حملنا الجاحظ في كتابه الشهير إلى عالم البخل ونوادر البخلاء، والبُخل هو نقيض الكرم الذي تغنّى به العرب وتشاعروا وافتخروا... ها هي الفكاهة جاءت كنقيض لما هو يجول ويدور بين الناس، وها هي الفكاهة تحط الأصبع على المفارقات والمتناقضات داخل المجتمع الواحد: البخل في مواجهة الاعتزاز بالكَرَم. وهذا التعريف مايزال يفرض وجوده إلى حدود العمر الذي نحن فيه كتعريف قويّ ومقبول. وكتب كونديرا ذات يوم بأنّ الضّحك أداة وأسلوب مقاومة وعلاج للأحزان، مقاومة يتغلب بها الإنسان على كلّ القوى التي تحاول نفيه أو سلب وجوده، أو إلغاء ذاكرته، أو محو شخصيته، أو تذْويب هويّته، أو تدمير ثقافته... إنه خندق من خنادق المقاومة التي تدافع من خلالها الجماعات والشعوب عن وجودها، ووسيلة خاصة للتذكر والتحقق والوجود، فمن خلال الضحك تتذكر الجماعات ذاتها، وتستمر حية في هذا الوجود. ها هي إذن، الفكاهة في مواجهة الخوف من سلب الوجود وإلغاء الذاكرة... الخوف من النهاية، والفكاهة تؤدي إلى القضاء على الخوف وهدمِه، من هنا، تتجرّأ العامة على الخاصة دفاعاً عن حقها في الحياة، إذن، فالضحك هو الحياة في عمقها وجوهرها، وبالضحك يعي الإنسان وجوده ويعي أنه موجود في هذا الوجود... إن الضحك عنصر من عناصر الهدم والتدمير، لكنه هدم وتدمير من أجل البناء، حسب ما جاء به الفيلسوف والناقد الروسي ميخائيل باختين... هنري برغسون، من جهته، يرى بأن الفكاهة ظاهرة إنسانية اجتماعية، تتطلب النظرة العقلية بدل الاهتمام الانفعالي، ويكون الضحك بمثابة الفعل التصحيحي للعيوب الاجتماعية، ويضيف برگسون بأن «الضاحك ليس له خصم أشد خصومة من الانفعال...» ومع هذا وذاك، يبقى الهدف الأسمى من الفكاهة هو إضحاك الآخرين من ذواتهم، من مفارقاتهم، من أخطائهم وهفواتهم وتناقضاتهم، من مكبوتاتهم ومخاوفهم، من واقعهم المعيش من بلادتهم ومن وقاحتهم... الضحك يتهكم من الإنسان، ولا يتهكم من الأشياء، الفكاهة تسخر من الإنسان، وليس من المكان، ونادراً جداً من الحيوان... ها هو الإنسان ضحية اختياراته، فهو الذي اختار أن يضحك عن نفسه... الضحك ذكي، لأنه يضحك عن ما هو بليد في الإنسان... الضحك ناتج عن أحاسيسنا وشعورنا، وليس عن فهمنا وإدراكاتنا... الإنسان يولد باكياً، وينبغي إضحاكه، وهذا عمق الأسرار الإنسانية. وهنا، ها هو السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بإلحاح: مَنْ بإمكانه إضحاك الآخرين؟ ومن يستطيع أن »يقتل« الناس بالضحك عن مآسيهم والباقي؟ ومن له القدرة والموهبة والمؤهلات ليلعب دور الفكاهي داخل المجتمع؟ فليس كل من شاء يصبح فكاهياً... ولا نتعلّم أن نكون فكاهيين في سبعة أيام بمعلم أو بدون معلم؟! الفكاهة فن صعب جداً، وإضحاك الناس أصعب بكثير من أن تجعلهم يبكون ويذرفون الدموع... الفكاهيون الحقيقيون يعملون بالطريقة التي يعمل بها علماء الأنتربولوجيا، فهم يراقبون الناس من بعيد، ويسعون من أجل كشف الغِطاء عن اللامعقولية التي يعيشونها في حياتهم اليومية... الفكاهيون أناس يمتلكون درجة لا يستهان بها من الذكاء، ويملكون قدرة إبداعية خلاّقة، الفكاهيون الحقيقيون هم أكثر الفنانين ميولاً للانطواء والانعزال والعُزلة... الفكاهيون الحقيقيون لديهم صور سلبية عن الذات، الفكاهيون الحقيقيون غالباً ما يشعرون بعدم الأمان وعدم السعادة وأحاسيسهم جد مرهفة... الفكاهيون الحقيقيون لا تهمّهم المادّيات لا من بعيد ولا مِن قريب، وسدّات مدام! فهل لدينا فكاهيون؟