عام يمر وكانت مرت قبله أعوام كثر ولم يحدث في الثقافة والفن ما يمكن اعتباره تحولاً أو قطعاً أو انعطافاً أو جديداً. إذا كان الانفجار الثوري الذي دعي الربيع العربي قد بدل كثيراً أو قليلاً في ركودنا السياسي فإن هذا لم يصل إلى الثقافة والفن، إذا تحرينا أسئلة الثقافة وأسئلة الفن وجدنا انها لم تتغير كثيراً، بل ربما أدهشنا ان الأعوام تمر والأسئلة تبقى نفسها. بل قد يخطر لنا ان ثمة تقهقراً على هذا الصعيد وأن الزخم الأول يبرد ويتحول إلى رتابة مقلقة وأن الاندفاع الذي عرفه النصف الثاني من القرن العشرين بات في نهايات القرن وبدايات القرن التالي مع الوقت مراوحة أو هموداً. لعلنا نذكر هنا ان انقلاباً في الشعر تم في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين أو نهايات النصف الأول من القرن نفسه، قامت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر في وقت واحد تقريباً. الرواية المحفوظية ومحفوظ يعتبر مؤسس الرواية العربية دارت في نهايات النصف الأول من القرن العشرين وتسربت إلى النصف الثاني. الفن التشكيلي انتقل من الفن الأكاديمي إلى التيارات الحديثة في الوقت نفسه، الموسيقى الرحبانية عاصرت نفس الزمن، السينما او الموجة المصرية الجديدة في السينما «محمد خان، داود عبد السيد...». مع ذلك مازلنا نسأل عن قصيدة النثر والفن الحديث والسينما الجديدة. نتساءل عن سر هذه الانتفاضة، أول ما نصادفه هو الاحتكاك بالغرب. قد لا تكفي كلمة الاحتكاك، ربما تفضلها كلمة انعكاس، قراءة الشعر الغربي والفرنسي بالخصوص أفضت إلى التحول الشعري، لم يكن الشعر الأمريكي أو الإنكليزي بعيداً لكن الشعر الفرنسي لابس اللغة العربية واندمج فيها بينما بقي الشعر الإنكليزي برانيا، تجربة جبرا ابراهيم جبرا وتوفيق صايغ وابراهيم شكر الله لم تحدث في الشعر إن على مستوى النظر او مستوى الإنجاز ما فعلته قصيدة السياب (الذي لا منبت واضحاً له) وادونيس والماغوط وانسي الحاج. يمكننا ان نلتفت أولاً إلى النتاج النقدي لهذه الموجة، وثانية إلى تعاملها مع اللغة، تعاملاً اعتراضيا لكن من داخل اللغة نفسها، كان يمكننا ذلك الوقت ان نسمي فوراً شعراء غربيين آباء لهذه الموجة، بريفير، بيرس، نيرودا، الآن ننظر إلى الشعر الحالي، لا لزوم للتذكير بطغيان قصيدة النثر التي لا تزال معمل تجارب، إذا تصفحنا نتاجات هذه القصيدة (تكاد تكون وحدها في الميدان) وجدنا انها تمر في حالة مقبولة من التجريب والابتكار. لقد وصلت القصيدة إلى درجة من إطلاق التجريب بحيث يستعصي البحث عمن هم وراء التجربة وبمن تأثر الشاعر، هل يعني ذلك ان الانعكاس الغربي بات مفقوداً ام يعني ان هذا الانعكاس لم يعد وقفاً على شاعر معين أو قصيدة معينة، لقد انفتح باب لم يعد ممكنا رهنه باسم او بنتاج، انها دينامية متصلة، تجديد بالمطلق وتجريب بالمطلق. في الرواية نقع على امر مماثل، لا بد ان التأثر بالرواية الغربية لم يعد وقفاً على أسماء معينة. كان في وسعنا في مرحلة سابقة ان نتأمل اثر الرواية الروسية او اثر همنغواي او فوكنر او حتى بلزاك وفلوبير يمكنناالآن نرى ان التراسل مع الغرب، الذي لا يزال بالتأكيد قائماً، يتم بدون تعيين وبدون تحديد، ما يعني ان الرواية شأنها شأن الشعر تمر في حالة من التجريب المطلق وان التأثير الغربي يفيض عن التحديد او التسمية. يمكننا ان نقول الشيء نفسه عن الفن التشكيلي. في مرحلة الريادة، كان في وسعنا، ان نتأمل تأثيرات ماتيس ودوفي وبيكاسو ودالي ودوستايل وكلي وميرو وسواهم لكننا الآن لا نكاد نتعرف على اسماء معينة، سنجد أيضاً ما يتعدى اللوحة: الإنشاءات والفن المفهومي، بالطبع يعني ذلك ان اللعبة باتت متشعبة متعددة وان الأبواب صارت كثيرة ولا يمكن حصرها باسم او بتجربة. هل يعني ذلك ان الانعكاس لم يعد مباشراً، واننا خرجنا من التأثر الغربي إلى امتصاص الغرب واستيعابه والدخول في آلياته وبواعثه ومنطقه، ام يعني ان الغرب لم يعد بالنسبة إلينا بضعة أسماء وبضعة تجارب واننا بدلاً من التسلق على عدة أسماء وعدة نتاجات دخلنا في السجال الغربي ذاته وما يصدر عنه من محاولات. ام ان ذلك يعني اننا دخلنا في خصوصيتنا وهويتنا. أسئلة لا نعدم جوابا عليها.