في مثل هذا اليوم من سنة 1944، وبالضبط يوم الثلاثاء 14 محرم 1363 هجرية الموافق ل 11 يناير 1944، وتحديدا في الساعة التاسعة والنصف صباحا توجه وفد من حزب الاستقلال بقيادة أمينه العام المجاهد الحاج «أحمد بلافريج» إلى القصر الملكي بالرباط ليقدم إلى الأب الروحي للمغاربة جلالة السلطان محمد بن يوسف تغمده الله بواسع رحمته، عريضة المطالبة باستقلال المغرب. وفي نفس اليوم كانت هناك وفود من الحزب في اتجاه الإقامة العامة وإلى كل من القنصلية الأمريكية والقنصلية البريطانية، كما تم إرسال نسخة من العريضة إلى ممثل الاتحاد السوفياتي في الجزائر. أيتها السيدات أيها السادة؛ واليوم، إذ ينظم كل من حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، هذا التجمع الكبير بمناسبة الذكرى السبعين على تقديم هذه العريضة والذكرى الثمانين على تأسيس النواة الأولى لحزب الاستقلال المتمثلة وقتئذ في كتلة العمل الوطني، فمن أجل الترحم على أرواح شهداء هذه المرحلة التاريخية الحاسمة ورفاقهم في درب النضال الوطني داعين لهم بالرحمة والمغفرة وحسن التواب، وفي نفس الوقت نتوسل إلى العلي القدير أن يمتع بالصحة والعافية وطول العمر لمن ينتظر منهم وفي مقدمتهم المجاهد سيدي محمد العيساوي المسطاسي أطال الله عمره، واحتفالنا كذلك من أجل استحضار العبر العميقة والدفينة من روح هذه العريضة خصوصا لمن هم في حاجة لهذا الاعتبار. السادة والسيدات؛ لقد كانت وثيقة 11 يناير 1944، إحدى أقوى المدافع التي وجهها حزب الاستقلال إلى نظام الحماية الظالم، معلنا بذلك مطلب الشعب: الاستقلال أولا. الاستقلال ثانيا. الاستقلال ثالثا. وعلى الرغم من أن تلك الوثيقة المجيدة، شكلت الإعلان الرسمي والعلني عن هذا المطلب الشعبي الجماهيري، إلا أنها عكست أيضا، وعي الآباء المؤسسين بأهمية إقامة النظام الديمقراطي، إن مطلبي الاستقلال والديمقراطية هما وجهان لعملة واحدة في منطوق وثيقة 11 يناير 1944، إن مطلب «إقرار النظام الديمقراطي»، يؤكد الوعي السياسي العميق الذي حمله الآباء المؤسسون منذ لحظة المواجهة السياسية الوطنية القوية مع نظام الحماية وأذنابه. نعم، إنه نظام ديمقراطي، نعم، إنه نظام ملكي دستوري، لا يمكن أن يكون إلا في نور الاستقلال، ولا يمكن أن ينمو إلا في ظل ضمان الحريات بجميع مظاهرها،إنه وحده الكفيل بإصلاح البلاد، هذه هي الرسالة الخالدة التي توارثتها أجيال الحركة الوطنية، والتي خاضت في سبيلها نضالات وكفاحات مريرة. لكل ذلك، فإن وثيقة 11 يناير 1944 هي «وثيقة المستقبل»، لأن النظام الديمقراطي الذي ناضلت من أجله القوى الوطنية والذي عرف مسار بناءه تحول تاريخي بعد خطاب 09 مارس، وإقرار دستور فاتح يوليوز، يتعرض اليوم لخطر كبير. خطر الهيمنة. خطر تكميم الأفواه. خطر توظيف الدين لخدمة أجندة سياسية إقليمية. خطر الانقلاب على الدستور. خطر تدمير الأحزاب السياسية وشيطنة المخالفين في الرأي. إن سياسة الحكومة الحالية، ورئيسها تشكل خطرا جديا على التجربة الديمقراطية في المغرب، لذلك فإن استحضار ذكرى 11 يناير اليوم، لا يمكن إلا أن يزيد في عزيمتنا وقوتنا لمواجهة خطر الانقلاب على الدستور، الذي يقوده رئيس الحكومة وحزبه. السادة والسيدات، إن تخليدنا اليوم ، لذكرى التحدي، لذكرى الصمود، لذكرى بداية النصر الكبير، لا يمكن أن يتم، دون استحضار ذلك الإرث المذهبي والمرجعية الفكرية للحركة الوطنية، وفي مقدمته ؛ إسلام الوسطية والاعتدال، والسلفية الإصلاحية. وهنا لا يمكن إلا أن نعبر عن الإدانة القوية لكل دعاوى التكفير، التي تتحالف موضوعيا مع قوى التطرف الدعوي، في سعيها للنيل من المكتسبات الديموقراطية التي حققتها بلادنا وفي مقدمتها مكسب حرية الرأي والتعبير. السادة والسيدات، إن خطر أصوات التكفير والتعصب يماثل خطر توظيف حركة دعوية لتحقيق مآرب سياسية من طرف الحزب الحاكم. وهي حركة تعد امتداد للتعصب الديني، الإقليمي، لم يعد اليوم مقبولا أن تقوم باستغلال الدين ودور العبادة من أجل الدعاية الانتخابوية لمشروع سياسي مدمر، وذلك لأنها تسيء إلى نبل العمل الدعوي الذي يتعين أن ينشغل أساساً بالمساهمة في التأطير الديني للمغاربة والمغربيات في إطار الثوابت الدينية للأمة . السادة والسيدات، إن تخليد ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، يتجاوز في عمقه اليوم، أبعاد الوفاء والإخلاص والتشبث الدائم بالمرجعية المذهبية للحركة الوطنية المغربية، لأنها وإن كانت إحدى وثائقنا النفيسة التي كتبت في الماضي، إلا أنها تنتمي إلى المستقبل، مستقبل الأمة المغربية الحرة... مستقبل التراب الوطني المحرر... لقد كانت تلك الوثيقة، صيحة تحدي الوطنية لقوى التوهم ... لقوى الاستعمار... ولحظة التحول الكبرى في رؤية وعمل المجاهدين الوطنيين الكبار، من المطالبة بالإصلاحات، إلى الجهر بأن لا سبيل لنهضة الأمة إلا باستقلالها، وأن ما سمته الإقامة العامة «إصلاحات» ما هي إلا تدابير وإجراءات تروم إطالة عمر الاستعمار وطمس مقومات الهوية الوطنية ونهب مقدرات البلاد. نعم إنها وثيقة تنتمي إلى المستقبل، لأن كفاحنا مستمر دفاعا عن صحرائنا التي تواجه منذ 40 سنة، مؤامرة المخابرات العسكرية الجزائرية، وهو كفاح صلب نابع من إجماع الأمة، بقيادة جلالة الملك محمد السادس حفظه الله. إن استمرار الاحتلال الاسباني والجزائري لأراضي مغربية، هو أيضا ما يجعل وثيقة 11 يناير 1944، وثيقة المستقبل منها، ومن تضحيات الموقعين عليها، نستمد عزيمة النضال من أجل تحرير سبتة ومليلية والجزر الجعفرية.. ومنها أيضا سنستمر في مطالبة النظام الجزائري بالجلاء عن الأراضي المغربية؛ تندوف، كلوم بشار، تيديكلت، القنادسة، وحاسي بيضا، وكل الأراضي المحتلة في شرق البلاد. السادة والسيدات، إن فكرة الإصلاح التي تحاول الحكومة اليوم، احتكارها بشكل يائس وتوظيفها مطية لنيل الشرعية الشعبية، كانت إحدى الدعامات الكبرى التي تخللت نقاشات جيل الآباء المؤسسين وهم يتداولون في مضامين وثيقة 11 يناير المجيدة، وكانت خلاصتهم الأساس بعدما لاحظوا التفاف قوى الاستعمار على مطالب الشعب المغربي، التي قدمها الرواد الأوائل والنواة الأولى لكتلة العمل الوطني ، إلى الإقامة العامة سنة 1934، أن لا إصلاح حين تغيب الحرية ويتم تكبيل الإرادة الشعبية. ومن ثم كانت رسالة الحركة الوطنية وجهادها وفي سبيل إصلاح أحوال العباد والبلاد، مستندة في عملها الجهادي إلى مقومات الإنسية المغربية، وأفكار وتراث الشعب المغربي، رافضة الاستعانة بالخارج فكرا وممارسة في الصراع السياسي الوطني. لقد كانت فكرة الإصلاح، والإرادة الوطنية الصادقة من أجلها، أحد المضامين القوية لوثيقة 11 يناير المجيدة، ومنذ تلك اللحظة شقت بلادنا مسارها من أجل التنمية والوحدة والديموقراطية والتعادلية... لذلك، على تجار الدين، وحماة الفساد والمفسدين، أن يتذكروا، أن مسار الإصلاح بدأ في هذه البلاد منذ عقود، ودفعت في سبيله نساء ورجال أحزاب الحركة الوطنية التضحيات الجسام؛ من المنافي، من السجون، من الاعتقالات والمتابعات، لذلك، حُقَّ لنا اليوم، أن نطرح السؤال، أين الشعارات؟ أين الوعود الزائفة؟ أين الإصلاحات الموعودة؟ أين الحكومة من أحوال الشعب الذي لم ير منها إلا محاربتها لقوته اليومي؟ في لحظة الوفاء هاته، نعاهد الله على أن نواصل مواجهة «دعاة الإصلاح»، وما هم بمصلحين، على أن نواجه «دعاة مكافحة الفساد، وهم أكبر المفسدين. السادة والسيدات، إن نناضل من أجل تحرير الإنسان المغربي من كل أشكال المعاناة التي يئن تحت وطأتها فالفساد لا يزداد إلا استفحالا والبطالة عمت مختلف الفئات الشعبية وخاصة في صفوف الطلبة والشباب والفقر تضاعفت وتيرته بالزيادات الفاحشة في الأسعار والقدرة الشرائية في تدهور كبير جراء السياسة الاقتصادية غيرالعادلة والضرائب غير المنصفة، ناهيك عن المظاهر الاجتماعية القاسية من بؤس وحرمان وتشرد وتسول وجرائم التي أصبحت كلها تقد مضجع المواطنين والمواطنات، إنه واقع مؤلم ومؤسف عوض أن يواجهه رئيس الحكومة بتنفيذ وعوده الانتخابية التي تبخرت بتربعه كرسي الرئاسة المريح والمزيح، عوض ذلك تفنن في قمع كل الفئات الاجتماعية وأدار ظهره لكل انتقاد بناء، إلى درجة قطع أصوات ممثلي الشعب في مجلس المستشارين ... واليوم حين تجتمع أطراف الحركة الوطنية من حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي وكل شرفاء هذا الوطن فمن أجل إنقاذ الشعب المغربي من كل ما يراد به من انحراف وإذلال وتفقير وتهميش، فقد عودنا التاريخ أن وحدة الحركة الوطنية المغربية إلى جانب العرش المغربي المجيد تنتج الخير كل الخير لهذا الوطن الأمين، ذلكم هو شعارنا في هذا اللقاء الذي نعتبره منطلق البرنامج الحافل الذي يخلده حزب الاستقلال بمناسبة مرور ثمانين سنة على تأسيس نواته الأولى وفي نفس الوقت نقطة انطلاق لمشروع الدراسة الاستشرافية برسم العشرية القادمة التي تشكل سابقة في تاريخ الحياة الحزبية الوطنية، فتحية فخر واعتزاز للأبطال الأشاوس الأفذاذ وتحية نضالية للأجيال الجديدة لمواصلة الكفاح من أجل تحقيق بنود هذه الوثيقة الغراء. السادة والسيدات، إن الإفلاس السريع لمشروع التطرف في المنطقة وفي عدة أقطار، يؤكد أن الغمة الحكومية في بلادنا ستنفرج قريبا، لأن الشعب المغربي، لا يمكن أن يخدع مرتين، و» المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين». إن الصراع السياسي في بلادنا اليوم واضح المعالم؛ هنا، الأحزاب الوطنية، التي انتصرت دوما للوطن، ولقيمه وثوابته ومقدساته وشعبه، وهناك حيث «حزب الحركة، وحركة الحزب»، حيث الولاء لتيار التعصب الديني العالمي، والسعي لتفكيك الدولة، وإثارة الفتنة بين مكونات الأمة المغربية التي عاشت لقرون في سكينة. لقد واجهنا الدولة الاستعمارية، وانتصرنا، وواجهنا الدولة المستبدة بعد الاستقلال وانتصرت الديموقراطية ونواجه اليوم قوى التطرف والتعصب وسننتصر... نعم سننتصر بإذن الله، مصداقا لقوله تعالى : « إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتيكم خيرا « صدق الله العظيم . «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى، نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» والسلام عليكم ورحمة اله تعالى وبركاته.