ظلت مدينة طنجة محطة « ضرورية « لراحة الروح ولفطرة السكينة بالنسبة للكثير من المبدعين العالميين الذين مروا من فضاءاتها والتحموا بوجوهها. وظلت المدينة تثير نهما استثنائيا لدى قطاعات واسعة من المفكرين والمثقفين والفنانين والمبدعين الذي رمت بهم الأقدار نحو ضفافها الغرائبية العجيبة ونحو عوالمها الغابرة في الزمن، والموصولة بوشائج التواصل المستدام مع حضارات البحر الأبيض المتوسط ومع ثقافاته وعاداته ولغاته ودياناته. ويمكن القول إن مدينة طنجة قد مارست أقصى درجات الجاذبية في اهتمام أجيال متواترة من نخب الأزمنة المتعاقبة، وجعلتها تربط بين رصيد منجزاتها الفكرية والثقافية والإبداعية من جهة، وبين « هوى « طنجة وعوالمها الحالمة التي تمتح أصولها من عبق التاريخ والحكايات العجائبية والأساطير المتواترة من جهة ثانية. وكانت النتيجة، تبلور عميق لأدب استغراب استشراقي مجدد، نجح في تحويل فضاءات المدينة إلى قطع فسيفسائية من عوالم « ألف ليلة وليلة « المندثرة، ومن مجالات جنوح الحلم والرغبة والشهوة والخلوة والسكينة والحرية من معاقلها المرتبطة بالأزمنة وبالأمكنة. ولن يكون بإمكاننا حصر لائحة لكل « عشاق طنجة « الذين رمت بهم الأقدار إلى ضفافها وتفاعلوا مع طراوة هذه الضفاف وخلدوا مظاهر هذا التفاعل في أعمال إبداعية رائدة أضحت تشكل معالم نسقية لهوية طنجة الثقافية والإبداعية، مثلما هو الحال ? على سبيل المثال لا الحصر ? مع أعمال دولاكروا وماتيس وبول بولز وتينيسي وليامز ... في سياق هذا « المجرى الثابت «، ونستسمح الكاتب المغربي الراحل إدمون عمران المالح على اقتباس عنوان إحدى رواياته الشهيرة، يندرج صدور العمل الشعري الجديد للشاعر العراقي سعدي يوسف، تحت عنوان « ديوان طنجة «، سنة 2011، في ما مجموعه 80 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. فالعمل تجسيد لجوهر هذا التفاعل المستدام مع خصوبة فضاءات مدينة طنجة، وانتقال لاإرادي نحو الاحتفاء بحميميات المكان ونحو خلق « نوسطالجيا طارئة «، لا شك وأنها تمارس الكثير من عناصر السحر والافتتان على رواد مدينة طنجة وعلى عشاقها المنتشرين عبر بقاع العالم الأربع. وإذا كنا ? في هذا المقام ? لا ننوي الوقوف عند القيم الجمالية والإبداعية في نسق الكتابة الشعرية لدى الشاعر سعدي يوسف، مما لا يدخل في مجال اهتمامنا وتوثيقنا، فالمؤكد أن القراءات المتجددة لمثل هذه النصوص تسمح بتوفير إمكانيات هائلة لأدوات رصد أوجه معالم الهوية الثقافية للمدينة، وفق رؤى زوارها وعشاقها. فالهوية الثقافية لأي جزء من العالم تتشكل ? في نهاية المطاف ? من خلاصات تلاقح واقع « الداخل « العميق مع جدل «الخارج « الطارئ، وبين « الداخل « و» الخارج « تتشكل النظم السلوكية والقيم الرمزية والتمثلات الذهنية والمرجعيات الفكرية المؤطرة لمجمل مكونات « كتابة طنجة « ومضامينها الحضارية المميزة. وبالنسبة للبحث التاريخي التخصصي، فالمؤكد أن تجميع عناصر هذه المكونات يشكل عنصرا أساسيا في عطاء مضامين التاريخ الثقافي الذي صنع/ ويصنع فرادة الأمس وتميز الراهن واستشرافات الغد. ومن هذه الزاوية بالذات، يبدو أن حضور فضاءات طنجة بين متون الديوان الأخير لسعدي يوسف يشكل علامة فارقة في التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابة التسجيلية الكلاسيكية المتوارثة. هي عين المبدع التي تتسامى عن المعطيات الطارئة، في مقابل الالتفات للبعد العميق في خصوبة المكان وفي سمات الوجوه وفي تبدل الوقائع. فلا شك أن رؤى المبدع « الطارئ» على المدينة تكتسي كل عناصر الجرأة لتجاوز التفاعل التسجيلي مع الأنماط الاعتيادية في سلوك الناس وفي تغير الواقع المحلي، بمعنى أنها تكتسي كل عناصر الاحتفاء بمجمل القيم التي قد لا تلتفت إليها نخب المدينة، بحكم طابعها الاعتيادي اليومي الذي جعل منها كليشيهات مستنسخة لا تحمل أي « جديد « بالنسبة لأبناء المدينة. هي ? إذن ? صور اعتيادية قد لا تحمل أي فرادة تجعلها محور الاحتفاء والاهتمام بالنسبة لأبناء المدينة، لكنها ? في المقابل ? تشكل خلفية رمزية لتأطير مجمل التمثلات الذهنية التي تحملها « النخب الطارئة « تجاه فضاءات المدينة الأصيلة وتجاه وجوهها العميقة. ولعل في استحضار سعدي يوسف لمعالم مكانية قائمة وأخرى مندثرة، مثلما هو الحال مع فندق ريتز ومقهى بورث وحانة البريد ومقهى الحافة، خير دليل على ما نقول. وللاقتراب من سقف هذا المطلب في الكتابة عن فضاءات طنجة وعن الاحتفاء بعمق المكان والوجوه، نقترح الاستدلال ببعض مما كتبه يوسف سعدي بهذا الخصوص. ففي النص المعنون ب « مقهى الحافة «، يقول الشاعر : مثل مصاطب في تل ينحدر المقهى نحو البحر ويوشك أن يسقط في البحر ليأخذ فتيان المقهى والفتيات إلى الضفة الأخرى. إسبانيا تتبدى في الأفق المتلبد لكن المقهى سيظل يخدر من يدخله بروائح من جنته : نعناع وحشيش ريفي ودخان بلدي ... وعطور داكنة من آباط الفتيات « ( ص. 59 ).