابط متقاعد في الجيش الفرنسي، في وقت كان من المفروض على كل القطاعات والهيئات الوطنية وزعماء المرحلة التصدي لأنصاف الحلول. وفي هذا الصدد، يكشف السي الغالي مغالطة القول بأن الحكومة الأولى والثانية حكومتان انتقاليتان وإنهما تتشكلان من حزبين وطنيين وشخصيات مستقلة، في حين يبرز السي الغالي أن هناك مكونات أخرى موجودة وأخرى مقصية، فهناك حضور من سموا بالأحرار والمستقلين، في مقابل غياب منطقة الكفاح الشمالية بكاملها، ومنظمات التحرير الشعبية بجمعياتها، ليخلص إلى أن الحركة الوطنية بكل مكوناتها ومنظماتها النقابية والثقافية والشبابية مجتمعة ومتفرقة، تحملت مسؤولية جسيمة لقبولها وسكوتها على الحلول العرجاء... المحور الثالث: حركة المقاومة وجيش التحرير وهما تتحدران أصلا من الحركة الوطنية، وحققتا أكبر الإنجازات وفرضتا عودة الشرعية، لكنهما اتهمتا، غداة 16 نوفمبر 1955، باطلا، بنوايا انقلابية فسرت تفسيرا مغرضا أريد به باطل، وألصقت بهما كل أنواع الخرافات والتلفيقات، رغم أن الخاص والعام يعرف أن حركة التحرير المغربية المناضلة والمجاهدة لم تقم، أساسا، من أجل الحكم والسيطرة عليه، وتصرفت مع كل شرائح المجتمع السياسي والنقابي باستقلالية صريحة، رغم أن بعض القيادات، سواء داخل جيش التحرير أو المقاومة المسلحة، رضيت وسكتت هي الأخرى على سياسة التراضي والتسامح، احتراما وتقديرا لمكانة الملك الجاهد حيث تمكنت بعض المراكز الاستخباراتية الأمنية المدنية منها والعسكرية من احتواء بعض العناصر المناضلة للانضمام إلى مرافقها وأسندت لهم مسؤوليات استخباراتية، ومراكز أمنية، وفتحت نعرة الأنانيات القبلية، والانتماءات الجهوية العتيقة، فحدث ما كان متوقعا من اختلالات أدت إلى مواجهات دامية وتصفيات ذاتية لم يكن أحد راضيا عنها، ولا يرغب أصلا في حدوثها، فحاق بالجميع ما يحيق بكل حركة تحريرية أخلّت برصيدها المكتسب بفضل التضحيات والكفاح المرير، وتخلت عن واجباتها عندما أوكلت شؤونها إلى أياد وطنية مناضلة تفتقر إلى التجربة السياسية وإلى التكوين الإداري اللازمين لضبط مقاليد المرحلة التنظيمية، والسهر على تفعيل الانتصارات النضالية، إذ جرى استغلالها من قبل عناصر فوضوية غير مؤهلة لهذه الفترة الانتقالية، مما وضع حركة التحرير في أتون المزايدات السياسية والنقابية، والانكسارات والإحباطات والتصفيات... المحور الرابع: عصابات المتآمرين على التحرير ويتعلق الأمر بالقوة المناهضة لحركة التحرير، التي تجمعت غداة إعلان الاستقلال، وتكونت من «الرجعية والإقطاعية المحلية بكل انتهازييهما ومرتزقتهما وطابورهما الخامس، زد على كل هذا الخليط جميع أفراد جوقة المتقاعدين المتخاذلين المتآمرين، الذين تقدموا دون حياء الصفوف أمام الشرعية المجاهدة تحت شعارات متنوعة، واختاروا خلط الأوراق والتلاعب بالمشاعر وبالنيات الصادقة المتجذرة في مختلف الشرائح والهيئات الشعبية، فكان تعلقهم نفاقا بالشرعية الملكية، في حين ظلوا يعملون في العمق لمناهضة توجهاتها التضامنية مع الحركة الوطنية، التي تستهدف أساسا إصلاح الوضع الموروث عن الاستعمار وبناء المغرب الجديد الحر المستقل... لعبت هذه الفئة المتطفلة بهيكلتها الإقطاعية وأفكارها الرجعية وسلوكها الانتهازي، دورا حاسما في زعزعة الثقة القائمة بين القمة والقاعدة، واستغلت جو الخلافات السياسية داخل الجهاز الحكومي وخارجه لأسباب في بعض الحالات تافهة وبئيسة... وكان منتظرا أن تتحرك الشرعية الملكية لاتخاذ المبادرة لوقف كل أسباب هذا التدهور والتوتر المصطنع، بوضع حد لتصرفات المتآمرين الحقيقيين على الشرعية والاستقرار... لكن التردد في المبادرة فتح الباب أمام التوترات والتمزقات والتطاحنات، التي تبين أنها مؤامرة مبرمجة أصلا وليس لمواجهة كتلة أو هيئة مهيمنة كانت تريد حكم البلاد بمفردها كما يدعون... مؤامرة استهدفت زعزعة استقرار المغرب ومناهضة شرعية نظامه ووحدته الترابية... واتضح، في هذه المرحلة الانتقالية، وفق تعبير السي الغالي العراقي، أن البلد، الذي تكثر في كيانه النعرات القبلية القبيلة، لا يحتاج، لإيقاظ الفتنة في ربوعه، لأكثر من خبر مزيف أو خرافة ملفقة، لاندلاع النيران، وكمثال على ذلك، يورد السي الغالي العراقي أحداث ناحيتي تازة والخميسات (دجنبر 1955 ويناير 1956)،،، ليكشف أن هذه التحركات المشبوهة، كان يحضّر لها ميدانيا على مرأى ومسمع مسؤولين حكوميين، بل بمشاركة وزير... مثلما هو الحال في ما سمي ب»عصيان» عدي أوبيهي... السي الغالي يعتبر أن هذه الأزمة، وغيرها، كانت مفتعلة، ولم يقع أي حل جذري حتى بعد انكشاف العناصر المؤطرة والمشاركة الرئيسية في هذه «السيبة» المرتبة ترتيبا رديئا، مما جعل الأمور تتطور إلى صراع تآمري ومزايدات تضليلية، وعلى يد الأشخاص أنفسهم، المحركين الأساسيين، الذين لم يستطيعوا ضبط المسار المقرر، فانفلتت الخيوط التآمرية من أيديهم ومن مراقبة مسيريهم المتلاعبين بمصير البلاد والعباد، فاندلعت حوادث الريف الدامية، التي حيكت تفاصيلها بواسطة عناصر مشبوهة، وتعقد المسار المرحلي واتضح للعيان أن المغامرة تجاوزت الأسباب السياسية المطبوخة، واتجهت في مسار مزدوج يعمل في اتجاهين متناقضين كلاهما جاء من صنع الدوائر المتناحرة على السلطة بالرباط منذ الاستقلال المبتور، الذي أدت فيه الحركة الوطنية بكل شرائحها، خصوصا منهم سكان المنطقة الريفية، ثمنا باهظا أقبر التجربة الديمقراطية الفتية، وفتح المجال أمام المغامرة والمغامرين، الذين أزاحوا الأقنعة واتجهوا في آخر المطاف إلى المحاولتين الانقلابيتين العسكريتين سنتي 1971 و1972، وهم من ائتمنتهم المؤسسة الملكية على الشرعية والنظام والاستقرار!!! من أجل إخراج مسيرة كفاح الشعب من المغالطات والتضليلات أعتقد أنه توصيف دقيق من شأنه أن يسلط الكثير من الأضواء على تحولات المرحلة، والمثير أن فقيدنا الغالي كان عبر عن هذا التصور في حينه، خلال الاجتماعات البارزة للحركة التحريرية آنذاك (اجتماعات يوليوز/غشت 1956)، وزادت قناعته بجدارة هذا التصور مع انكشاف الكثير من الحقائق، رغم ركام التغطيات التحريفية المناورة، التي مازالت مستمرة إلى اليوم، من خلال مذكرات مشبوهة... إنه توصيف مختزل، لكنه قوي في دلالاته، وفي تفاصيله، التي أتوفر عليها، ونسخة منها مازالت بين أيدي العائلة الكريمة، لم تسعفنا الظروف، عقب مرض فقيدنا الغالي، في إتمامها وإخراجها في كتاب كان يهيء له السي الغالي العراقي، أتمنى أن تسعفني الظروف لتنفيذ وصية فقيدنا الغالي لي، وهي إخراج مخطوطه في كتاب... من القيم الكبرى التي كان فقيدنا الغالي يتصف بها ويمارسها، هي الوفاء، منذ عرفته، لمست فيه هذه الخاصية، الوفاء لأفكاره لمبادئه، للقيم الوطنية التي تربى عليها جيله، الوفاء لرفاقه، ولا أدل على ذلك من أن أكشف هنا أن هذا المخطوط، الذي كنت أواكب اشتغال السي الغالي عليه، يتضمن مساحة مهمة خصصها للتعريف ببعض جوانب شخصيات رفاقه في الكفاح، ولاستعراض آرائهم وتصوراتهم حول ما كان يجري آنذاك، منهم من غادرنا، من أمثال عبد السلام بناني وعبد اللطيف بنجلون التويمي والمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، ومنهم من مازالوا أحياء بيننا، نتمنى لهم الصحة وطول العمر، أمثال السي عبد الرحمن اليوسفي والسي محمد بنسعيد أيت إيدر، كما استعرض الكثير من تفاصيل لقاء الشهيد المهدي بنبركة مع القيادة المركزية لجيش التحرير بتطوان، وتفاصيل محادثات إيكس ليبان، وتفاصيل العلاقات بين الحركتين التحريريتين المغربية والجزائرية... ويعتقد السي الغالي أن ما يتوخاه، بهذا الصدد، هو توفير كل ما من شأنه أن يساعد الباحثين والمؤرخين في أعمالهم، لأن «أغلب هذه المراحل، التي يتعرض لها، تُغيب ليسهل تهميش دور رموز الحركة الوطنية المناضلة، وعطاءات المجاهدين المجددين في الحركة التحريرية، لفائدة جوقة المتقاعدين، وشلة المتخاذلين، الذين اجتاحوا الساحة بعد المعركة وغداة العودة المظفرة لمحمد الخامس، فاستغلوا الظروف، وتقدموا الصفوف، دون حياء ولا خجل، وهم من غادروا الميدان تفاديا لأي اتهام بالاتصال أو التواصل مع حركة التحرير، بل منهم من ترك حتى التراب الوطني بكامله جبنا وخداعا، دون أن يكون لهم أي ذكر أو موقع في صفوف حركة الكفاح والجهاد، ومنهم من تسلل إلى اختراق صفوة من المقاومين، وتزين بلباس أفراد جيش التحرير، يوم تقرر استعراضه أمام جلالة الملك، ورئيس أركان جيشه»... وما أصدق فقيدنا الغالي وهو يضيف مؤكدا بالحرف أنه «إلى يومنا هذا لايزال منهم من يدعي انتماءه لجيش التحرير، ولم يتردد في محاولاته اليائسة والفاشلة أيام «السيبة» المرتبة التي ظهرت بوادرها غداة 16 نوفمبر 1955، تحت ذريعة معارضة «الحكم الفردي»، ومحاربة «الاستبداد الحزبي»، عندما لجأت حركة الضلال والتضليل، إلى تحريف الشعارات الوطنية، ونسف المسالك النضالية بسن تصرفات ابتزازية، واستغلال غياب أو صمت الأطر الجهادية، وتقديم حركة التحرير كمجرد تجمع لأفراد مغامرين، متناحرين...». ويخلص السي الغالي العراقي إلى أنه من مسؤولية الباحثين المهتمين، توثيق مراحل هذه الحقبة التاريخية بكل موضوعية وتدقيق بما لها وما عليها، حتى لا تبقى مرحلة كفاح الشعب تائهة بين المغالطات والتضليلات، التي تغيب الحقيقة النضالية للمقاومة الشعبية... على سبيل الختام من عجائب الصدف أننا نحيي اليوم، في شهر فبراير، أربعينية الفقيد المجاهد الغالي العراقي، وفي هذا الشهر نفسه تحل ذكرى ميلاده، في 27 فبراير... بهذه المناسبة أتذكر مناسبة زيارة شخصية لإقامة فقيدنا الغالي في 27 فبراير 2007، في يوم ذكرى ميلاده الثالث والثمانين... عندما دخلت البيت، كنت وجدت الفقيد منغمسا في حوار هادئ مع رفيقة دربه الفاضلة سامية الهاشمي، وأم التوأمين العربي والمهدي... كان الزوجان العزيزان يتهيآن لمشاهدة شريط وثائقي سجل مع القناة الأولى المغربية حول «مفهوم وصيانة الذاكرة الوطنية، والتواصل بين الأجيال» بمساهمة كل من المجاهدين الغالي العراقي ومحمد بنسعيد آيت إيدر، والأساتذة مصطفى الكثيري، ومحمد عياد، وشبيهي حمداتي. وكان هذا الشريط سجل يوم 16 نوفمبر 2006 بمناسبة الاحتفال السنوي بذكرى العودة المظفرة للملك محمد الخامس... وكانت فرصة لمشاركتهما مشاهدة التسجيل، كان السي بنسعيد، كما العادة، صريحا وواضحا في أفكاره، التي يطرحها بصدق وعمق، وبالعمق نفسه، كانت مداخلات السي الغالي، ومواقفه النقدية واقتراحاته البناءة حول دور المرأة في الحياة السياسية، ومساهمتها الفاعلة في المجتمع المدني، ودور الشباب في تحمل المسؤولية، وتوفير السبل الكفيلة بإنجاح تشبيب الأطر والقيادات، ليتأتى بناء المستقبل الواعد. ولتزامن هذا اللقاء مع يوم ميلاد السي الغالي، خلت أنه نسيه، ومنّيت النفس بمفاجأته وتذكيره به، بيد أنني وجدته يتذكره جيدا، وكانت تلك طريقته في الاحتفاء به، معتبرا إياه مناسبة لاستحضار شريط الوقائع والأحداث، والتأمل في مسيرتها، ومضى السي الغالي يقول بالحرف: «إن ما أعيشه حاليا، اعتبره هبة من الله تبارك وتعالى، أنعم علي بها بعدما وهن العظم، وأنا أطفئ الشمعة الثالثة والثمانين، متمتعا والحمد لله بحاسة السمع ومكرمة البصر، وصحوة التفكير، وفصاحة التعبير، لا أخاف في الله لومة لائم، ولا أجامل في الحقيقة الوطنية مؤاخذة رفيق ولا حاكم»... وبعد وقفة قصيرة التقط فيها أنفاسه، زاد قوله: «صراحة، بقدر ما تراني غير نادم على المسار الذي سلكته، والنهج الذي اخترته لمسيرتي قبل وبعد الاستقلال، ولا على اعتزالي المسؤولية الإدارية، ولا تجميد مشاركتي السياسية الحزبية، محبذا البقاء في صفوف رجال الظل، الأوفياء بما عاهدوا الله عليه، بقدر ما أحمل الكثير من الآمال لأن يتحقق العدل والإنصاف في حق أعمدة التحرير الأصليين، ودعامات الاستقرار الشرعيين المتأصلين، الذين وهبوا أرواحهم في سبيل استقلال البلاد وتحرير العباد». هذا هو الغالي العراقي، مجاهد من هذا الزمان، صادق وعميق، سواء وهو يتحدث بألم، أو وهو يرسم معالم المستقبل بأمل. تحية عرفان ووفاء وحب لشخص كان، إلى آخر رمق في حياته، أستاذي ووالدي وصديقي ورفيقي...