خديجة القرطي، سيدة تجاوزت العقد السادس، أرملة عاشت تجربة مريرة مع مرض السرطان الذي اختطف أعز أحبابها: الزوج والأخت. معاناة أمي خديجة الشخصية مع هذا المرض وإحساسها المرهف وطيبوبتها وحنانها الفياض... كل هذا جعلها قريبة من معاناة المرضى الذين صادفتهم خلال رحلتها لمصارعة هذا المرض الفتاك رفقة زوجها وأختها... بسبب هذه التجربة المريرة، قررت أمي خديجة أن تقدم للنساء المصابات بالسرطان خدمة ابتغاء وجه الله... فجعلت من منزلها مأوى لهن خلال فترة العلاج الطويلة والمتعبة... فيما يلي تفاصيل هذه التجربة... أمي خديجة... امرأة بسيطة تتبنى أهدافا جريئة خديجة القرطي... لم يمنعها سنها ولا أميتها ولا فقرها من تحقيق عمل خيري جليل... إحساسها المرهف وحنانها وطيبوبتها وسعة صدرها ساعدها على تحمل جسامة هذه المسؤولية رغم محدودية الإمكانيات... تحكي أمي خديجة «وردت ببالي فكرة إنشاء مأوى للنساء مرضى السرطان بعد الذي عانيته عندما أصيب زوجي بهذا المرض الفتاك، حيث كنت أرافقه إلى مستشفى مولاي عبد الله لتلقي العلاج. وهناك عاينت، عن كتب، معاناة المئات من المرضى رجالا ونساء، خاصة هؤلاء الأخيرات... فهن مريضات مرهقات بسبب التعب والإنهاك الذي تتسبب فيه الأدوية الكيماوية والأشعة بعد كل حصة، وأيضا بسبب الحصص المتعددة والمسافات الطويلة التي يقطعنها للوصول إلى الرباط قصد تلقي العلاج... كن كلهن من خارج مدينة الرباط، نساء آتيات من كل الأقاليم والمدن النائية... ليس لديهن مكان يأوين إليه للاستراحة أو يستقرن فيه حتى يحل موعد الاستشارة أو العلاج أو حتى يتممن حصص العلاج الكيماوي أو حصص العلاج بالأشعة العديدة والمضنية... كن جائعات، عطشى، متعبات، خائرات القوى، يائسات، أغلبهن فقيرات... كنت أحس بعمق معاناتهن المتعددة الأوجه: المرض، الفقر، الإنهاك والتشرد...». توفي زوج أمي خديجة بعد صراع طويل مع هذا المرض الفتاك... موته جعلها تزهد في الدنيا وتفكر في الآخرة... آخرتها، فقررت أن تتزود لها بعمل خيري قبل أن يفاجئها الموت هي الأخرى... فكرت في بناء مسجد وفي غير ذلك من المشاريع الخيرية، تقول أمي خديجة: «لكنني وجدت فيها كلها رياء ومفاخرة، وأنا أكره ذلك، لأنه يضيع الأجر والتواب. أردت عمل خير مستور... فرجوت ربي أن يوجهني إلى ذلك... خلال هذه الفترة، مرضت أختي بمرض السرطان وكنت أزورها في المستشفى بالمصلحة 40 الخاصة بمرضى السرطان، وهو مرض فيه الكثير من الشقاء والطريق وبالأخص بالنسبة للمريضات الآتيات من المدن البعيدة... حيث كنت أصادف نساء مريضات، متعبات، منهكات، قاعدات أو نائمات يفترشن الأرض، جائعات، عطشى... ففكرت في تخصيص منزلي لهن في سبيل الله. وبما أن مهنتي نكافة، بدأت أوزع بطاقات الزيارة الخاصة بي (Les Cartes de Visite) على النساء الموجودات بساحة أو حديقة المستشفى وأطلب منهن أن يخبرن النساء المريضات اللواتي لا يجدن مأوى يلجأن إليه بأن يقصدن بيتي، فهو مفتوح لهن لوجه الله». وزعت أمي خديجة هذه البطاقات أيضا على الحراس الخاصين بالمستشفى وعلى حارس سيارات الأجرة الصغيرة وعلى سائقيها وعلى بائعي اللبن والسجائر في محيط المستشفى. وطلبت منهم أن يسلموها لكل مريضة لم تجد من يأويها ولها حصص متعددة أو موعد طويل الأمد. توضح: «بدأت ببطاقات الزيارة لنكافة عادية وبسيطة. ويومها تجولت بالحديقة، فجلبت معي 16 امرأة (مضيومة) ينشدن فقط مكانا للاستراحة والنوم، يردن الاغتسال والوضوء والصلاة، الأكل والشرب... عدت فرحة جدا، ضاعفت كمية الغداء، تغدين ففرحن، توضأن وصلين واسترحن راضيات ممتنات... مما جعلني أشعر بالارتياح، حيث وجدت أن بيتي ولو أنه بيت صغير ففيه نفع كبير... في الغد جلبت 10 نساء أخريات. وبعد ذلك أصبحت هؤلاء النسوة يقمن بالدعاية ويجلبن مريضات في نفس وضعهن... الآن وصل عدد المقيمات عندي 36 مقيمة». تمليك الدار هاجس يهدد عمل أمي خديجة الخيري بيت أمي خديجة يتكون من سفلي، حيث محل عملها كنكافة وطابقين علويين وسطح يضم غرفة طويلة وفضاء عريضا مغطى بغطاء بلستيكي. في السنة الماضية، توضح أمي خديجة: «كان البرد شديدا وكنت أبيت معهن في السطح وأنام وسطهن ولا أنام في الشقة حتى لا يشعرن بالفرق بيني وبينهن». بعد أن تزايد عدد النساء المتوافدات عليها، والذي وصل الآن إلى 40، بل 46 مقيمة، ضاق بهن السطح... تقول أمي خديجة: «الإقبال كبير، يزداد يوما بعد يوم، والسطح به غرفة وحيدة وباحة واسعة تكلف بتغطيها أحد المحسنين -جازاه الله خيرا- بغطاء بلستيكي لحماية المقيمات من أسعة الشمس الحارة صيفا ومن البرد القارس والمطر شتاء، لكن المكان لم يعد كافيا، لذلك اتصلت بأبنائي المقيمين بالخارج، فهم ورثة الدار، أستأذنهن لاستغلال شقتهم فرحبوا بالفكرة. وربما يكون فصل الشتاء، هذه السنة، شديدة البرودة، لذلك يلزمنا أسرة وأغطية وتجهيزات التدفئة والمطبخ... لكن الإمكانيات محدودة جدا.». ولرغبتها في تواصل عملها الخيري حتى بعد وفاتها، تقول أمي خديجة: «أخبرت أبنائي أنني سأكتب وصية أوصي فيها بأن لا يقفل باب هذه الدار إن مت، وطلبت منهم أن يتموا الرسالة بأن يجلبوا من يتكلف بالدار وبالمقيمات فيها بعد مماتي. ليظل هذا الباب مفتوحا لوجه الله بدون مقابل. ووافق أبنائي -الله يرضي عليهم- لكن حدث مشكل مع الورثة من إخوة زوجي، حيث طالبوني بنصيبهم وأرادوا بيع البيت، خصوصا أنني لا ابن لي لدي بنت وربيت ولدا ألحقه زوجي بنسبه... لكنني أخاف الله سألت الورثة من أهل زوجي هل يورثونه، لكنهم رفضوا... فحرت كيف (سأحرر) البيت وأضمن استمرار عمل الخير هذا وأمنع تشرد المقيمات... عانيت كثيرا من أجل جمع نصيب الورثة، بعت أنا وابنتي ملكين كانا لنا لتحقيق ذلك ولتكون هذه الدار في خدمة هؤلاء الأخوات إلى يوم البعث». أهم هاجس يستحوذ، الآن، على تفكير أمي خديجة ويقض مضجها هو تمليك أرض الدار لضمان استمرار عملها الخيري الذي تريد أن تجعل منع صدقة جارية... لأن الأرض في ملك الدولة، ثم إضافة طابق ثالث لاستيعاب أكبر عدد من المقيمات... انطلق هذا المشروع الخيري منذ شهر 8 من سنة 2008. توضح أمي خديجة: «في البداية، بدأت وحدي. بعد ذلك، ساعدتني صديقة موظفة، حيث أخبرت زميلاتها عني، فبدأن يجلبن لي المؤونة كل شهر... كانت تكفيني ل 20 يوما. ثم زارتني مجموعة من النسوة وجلبن لي بعض التجهيزات الخاصة بالمطبخ. هناك أيضا مساعدات نفسية، حيث تأتي بعض النسوة من جمعيات أخرى يقمن بتقديم دوس دينية للمريضات ويخففن عن المقيمات بإنشاد الأمداح». بعد الإقبال الذي شهدته الدار، ونظرا لكون بعض المقيمات كن في حالة صحية جد خطيرة، خشيت أمي خديجة أن تموت إحداهن يوما ما فتقع في مشاكل مع السلطات... توضح: «اتصلت بالقائد أخبره أن ببيتي مريضات أخشى أن تموت إحداهن، فأقع في مشاكل مع الشرطة، فأشار علي بإنشاء جمعية لأحصن نفسي، ووجهني في هذا الإطار». هكذا أنشأت أمي خديجة جمعيتها التي أسمتها «جمعية جنات لإيواء مرضى السرطان» بداية سنة 2010 رغم أميتها كما تقول: «كانت النية حسنة، وهي فعل الخير لوجه الله، فكان التيسير والتوفيق من الله». وجدت أمي خديجة فريقا مختلطا من ذوي النيات الحسنة فكونوا مكتبا يضم 9 أعضاء هي رئيسته. وهي الأن تسعى، رغم محدودية الإمكانيات، لتطوير جمعيتها قصد توفير سبل الراحة والطمأنينة للمريضات المقيمات عندها واللواتي يزداد عددهن مع مرور الأيام نتيجة انتشار صدى عملها الخيري المجاني هذا... تقول: «اليوم، نفتقد اللحم والدجاج والسمك. وحتى لا أترك هؤلاء المريضات بدون غداء قررت تهييء (السَفَّة) بالشعرية واللوز والبيض. وفي العشاء يفتح الله». شهد شاهد من أهلها تأوي الجمعية نساء وافدات من مختلف الجهات والأقاليم، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب... من وجدة، أوريرت، الحسيمة، تطوان، فاس، تاونات، سيدي سليمان، القنيطرة، الراشيدية، العيونوالداخلة. تقول يطو، إحدى المريضات من الخميسات مقيمة بهذه الجمعية: «جازى الله لالة خديجة خيرا، فنحن نقيم عندها بدون مقابل وتوفر لنا الأكل والشرب والمبيت. أنا مطلقة ببنتين لا أملك مالا لشراء الأدوية أو إجراء الأشعة والتحاليل وأداء مصاريف التنقل. قبل ذلك كنت أكتري (سداري) عند إحدى السيدات ب 20 ده لليلة وأذهب إلى المستشفى وأعود منه مشيا على قدمي». عتيقة من الداخلة: «أصبت بسرطان الرحم وجئت لتلقي العلاج بالرباط. قضيت بالمستشفى شهرا كاملا وشفيت، لكن أصيبت كليتي. بعد إتمام العلاج، أمر الطبيب بغادرتي المستشفى. تقطع بي الحبل، فلا نقود إلا 20 ده. فقد صرفت كل ما أملك من أجل الأشعة والتحاليل، السكاير، الأدوية، والعلاج الكيماوي والعلاج بالأشعة. قررت أن أذهب تلك الليلة للفندق وفي الغد يفتح الله. قصدت سائق طاكسي كان يجلبني من وإلى المستشفى وطلبت منه أن يأخذني إلى الفندق الذي كنت أقيم به، أخبرته أنني أنهيت العلاج وأن نقودي انتهت وأنني سأبيت هذه الليلة بالفندق. وفي الغد، أبيت في حديقة المستشفى إن سُمِح لي بذلك. فاقترح علي أن أقصد سيدة في ج 5 قال عنها (الله يعمر ليها الدار). قصدت الفندق الذي كنت أنزل به وحكيت لموظفة به عن حالي ووضعي المالي، فاقترحت علي، هي الأخرى، اللجوء إلى الحاجة، وسلمتني بطاقة الزيارة الخاصة بها. هكذا جئت إلى هذه السيدة... حيث وجدت بيتا دافئا وصدرا رحبا وقلبا طيبا وأسرة... أنا الآن هنا منذ 8 أشهر لا ينقصني شيء... (واكلة، شاربة، ناعسة، مفرشة، ما كاين لي كيزعزعني من بلاصتي ولا كيقول لي هزي الكاس من بلاصتو. الخير لي لقيتو فيها مالقيتوش في عائلتي...) الله يجازيها». زهرة من بني ملال، أم مرافقة لابنتها المصابة بسرطان القلون والرحم، تقول: «تتابع ابنتي علاجها بمستشفى مولاي عبد الله. وفي أحد الأيام، لم نعرف مكانا نقصده، فأخذنا سائق طاكسي إلى هذه السيدة. إنها ملاك وهي أم كل المريضات، تبذل كل ما في وسعها حتى لا يشعرن بأنهن مريضات أو غريبات. نطلب لها الصحة والسلامة حتى تظل (مْكَبْ) لهذه الدار». تضيف زهرة: «إنها تحرس على راحة المريضات وحتى المرافقات لهن... أمس أجرت ابنتي عملية جراحية طويلة، مما اضطرني إلى البقاء معها، فجاءت الحاجة لزيارة ابنتي وطلبت مني مرافقتها إلى الدار للاستراحة ثم العودة في المساء». حالة مؤثرة تكشف عمق المعاناة... فتيحة عزيز حالة مؤثرة، بل معبرة تكشف عمق معاناة المرأة المغربية المكافحة من أجل البقاء والصامدة رغم الصدمات والمحن... شابة من الخميسات في عقدها الثالث، نحيفة، أذبلها المرض وضيق ذات اليد وغدر الزوج ومسؤولية أمومتها لخمس طفلات. بعد مرضها تخلى عنها زوجها وخلفها وبناتها وراء ظهره وراح يعيش حياة جديدة مع زوجة ثانية... تحكي بمرارة وغصة في حلقها تكسر تسلسل حديثها عن معاناتها المزدوجة: سرطان الثدي، إهمال الزوج وجسامة مسؤولية التكفل وحيدة بخمس طفلات في غياب الأب: «بعت خمس لويزات كانت عندي، بعت الحربل، وحتى الزربية، لعبانة والكموسة. ليس لي نقود ولم يعد لي ما أبيعه. علي إجراء التحاليل والسكانير والأشعة قبل وبعد كل ست حصص من العلاج الكيماوي لمدة 6 أشهر، لكن من أين لي بهذه النقود؟!... ساعدني أهلي قدر المستطاع، لكن العلاج باهظ الثمن، مما اضطرني إلى طلب العون من الناس الوافدين على المستشفى ومن أصحاب السيارات المتوقفة أمام بابه. منذ يومين دلتني بعض النسوة إلى هذه الدار وأحمد الله على لقائي بها حففت عني الكثير من العبء». هواجس تقض مضاجع مسؤولي الدار والمقيمات بها... جل المقيمات بدار أمي خديجة فقيرات، يجدن صعوبات كثيرة للتنقل من أجل الكشف والاستشارة والعلاج. كما يعانين من صعوبات مادية كبيرة لإجراء التحاليل والأشعة ومتابعة العلاج الكيماوي أو العلاج بالأشعة، لأن تكاليف ذلك باهظة جدا، مما يجعل بعض المريضات يتوقفن عن إتمام العلاج. يقول عبد العالي القرطي، أمين مالية الجمعية: «هؤلاء المريضات يعشن واقعا يجب أن يتغير، فهن فقيرات معدمات، يضطرن إلى قطع مسافة طويلة بين مقر الجمعية والمستشفى مشيا على الأقدام ذهابا وإيابا»، الأمر الذي يكون متعبا جدا، خصوصا عندما يخرجن من حصص العلاج الكيماوي، حيث يكن في وضع صحي متدهور وحالة نفسية صعبة جدا: التعب والإنهاك، الغثيان والقيء والدوخة، وهو وضع لا يسمح لهن حتى بالوقوف، فبالأحرى المشي. بالإضافة إلى مشكل النقل الذي يعانين منه، هناك مشكل غلاء الأدوية والتحاليل والأشعة وهي كلها جد مكلفة. ونظرا لإمكانياتهن المادية المحدودة، يضطرن إلى الاستغناء عن متابعة العلاج... لذلك يوضح القرطي: «نسعى لتغيير هذا الواقع، ولو نسبيا، وإيجاد حلول لهذه المشاكل للتخفف عنهن. نحن نحتاج لوسائل النقل، ولو حافلة صغيرة، لنقل النزيلات من وإلى المستشفى، فكلهن يتوجهن إليه صباحا حوالي الساعة السابعة والنصف، ويعدن منه حوالي الساعة الرابعة والنصف؛ وبالتالي يمكن نقل حوالي 10 إلى 20 امرأة في نفس الوقت. وهذا يتطلب أيضا مجموعة من الكراسي المتحركة للتنقل بهن داخل المستشفى من مصلحة لأخرى ومن جناح لآخر. كما نحتاج إلى الدعم لتمكين المريضات المقيمات بالجمعية من الأدوية والتحاليل والأشعة. نتمنى أن نجد جهة تتكفل بذلك بشكل ما... فحاليا، إمكانيات الجمعية لا تسمح بتوفير كل ذلك». مساعدات متنوعة للأسر الفقيرة تقوم أمي خديجة أيضا بتقديم مساعدات عديدة ومتنوعة للأسر الفقيرة منها التكفل بأعراس الفتيات الفقيرات... تقول: «نجحت العملية الأولى، فقررت أن أقوم بعملية أخرى... كتبت إعلانا أخبر فيه أنني أطلب من فتيات مصابات بالسرطان أو يتيمات وفقيرات يردن الزواج أن يلجأن إلى الجمعية لمساعدتهن، فأنا أم المريضات والفقيرات واليتيمات أيضا. لحد الآن، تم تسجيل 6 فتيات (2 من سلا، 3 من الرباط وواحدة من تمارة). اثنتين منهن مصابتان بالسرطان. نشترط عليهن أن يجلبن 10 مدعوين من أهل العروس و10 من أهل العريس. ونقوم بعرس جماعي». طبعا، بمساعدة المحسنين وبتكاليف بسيطة، فهو عرس رمزي لإدخال البهجة والسرور على قلوب هؤلاء النسوة المريضات واليتيمات والفقيرات وذويهن.