ما معنى أن يكتب شاعر مذكراته ؟ ما هي الخصوصيات التي يمكن أن يحفل بها المتن / السرد مقارنة مع نفس الأعمال التي ينجزها سواه ؟ وهل يتعلق الأمر باستنطاق استرجاعي لذاكرة الشخص أم بمسار جيل كامل ؟ وهل يمكن لهذا الشاعر أن يكتب مذكراته بدون الانزياح نحو كتابة تجاربه الذهنية التي أثمرت مجمل رصيد منجزه الإبداعي ؟ أسئلة متناسلة تفرضها القراءات المتواصلة للعمل الأخير الذي أصدره الشاعر محمد الميموني خلال مطلع السنة الجارية ( 2013 ) في شكل مذكرات شخصية، تحت عنوان « كأنها مصادفات»، مع عنوان فرعي تفصيلي : « تداعيات سيرة ذاتية ». ويمكن القول إن هذا العمل الجديد الصادر في ما مجموعه 249 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، يشكل حدثا ثقافيا بامتياز لعدة اعتبارات متداخلة، لعل أبرزها انفتاح الكتاب على العوالم المتشابكة داخل« مغارات » الكتابة لدى المبدع الميموني، والتركيز على الكشف عن الكثير من السياقات الخاصة والعامة التي صنعت تجربة الشاعر، ثم تجاوز ذلك للانفتاح على مجمل أوجه المخاض الذي صنع تألق مدينة شفشاون خلال عقود القرن الماضي واكتسابها لعناصر الريادة الثقافية داخل محيطها الإقليمي والوطني الواسع. لذلك، أمكن الوقوف ? في هذا العمل - عند الكثير من العناصر الناظمة التي جعلت الكتاب ينتقل من توثيق بيوغرافي لسيرة الشاعر محمد الميموني، إلى استيعاب أوسع لخصوصيات شفشاون العميقة ولتراثها الرمزي والإبداعي والفني الذي أثمر كل هذا البهاء الثقافي الذي أنتج تجارب على تجارب، وعطاء على عطاء، وعمق حضاري استثنائي صنع فرادتها داخل بيئتها الأندلسية المتميزة. وعلى أساس هذا التصور، يبدو أن قراءة كتاب « كأنها مصادفات » لا تستقيم إلا باستحضار هذا البعد وبالاسترشاد به وبالاستدلال من خلاله على «تداعيات » السيرة الذاتية للمؤلف. هي خبايا الذاكرة التي ترخي بظلالها الوارفة على مسار جيل كامل طبع خصوبة المشهد الثقافي لمغرب عقود نهاية القرن الماضي. أما بالنسبة لمدينة شفشاون، .. شفشاون الأعماق الأندلسية والانصهار الحضاري العربي والأمازيغي والإيبيري، فالمؤكد أن العمل يشكل حلقة مركزية في مسعى الاحتفاء بحميميات الذاكرة الثقافية المحلية، من خلال سير روادها وأعلامها ونخبها التي يشكل التوثيق لمنجزها المعرفي والإبداعي والفني حجر الزاوية في كل جهود كتابة التاريخ الثقافي للمدينة. ولتوضيح الإطار العام الذي انتظمت في إطاره المذكرات موضوع هذا التقديم، يقول الشاعر محمد الميموني في كلمته الاستهلالية : « الزمان ساكن محايد ونحن الذين نتحرك فيه ونفعله، ولكي نحس الزمان لابد من تحديد نقط وتمييز علامات في الطريق، وإلا فإن الزمان هو اللاشيء. علينا أن نواصل الخطى لينفتح العالم أمامنا شيئا فشيئا. وبعد حين من السفر بمعية الزمان والاستئناس بإيقاعاته، تتداخل الخطى وتعيد ترتيب ذاتها في الذاكرة، بواسطة صور ونقط وعلامات متداخلة لا تحدد أماما ولا يسارا أو يمينا. الذاكرة هي التي ترتب ( الوقائع ) حسب منطقها ومقياس أفضليتها وقانون أسبقيتها، فتقدم ما تشاء وتحتفظ بما يلح على استمرار حضوره بها، وتلغي أو تتناسى ما لم ينحت صورته على مسلتها الصلبة التي لا ينال منها التقادم ولا يطالها النسيان ... لا مناص إذن من تلقي الوقائع حسب ترتيب الذاكرة لا حسب تاريخ وقوعها في الزمن. للذاكرة أسرارها وتأويلاتها لما وقع أو لم يقع. وقد تتذكر ما وقع بالقوة وتنفخ فيه الحياة وتجعله أكثر حضورا وإلحاحا مما وقع بالفعل ... » ( ص. 3 ). لا يتعلق الأمر بكتابة خطية، ولكن باسترجاعات تحتفي بمعالم سيرة الشاعر الميموني، في سياقاتها الزمنية المحددة، وفي امتداداتها الاجتماعية والذهنية المشتركة والجماعية، وفي فردانيتها المنتشية بتجربتها الخاصة وبتقلبات الحياة الشخصية والذهنية للشاعر. ولقد أجمل محمد الميموني هذا البعد بشكل دقيق عندما قال : « ... يبدو لي الزمان الخاص الذي قد تستحضره هذه التداعيات، فراغا هلاميا بين التذكر والنسيان، لا أتبين مفاصله ولكني أرى ألوانه لامعة حية كأنها ابنة يومها. إنه خيط نحيف من الزمن أسميه زمني الخاص تمييزا عن الزمن العام الشامل الشاسع، لا أزعم أنه يقدم عبرة لأحد، أو نموذجا أو تأريخا لأحداث ووقائع مثيرة والأكيد لدي أن حياة كل فرد، مهما بدت فقيرة من الأحداث الكبرى والتجارب المثيرة، تستحق التذكر والاسترجاع لما تحمله من خصوصية وفرادة ومذاق خاص لا تشاركها فيه حياة فرد آخر وإن كان لصيقا بها ملازما لها طيلة عبور زمن الحياة ... » ( ص. 4 ). هي ، إذن ، رؤية فلسفية لأشكال حضور الأنا داخل البيئة الجماعية، محليا ووطنيا، ثم لسياقات بداية اتخاذها للمسافات الضرورية لاكتساب شروط التميز والفرادة. إنها تجميع لعناصر التميز داخل السيرة الذهنية التي جعلت صاحبها ينحت معالم نزوعاته الإبداعية والثقافية التي أثمرت سلسلة إصدارات شعرية منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، ثم أعمال نقدية وأخرى مترجمة خلال السنوات اللاحقة. وفي سياق هذا « الاستنفار » العام الذي كتب به الشاعر الميموني ذاكرته، ظلت وقائع محيطه حاضرة بقوة من خلال تأثيراتها المباشرة أو غير المباشرة في مسار تكون وصفة التميز والاهتمامات الذاتية للشاعر، الفرد / المتعدد. في هذا الإطار تنتصب فضاءات مدينة شفشاون ووجوه شخوصها وبناها السوسيولوجية وأنساقها الثقافية التقليدية، كعناصر موجهة للمسار العام في المذكرات. كما تظل الوقائع الوطنية العامة التي عاشها المؤلف وتفاعل معها من موقعه داخل الجامعة أو داخل الحزب أو داخل الجمعية ... من المرجعيات التي فعلت فعلها في تكوين المؤلف، وجعلته يكتسب ميكانزمات الفعل والتفاعل مع الزمن المغربي العام، قبل أن ينتقل إلى تفكيكه وعقلنة شروط التعامل معه. وأستحضر ? في هذا المقام ? طريقة تناول الشاعر الميموني لعلاقاته ، بصيغة الجمع ، بالسياسة وبالعمل السياسي وبظروف تكون قراءاته لعنصري النبل والبؤس داخل مجالات عطائها، انطلاقا من تجاربه الخاصة والمباشرة. أما في المجال الشعري، فالمذكرات تقدم تتبعا دقيقا لمعالم تحول تجربة الكتابة لدى الشاعر الميموني منذ صدور ديوانه الأول سنة 1974 تحت عنوان « آخر أعوام العقم »، وإلى صدور ترجماته المتميزة لأعمال فديريكو غارسيا لوركا سنة 2005، مرورا بجملة من التجارب التي تقلبت عبرها السيرة الثقافية للشاعر، بحثا في المتون وتدقيقا في معالم « صنعة » الكتابة واستلهاما لغنى التجارب الإسبانية واللاتينية الأمريكية وانتهاءا بتحقيق شروط ما سماه المؤلف ب «المصالحة مع الذات ». .. وبعد، إنه عمل للقراءة التركيبية التي تجعل منه مجالا لاستكناه خبايا ذاكرة الشاعر محمد الميموني، باعتبارها إحدى العناصر المميزة لتحولات عطاء المشهد الثقافي المحلي بمدينة شفشاون وبعموم بلاد المغرب خلال عقود النصف الثاني من القرن الماضي. هي ذاكرة مشرعة أمام رحابة شيم الاجتهاد والعطاء والوفاء والتواضع والصوفية في سيرة صاحبها، وعنوان لإحدى أوجه البهاء الثقافي الذي طبع - ويطبع- وجه شفشاون الأعماق، شفشاون الحضارة والتاريخ، شفشاون محمد الميموني.