كأي امرأة مغربية تتولى شؤون بيتها بنفسها، استقبلتنا بوزرة المطبخ. كانت بقايا العجين لاتزال عالقة بأصابع يديها اللتين تعتمد عليهما في كل شيء منذ أن بترت أطرافها السفلى، سواء أتعلق الامر بقضاء مآربها أو مآرب أسرتها التي لم تمنعها الإعاقة من إعالتها، بعد تعلمها لأشغال الخياطة اليدوية وهي بالمستشفى حتى تتمكن من حماية أبنائها الثلاثة من الجوع، فضلا عن الأم العجوز والأخت المعاقة ذهنيا والزوج المصاب بمرض الالتهاب الكبدي من نوع س. ابتلاءات بالجملة لم تستطع النيل من عزيمة فتيحة، بل زادتها قوة وإصرارا على تحدي كل محنها، فكلما نظرت إليها تستقبلك عيناها الجميلتان بابتسامة تسبق شفتيها. حين يتحدث الألم كانت تختزن آلامها ومحنها بين ضلوعها ولا تشكوها لأحد غير الله، غير أن الوجع أطلق لسانها بما يشبه صرخة عندما بسط «حكم قضائي» أياديه القاصمتين على شقتها التي تأويها مع أسرتها، فكان لابد لها من منبر توصل من خلاله صوتها للمسؤولين، علهم يجدون لها حلا يحول دون حجز البنك على ملجأ أسرتها الذي لا يتعدى 82 مترا مربعا.تحكي فتيحة قائلة: «كانت حياتي عادية، أحلامي هي نفسها أحلام أي فتاة في ربيعها السابع عشر، ذات بنية قوية ولها نصيب من الجمال، بعد أن حصلت على دبلوم من التكوين المهني في مجال الخياطة، لم تمض سوى فترة يسيرة حتى تقدم لخطبتي محمد، فوافقت على الفور إذ توفرت فيه كل الصفات التي تمنيت. تزوجنا وعشنا حسب طلبه ببيت أهله، كانت أمورنا جيدة، لأن زوجي كان يحصل على مبلغ جيد من شركة الاستيراد والتصدير التي يعمل بها. أنجبت ابني البكر يوسف وبعده كلثوم. كان لا يشوب حياتي أي كدر إلى أن أتى يوم (تتنهد فتيحة بعمق) كنت بالسوق وأحمل ابنتي على ظهري فإذا بقدمي تزل، لحظتها كان كل همي حماية صغيرتي من السقوط معي، فلم أدر حتى الساعة كيف أدت بي تلك الزلة الى كسر بالفخذ الأيمن، كان عمري آنذاك خمس وعشرون سنة، استمررت في العلاج لمدة ثلاث سنوات، كان زوجي ساعتها قد فقد عمله بالشركة بعد إفلاسها، فاضطررت للعمل بمشغل للخياطة رغم المرض.. كانت فترة صعبة لكني تحملتها بصبر من أجل أطفالي، فقد أنجبت طفلا ثالثا، وزرت عدة أطباء ولبثت مدة بمستشفى أبو وافي. نصحني الأطباء هناك ببتر ساقي بعد أن يئسوا من علاجها، رفض أهلي الامتثال لأوامرهم وأخذوني الى مصحة خاصة في محاولة جديدة لعلاجها، وفعلا أكد لي الطبيب الأجنبي المشرف على حالتي أنه بإمكاني إجراء عملية يأخذ من خلالها جزءا من عظم الساق السليمة ويتم زرعها بالفخد المريضة، عادت بارقة الأمل لي وللأسرة فوافقت بعد أن كتب لي إقرارا خطيا بأن العملية ستنجح مائة بالمائة. أجريت العملية التي كلفتنا 4 ملايين سنتيم بفضل أمي التي باعت قطعة أرض كانت آخر ما تملكه من أجل إنقاذ ساقي من البتر، لكن العملية لم تكن ناجحة البتة، كما وعدني الطبيب الأجنبي. اشتد الألم بساقي فلم تعد المسكنات تجدي نفعا، وباءت محاولات الاطباء بمستشفى ابن رشد كلها بالفشل. لازلت أذكر تلك الأيام العصيبة.كنا في أوائل شهر محرم، وكان طفلي الصغير «فيصل» يبكي، ويقول لي: «أريد لعبة مثل بقية الأطفال»، فأجيبه: «وأنا لا أريد إلا سكينا أقطع بها ساقي كي أرتاح من الألم». كانت ساقي متعفنة بشكل خطير ألزم الطبيب الذي لن أنسى فضله ما حييت على قطع إجازته وبترها على وجه السرعة، بل إنه تكلف بكل مصاريف العملية، وحتى الأدوية تكلف هو بشرائها، كما أنه تولى علاج الساق الأخرى التي بدأت تتعفن إثر فشل العملية الأولى التي أجريتها بالمصحة الخاصة. في هاته الفترة كنا نعيش أنا وأطفالي الثلاثة بمنزل أمي المتكون من غرفتين غرفة لأخي وأولاده وغرفة تجمعنا أنا وأمي وأختي المعاقة ذهنيا وأطفالي بعد أن طردتنا والدة زوجي من منزلها لأننا أصبحنا عالة عليها. زوجي أصبح عاطلا وأنا صرت عاجزة عن العمل. أيام عصيبة عشناها، توالت فيها المحن ونزل فيها الهم بكلكله على أسرتي بالكامل، ما العمل؟ إلى من ألتجئ؟.. «ليس لي سواك يا الله فوحده من اتكل عليه لأيجاد منفذ من نور ينير لي دربي مهما كان مظلما». وبالفعل، وأثناء تواجدي بالمستشفى حيث كنت أتابع علاجي الكيماوي بقسم الأمراض السرطانية، كنت أخرج إلى الحديقة بمساعدة الممرضة وأقوم بعملية التطريز التي أتقنتها هناك، فإذا بإحدى الزائرات للمستشفى (علمت فيما بعد أنها زوجة لأحد الاطباء هناك) ترى ما أعمله فعرضت علي المساعدة بأن تجلب لي كل يومين (مايعرف بالمغرب بكندورة نسائية) أطرزها وتمنحني مبلغ 30 درهما، كدت أطير من الفرح أخيرا، فلن يعيقني مكوثي بالمستشفى عن ضمان لقمة العيش لأبنائي، فقد وجدت عملا يدر علي دراهم أرسلها لهم حتى يجدوا ما يقتاتون به عند عودتهم من المدرسة، وفعلا كنت أصحو مع الفجر، فأصلي وأبدأ عملي وأنا راقدة على سريري. وبعد انتهاء حصة العلاج الكيماوي أخرج إلى الحديقة وأستمر في العمل. قد يبدو لكم الأمر مرهقا أو قاسيا على مريضة بالسرطان لكنني كنت أعمل بحب من أجل أطفالي، فلا شيء يصعب على أم. عدت لمنزل أمي من جديد، أسرة يغيب عنها الأب، فلم يكن يعقل أن يشاركنا الغرفة التي قاسمتنا أمي إياها. ذقنا معنى التشرد ومعنى الانفصال. كان زوجي يحاول عبثا إيجاد عمل، تأزمت نفسيته بسبب ما أصابني، وكل ماكان يحصل عليه من أهله أو من خلال أي عمل قام به يأتي به إلي ليساعدني على المعيشة. استمرت حياتنا هكذا. تعلمت طرز (الراندة) وكان دخله جيدا وقتذاك، واستطعت بمساعدة بعض النسوة تكوين مشغل صغير، تحسنت أوضاعي المادية وظننت أن الحياة ابتسمت لي بعد طول عبوس، لكنها مالبثت أن أشاحت بوجهها عني من جديد. انتابتني آلام قوية في ساقي المتبقية، فرغم الأدوية والعلاج لم تسلم هي الأخرى من البتر، فالورم انتقل إليها ولا مناص من التضحية بها حتى لا ينتشر المرض بسائر جسدي،»وما زاد الطين بلة هو اكتشاف زوجي لإصابته بالالتهاب الكبدي «س» عندما أراد تزويدي بدمه أثناء خضوعي للعملية. كانت صحته تنهار تدريجيا دون أن ننتبه لأمره بسبب انشغالنا بأمري ، (تطلق فتيحة زفرة قوية كمن استل خنجر ألم من جنبه) قائلة: كانت معاناة حقيقية. كنت إذا احتجت الذهاب إلى المرحاض استوجب ذلك صعودي الدرج اعتمادا على يدي وبمساعدة أطفالي.كان طفلي الصغير «فيصل» ومن شدة خوفه علي يضع لي بعض أوراق الكرتون حتى لا أتأذى بسبب الزحف. ورغم كل هذا لم أغفل عن رعاية أسرتي، كنت أطبخ وأغسل الملابس والأواني أيضا، وفي الوقت ذاته أواصل عملي في تحد كبير وسعادة لأنني لم أفقد قوتي. استطعت جمع مبلغ مالي جيد، وبمساعدة بعض المحسنين تمكنت من دفع تسبيق شقة بحي أناسي، ولأنني مسجلة بالغرفة الصناعية تحت رقم 033261 بتارؤيخ 03/12/2012 وحاصلة على بطاقة الصانع وافق البنك على القرض. كانت فرحتي لا توصف عند استلام الشقة سنة 2005 فأخيرا سيلم شمل أسرتي وأعيش رفقة زوجي، ولن أحتاج صعود الدرج إن أردت ارتياد المرحاض ودون مساعدة أحد كنت أشتغل بتفان لأسدد اقساط الشقة في موعدها المحدد. لكن مع حلول سنة 2009 بدأت أتخلف عن التسديد بسبب العوز. كان المرض ينهش جسد زوجي في صمت، فلم يعد يقو على دعمي، إضافة إلى الأفواه التي تنتظر أن تملأ، ومن بينهم أمي وأختي اللتين جئت بهما للعيش معي لأن البيت الذي كنا نستغل غرفة منه لم يكن في الأصل ملكية خاصة لأمي. ظروفي الاقتصادية منعتني من سداد أقساط القرض البنكي، فالتجأت إلى شركة التأمين التي رفضت النيابة عني في السداد، استعنت بمحامية وأقمت دعوى على الشركة، خاصة أنني حصلت على شهادة طبية بتاريخ 16/12/2009 من الدكتور عبد الحميد بناني الخبير المحلف تثبت أن نسبة عجزي تصل إلى 90 بالمائة بعد أن أصبت بالسكري وضعف بصري، كما امتلأت يداي اللتان كنت أعتمد عليهما بالدوالي وانتفختا بشكل دائم. غير أن الشركة وحسب ماجاء في الحكم الصادر عن المحكمة الإبتدائية بالبيضاء يوم 27/07/2011 رفضت الحلول محلي في الأداء بعلة أن المرض الذي أصابني هو سابق لتاريخ إبرام العقد، وبزعم أني قد أدليت بتصريحات خاطئة لشركة التأمين وأخفيت بتر ساقي، مع أنني أنا من قمت بجميع الاجراءات التي مكنتني من الحصول على السكن، فكيف لي أن أخفي إعاقتي والموظفون يرونني أتحرك اعتمادا على الكرسي؟ استأنفت الحكم لكنني قبل شهر ونصف تقريبا فوجئت بالبنك يرسل لي إنذارا بالحجز بتاريخ 12 نونبر 2013 . صعقني الخبر وصرت أطرق كل الابواب، اقترضت مبلغا ماليا ودفعته من أجل إيقاف الحجز، وحتى يتركوا لي مهلة ألمّ فيها المبلغ المطلوب، لكنني، وحتى اللحظة، عجزت عن إيجاد حل، لأن كل من يريد مساعدتي يساعدني عن طريق السلف ويعطيني مهلة محددة. أشعر أنني أغرق في بحر تتقاذفني أمواجه من واحدة لأخرى. إنني فعلا أشعر، ولأول مرة بحياتي بالإعاقة الحقيقية التي لم أشعر بها أثناء بتر ساقي. فالعجز الحقيقي هو ما أشعر به الآن وأنا أرى أولادي قاب قوسين أو أدنى من التشرد وستتأزم نفسيتهم لا محالة إن فقدنا الشقة، يكفي أن معاناتي أثرت بابني البكر الذي ترك تعليمه، وعوض أن يعيلني صرت أنا من أعيله الآن. خذل كل آمالي، والأمل الوحيد في ابني الأصغر الذي يدرس بقسم الباكالوريا وأخشى أن تتعثر دراسته هو الآخر ويضيع حلمي في أن أعتمد عليه مستقبلا. أنا لا أطلب المستحيل، فقط أطلب من الدولة والمسؤولين أن يساعدونني في محنتي، على الأقل أن يوقفوا الحجز ويخففوا عني مبلغ القسط الشهري الذي أدفعه، ومبلغ «فوائد التأخير» التي انضافت إلى المبلغ المتبقي علي بالشقة والتي تصل إلى مليوني سنتيم. أنا بشر ولكل منا طاقة وقد تحملت الكثير ومستعدة للتحمل مادامت يداي لم تصابا بالشلل، لكني أريد أبسط حق يمكن أن يطلبه إنسان وهو الحق بسكن يحمي أسرتي من الضياع». ماذا تقول ودادية المعاقين؟ تركنا منزل السيدة فتيحة وذهبنا مباشرة إلى الودادية المغربية للمعاقين لنسأل السيد الطاهر مرزاق المسؤول الإداري عن إمكانية مساعدتها باعتبارها عضوة منخرطة بالودادية، فكان جوابه كالتالي: «أولا، القضية لازالت بالاستئناف -حسب تصريحات الأستاذة نزهة الأزريفي التي تنوب عنها- لكن منذ اطلاعي على الملف ظهر لي أن التأمين يتملص من مسؤوليته إزاء السيدة فتيحة بدعوى أنها أخفت إعاقتها، فإن كان هناك ذنب فهو لشركة التأمين لأنها هي الملزمة بإتخاذ إجراء يضمن مصداقية تصريحاتها فقبل قبول ملف المؤمن يجب أن تجري له الشركة فحصا طبيا، وفي سنة 2005 وهي نفسها السنة التي انخرطت فيها فتيحة بشركة التأمين لم يكن هذا الإجراء قد طبق -بعد- وهذه السيدة هي ضحية عدم إجراء الخبرة للحصول على القرض، وعلى شركات التأمين مراعاة مثل هذه الحالات الإنسانية التي تصل نسبة العجز لديها إلى % 90 ، وأن تقدم لهم التغطية عند توقفهم عن سداد الأقساط، وعلى طاقمها الطبي أن يكون واعيا أن حالة الشخص المعاق تتطور يوما بعد يوم، فالإنسان المقعد خصوصا بقية عمره معرض لعدة اختلالات في الجهاز الهضمي والدورة الدموية التي تتثاقل، ناهيك عن العظام التي تصاب بالهشاشة. فوضعية الجلوس ليست هي وضعية الوقوف، فإذا جلس شخص سليم على مقعد مدة طويلة سيشعر بآلام بعظامه وسيحتاج الى الحركة. كذلك بعد الأكل، لابد من الحركة من أجل تسهيل عملية الهضم، فما بالك بشخص يقضي سنوات عمره على كرسي.» وبخصوص من يتحمل مسؤولية إعالة مثل هذه الحالات، أجاب: «الدولة هي المسؤولة عن إعالتهم، فالسكن حق دستوري يشترك فيه الجميع، وما دمنا نحن كودادية نتولى الدفاع عن حقوق المعاقين سنعمل على متابعة الاستئناف، وبعدها لدينا عدة جهات نتظلم إليها». ما الحل؟ لنفترض جدلا أن المحكمة قضت نهائيا بإفراغ السيدة فتيحة من شقتها التي كدت كثيرا من أجل الحصول ليها، ولنتخيل السيناريو الذي ستجد نفسها في قلب تطوراته المثيرة. امراة قوية لا تملك من جسدها إلا يدين بسطتهما طويلا لتحمي كامل الأسرة بكدها ونضالها.. ترمى هكذا في نهاية المطاف إلى الشارع، لأنها عاجزة عن أداء الأقساط البنكية.. ماذا سيكون مصيرها ومصير أبنائها؟ امرأة قوية ومكافحة تعول أما عجوزا و أختا معاقة ذهنيا وزوجا مريضا.. من سيتكفل برعاية كل هؤلاء؟ هل سيجعلها العوز تلتحق بجحافل المتسولين الذين وصل عددهم إلى نصف مليون مغربي؟ أين هي الحماية الاجتماعية للمعاقين ومالمعوزين؟ لا أحد يريد لهذه المرأة الاستثنائية في كل شيء، في القلب والنضال.. لا أحد يريد لهذه الأم التي سلخت عمرها بحثا عن بيت يأوي أسرتها أن تؤول إلى الشارع دون ملاذ، ودون عنوان، ودون بطاقة هوية.. الآن، استطاعت أن توقف الحجز مؤقتا، وبفضل الاقتراض.. لكن السؤال العريض يبقى: الى متى سيظل سيف التشرد معلقا فوق رقبتها؟