أسئلة السياسةوالدستور المغربي .. مدى قابلية الفاعل السياسي في التأقلم واستيعاب واستثمار مقتضيات الوثيقة الدستورية .. أعطاب التنزيل والتعامل مع نفس المقتضيات .. روح وفلسفة الدستور، ضعف الثقافة السياسية والثقافة الدستورية أيضا وسط الحياة المغربية .. نقاط القوة والضعف وكيفية الانتقال من منطق دستور قديم إلى فضاءات عميقة تنسج في مضامينها ملامح الدولة الحديثة .. نقاط ومعطيات شكلت أرضية لنقاش رصين مع الباحث والخبير المغربي الأستاذ عبد الرحمن بنيحيى.. } هل يمكن اعتبار دستور 2011 هو دستور للربيع العربي .. أم أنه دستور لربيع مغربي صرف ..؟ في الحقيقة ما سمي بالربيع العربي خلق جوا جديدا في الساحة السياسية المغربية ، وأهم السمات التي ارتبطت بهذه اللحظة .. هو تحرر الكلمة والألسن و خروج الشباب المغربي إلى الشارع للتعبير عن طموحاته المختلفة والمتنوعة، وهذه مسألة جوهرية .. بل الإرادة العميقة لهذا الشباب في التغيير السلمي، اكتساحه للساحة ورفعه شعارات مناهضة للفساد والتسلط ساهم في تسريع وتيرة الإصلاحات المؤسساتية في المغرب . يجب ألا ننسى أن الإصلاحات التي كانت تنادي بها الحركة الوطنية والتقدمية، بدأت مع حكومة التناوب في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية، واستمرت الأوراش مع وصول الملك محمد السادس، حيث تسارعت هذه الإصلاحات في مجال حقوق الإنسان، ومع ذلك لم يكن في الأجندة الرسمية إلى حدود سنة 2010 موقع للإصلاحات المؤسساتية، كانت أولويات الدولةهي تأهيل الاقتصاد الوطني لجعله تنافسيا على الصعيد الدولي . تحسين مناخ الأعمال والانخراط في الاقتصاد العالمي .. كان هذا هو الرهان الحاصل وذو الأولوية عند العقل السياسي الرسمي. } في هذه اللحظة السياسية الوطنية التي تتحدث عنها .. أستاذ بنيحيى كان هناك من يرجح الاقتداء بالنموذج التونسي والمصري .. الذي يقدم سلطة التكنوقراطي على السياسي ..؟ بالفعل كان هناك من يدافع عن هذا الطرح من داخل الدولة, لكن تسارع الأحداث وتفاقم الأزمة المالية العالمية وانهيار النموذج المصري والتونسي أربك الحسابات وجعل الإصلاحات المؤسساتية وتغيير الحكامة يصبح من الأولويات .. بل يتصدرها، وهذا ما دفع الدولة المغربية لأن تستجيب بسرعة وتنتظم في خط الإصلاح المباشر، وهو عكس ما وقع في بلدان أخرى التي واجهت مطالب التغيير بالقمع و الرصاص الحي. } هل كانت الحياة السياسية المغربية في حاجة إلى ما سمي بالربيع العربي كي نحصل على دستور 2011..؟ لقد باغت الربيع العربي الجميع، وعجل بانطلاق مسلسل التغيير كما قلنا سابقا، الجميع كان انتظاريا ومتخوفا من مطلب الإصلاحات الدستورية، وحده فقط الاتحاد الاشتراكي الذي قدم مذكرة الإصلاحات .. وكان جميع الفاعلين الحزبيين عندما استشيروا أو جولسوا من قبل القيادة السياسية للحزب اعتبروا أن ذلك ليس أولوية ذات راهنية . } هم أنكروا ذلك وقتها .. وبعضهم استكان للصمت.. !! لا داعي لنقول ذلك اليوم، لقد أصبح في حكم الماضي .. (يضحك ...) .. لكن لا بأس بأن نذكرهم .. المغرب كان في حاجة للتغيير، كان ضروريا عندما أتى الملك محمد السادس إلى العرش ، أن يتم طي صفحة الماضي عبر القيام بمصالحات كبرى للقطيعة مع وضعية سابقة في تقاطعاتها السياسية والحقوقية والاقتصادية، ولكن لتكملة مشروع الإصلاح هذا كان لابد من إصلاح مؤسساتي .. فالبلد كان محتاجا للتغيير. } علاقة بذلك.. هل يمكن اعتبار التراكمات السياسية التاريخية للمغرب الحديث عنصرا حاسما في الحصول على دستور حاز الأغلبية .. وفيه كثير من النفس الديمقراطي .. ليس أقلها مفهوم فصل السلط التي ظلت الطبقة السياسية الوطنية تنادي به في زمن الصراع بين المؤسسة الملكية والقوى التقدمية ..؟ الوثيقة الدستورية غنية جدا، لأنها تؤسس لنظام سياسي جديد و هو كذلك برنامج عمل وتصور عميق لبناء دولة حديثة، الدستور الحالي وضع الإطار العام والآليات والمبادئ التي تبنى عليها المؤسسات المستقبلية وهذا شيء جيد و إيجابي جدا، لكن سرعة الإنجاز وضغط اللحظة وضيق الوقت السياسي، رغم كل ذلك .. ترك البناء المؤسساتي للجهازين التشريعي والتنفيذي، وقيدهما بالديمقراطية التشاركية .. بمعنى أن مشروع الدولة الديمقراطية الحديثة يجب أن يبنى بنفس الأسلوب الذي وضع به الدستور . الدستور المغربي غني، و في نفس الوقت مليء بمقتضيات غامضة و أحيانا متناقضة، الشيء الذي يستدعي نقاشا عميقا بين كل الفاعلين .. أحزابا، نقابات، مثقفين وباحثين أكاديميين من أجل توضيح الرؤية والتوجهات وضبط الاختيارات. } ماذا تقصد بضبط الاختيارات ..؟ الكل صوت على هذا الدستور .. وفي الأخير يظهر من هو غير متفق على بعض مقتضياته و يعبر عن ذلك في ممارسته السياسية .. } بمعنى .. إذا فهمت قصدك أستاذ .. تتكلم عن التأويل الدستوري .. ؟ هناك أمور واضحة في الوثيقة ولا تستدعي التأويل .. المبادئ والحريات مثلا يجب تنزيلها بكل الوضوح الذي جاءت به في الهندسة الدستورية. } تكلمت عن التناقضات والمقتضيات الغامضة .. هل لنا بمثال على ذلك ..؟ مثلا الحديث عن المساواة بين الرجل والمرأة في الجانب الاقتصادي الاجتماعي، وفي نفس المادة نجد كلمة «قوانين المملكة».. هذه لا توجد في قاموس القانون المغربي.. هل يمكن ربط ذلك بالدين و الشريعة .. هل هي قوانين ستكون فوق الدستور.. هناك مثال آخر، الفصل الذي يتحدث عن سمو الاتفاقيات الدولية .. لكن الدستور المغربي نص على آلية مهمة جدا وهي المحكمة الدستورية التي سيكون لها دور أساسي في تفسير و توضيح مقتضيات الوثيقة وبالتالي رسم ملامحها القانونية والدستورية. } من خلال تحليلك أستاذ .. يبدو وكأن هناك عطبا في التفعيل و التنزيل ..؟ هناك عوامل كثيرة .. أهمها ضعف الثقافة الدستورية في المغرب لدى الفاعلين السياسيين .. عامل ثان و كما قلت سابقا، الإصلاحات الدستورية التي أتى بها خطاب 9 مارس فوجئت بها أغلب الأحزاب السياسية، وعنصر المفاجأة أظهر ضعفا بينا في المذكرات والاقتراحات، و النقاش الحقيقي كان بين النخب والمثقفين المختصين، وحتى عندما خرج الدستور الجديد إلى الوجود السياسي، قرأوه بمنطق دستور الحسن الثاني .. أعطي مثال بنكيران يوم تعيينه وماذا فعل لدى تقديمه للبرنامج الحكومي، مثال شباط يوم قرر الانسحاب من الحكومة.. كانوا ينتظرون مبادرة الملك .. } وفي آخر المطاف .. الملك تعامل بمقتضيات دستور 2011 ..؟ نعم .. الملك هو حكم بين المؤسسات .. وليس بين الأحزاب عندما تختلف والتحكيم الملكي الذي طُلب في الأزمة الحكومية لم يكن دستوريا .. وهنا أعود إلى ضعف الثقافة السياسية لدى جل الفاعلين الحزبيين الذين لم يستوعبوا آليات التغيير الجديدة .. وهذا يتطلب وقتا .. } التغيير قد يخيف من لا لياقة له .. حزبية وسياسية ..؟ هناك تعثر ناتج عن أن الناس لا يستوعبون التغيير و غير قادرين عليه .. الأحزاب تتعامل كأنها تنفذ برنامج الدولة .. الدليل أن حزب الأحرار صوتوا ضد البرنامج الحكومي واليوم يدخلون لتنفيذ ما صوتوا ضده ..!!!؟ } سوريالية حزبية مغربية ..؟ (يضحك) ... الأحزاب أعطي لها موقع أساسي وجوهري في الدستور .. لكنهم لم يستثمروه على الوجه المطلوب ، هناك من لم يدخل في عقله أن تغييرا قد حصل، لابد للأحزاب السياسية أن تعيد النظر في تعاملها وتحرص على استقلالية تامة في القرار حتى ولو كانت مساندة للنظام السياسي .. فالحزب له توجه وبرنامج سواء كان في السلطة أو المعارضة .. يتوجب عليه ممارسة قناعاته بكل حرية. } ماهي يا ترى من موقعكم كباحث أكاديمي ومتخصص في القانون الدستوري عناصر القوة ونقاط الضعف في الوثيقة الدستورية الحالية ..؟ الحريات الفردية والجماعية التي جاء بها الدستور نقطة قوية جدا، توضيح اختصاصات كل جهة والمهام الموكولة لها، الملك له مجاله الدستوري، السلطة الحكومية والسلطة التشريعية اختصاصاتها مسطرة أيضا بشكل واضح ، إضافة إلى الاختصاصات المشتركة، وهنا يجب أن نتحدث عن مسألة جوهرية يجب أن تقال .. الدستور المكتوب هو الحكم .. ولا يمكن أن يتحدث أحد كيفما كان وضعه، عن توجيهات أو تعليمات .. حتى الملك يمارس سلطاته بظهير .. علينا أن ننتهي من هذا الكلام . كل ماهو استراتيجي ومهيكل من اختصاص الملك .. لكن الحكومة لا تمارس اختصاصاتها وفقا لمقتضيات الدستور الجديد، بل تتحرك بمنطق الدستور القديم.. إنهم لم يستوعبوا ذلك بعد. } بقراءة لدستور مصر وما يناقش إلى حدود هذه اللحظة في تونس .. هل يمكن إقامة مقارنة عالمة بينهما وبين الدستور المغربي ..؟ مشاريع الدساتير لا يمكن فصلها عن إطارها العام والخاص، الإطار الدولي بأزماته المتعددة، والربيع العربي وإعادة هيكلة السلطة في البلدان العربية كانت هي الإطار العام لجميع مشاريع ومسودات الدساتير العربية، ولكن لكل بلد إطاره وتاريخه ومؤسساته، وبالتالي يمكن أن نجد تشابها نسبيا في بعض المقتضيات في الدساتير المذكورة . تقريبا جميع الدساتير الجديدة تنص على أن أي مواطن مس في حقوقه أي حقوق الإنسان، يمكنه الطعن لدى القضاء الدستوري.. وهذا شيء مهم أن تتم حماية الحريات والحقوق دستوريا. } لكن هناك فرق بين نظام ملكي ونظام رئاسي ..؟ نحن في المغرب لدينا الملكية .. لكن عند العرب، في النظام الرئاسي الأغلبية تمجد ثقافة الرئيس الزعيم وتسيدها، النظام الرئاسي نجح في دولة واحدة هي الولاياتالمتحدةالأمريكية لسبب بسيط .. أن هناك نظاما فيدراليا فيه فصل للسلط أفقيا و عموديا . في الأنظمة المذكورة العربية أقصد .. تذوب سلطة رئيس الحكومة وتضعف لصالح مؤسسة الرئيس المنتخب مباشرة .. وبالتالي رئيس الجهاز التنفيذي هو غير منتخب بطريقة مباشرة ويصبح قائدا لأغلبية لا تتمتع بالسلط الواسعة للرئيس .. وهذا غير مطروح لدينا كمشكل في المغرب .. النقاش مطروح في الشرق . } في مصر وتونس اختلفوا حول مصدر التشريع .. هل الوثيقة أم الشريعة.. ومن سيكون «أسمى» من الآخر ..؟ تابعنا بكثير من الاهتمام مستوى النقاشات هناك، كان الحديث حول حرية المعتقد، حول ما ذكرت في سؤالك .. وسنرى ما سيحدث مستقبلا هناك. الدستور المغربي وأعود إلى المغرب .. هو إيجابي، أسقط مجموعة من الطابوهات، نحن نناقش كل شيء، الدستور يضمن حرية الاختلاف للمغاربة، لدينا تنوع ثقافي و تعددية حقيقية، الوثيقة اعترفت بجميع المكونات المغربية. الإجماع والتوافق لا يضر، لكن ليس حراما ممارسة الاختلاف و حتى التناقض، ولكل واحد الحق في التعبير عن قناعاته . } في الحقيقة .. لأول مرة يعرف المغرب السياسي نقاشا حول الدستور ..؟ أكيد .. لأول مرة في تاريخ المغرب يخلق الدستور الجديد نقاشا في الحياة السياسية الوطنية، جعلنا نوضح المفاهيم ونذهب في اتجاه بناء الدولة الحديثة، وحتى التناقضات في هذا الدستور هي مقدمة لنقاش دستوري ثري .. لنقاش دستوري قانوني صريح .. وهذا مهم. } لكن ما لوحظ .. أن المتخصصين وخبراء القانون الدستوري ظلوا إلى حد ما.. حبيسي «كهفهم» الأكاديمي ..؟ هناك نقاش داخلي .. أتفق معك وأي معطى دستوري يناقش بين هؤلاء وبعمق، على العموم الندوات واللقاءات الأكاديمية على قلتها .. تنفذ إلى الجوهري والأساسي. } المغرب عرف نقاشا سياسيا ساخنا أثمر وثيقة دستورية خرجت بكل سلاسة وبلا ثمن سياسي قاس على مجمل الطبقة السياسية والنظام أيضا.. ما قولكم في ذلك ..؟ نتفق في أنه كان نقاشا سياسيا كبيرا .. لكن لم يكن نقاشا دستوريا، الربح الكبير هو الخروج من هذه المطبات، دون اللجوء إلى العنف .. خصوصية المغرب تتبدى واضحة في هذا الأمر، أخبث شيء هو العنف السياسي.