من الحقائق التي يمكن الحديث عنها اليوم هي أنّ ما عرفته بعض البُلدان العربية من تحوّلات، بعد ما سُمّي بالربيع العربي، منذ ما يربو على الثلاث سنوات، قدْ أحدث رجّة ليس فقط على صعيد الخريطة السياسية وما يترتّب عنها من خلخلة لموازين القوى، الخاصة بكل بلد على حدة، بل أيضا وخصوصا على مستوى المقاربات وأدوات التحليل. من هذه الأدوات نستحضر اليوم، في الملحق الثقافي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» العلوم الاجتماعية باعتبارها علما يتناول المظاهر الاجتماعية لمختلف الوقائع الإنسانية، وبالتالي يجعل الإنسان الذي يعيش في المجتمع موضوعا له، كما يتناول بالدراسة المجتمع بوصفه نتاجا للعلاقات بين البشر، فالموْضوع الحقيقيّ للعلوم الاجتماعية هو المُجتمع. لذلك انبرى عدد من الباحثين المغاربة، المتخصصين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، إلى طرح أسئلة جديدة على المجتمعات العربية المتحوّلة اليوم، وعلى أدواتهم ومناهجهم. منْ بيْن هذه الأسئلة مثلا: - ما هي التحوّلات الكبرى التي يعرفها المجتمع في ضوْء الربيع العربيّ؟ وما هي آثارها العميقة على فئة الشباب على الخصوص، باعتبارهم فاعلين أساسيين؟ وما هي ردّات أفعال أهل الاختصاص في هذا الشأن؟ العلوم الاجتماعية والواقع الملموس: عوْد على بدْء إنّ الاحتجاجات والمظاهرات في ساحات عواصم عدد من البلدان: »ساحة التحرير« في القاهرة، »ساحة التقسيم« بإسطنبول، »ساحة برادو« بمدريد، »شارع محمد الخامس« بالرباط (احتجاجات الشباب المعطّل الحاصل على شهادات) يقوم بها شباب »ساخط« يحمل مطالبه إلى الفضاء العموميّ. تمهيدا للجواب على هذه الأسئلة، تعتبر الأستاذة رحمة بورقية أنّ الشباب «كان دائما في قلب التحوّلات الاجتماعية، باعتبارهم فاعلين ومتفاعلين مع هذه التحوّلات. إن الذي بات يطبع زمننا اليوم، هو أنّ الشباب، الذي كان يعتبر بمثابة مرحلة عابرة في الحياة، وقوسا انتقاليا نحو سنّ البلوغ، أصبح أكثر اتساعا في دورة الحياة، وذلك بفعل عوامل اجتماعية واقتصادية، مثل تمديد التربية ودمقرطتها، وارتفاع سن الزواج، وصعوبة الانخراط في سوق الشغل. طول مدة فترة الشباب هذه، تعمل على تأخير الاندماج في النظام الاجتماعيّ. وهذا ما يدل على أنّ ما نطلق عليه »مرحلة الشباب« باتت تطول أكثر فأكثر». وتضيف رحمة بورقية أنّ الباحث لا يمكنه اليوم، على الصعيد أن يحيط بمختلف التحوّلات التي يعرفها المجتمع العربيّ اليوم بدون أنْ يستحضر سياق العولمة الذي أدى إلى خلق تعالق وترابط اقتصادي واجتماعيّ وثقافي بين المجتمعات. وهذا التعالق يضع المجتمعات النامية داخل دينامية مزدوجة، إحداهما داخلية مرتبطة بتطوّرها الخاص وبتحوّلات بنيتها الاجتماعية والثقافية، في حين أن الثانية خارجية ترتبط الثانية بأثر ومفعول العولمة. ومن ثمّ إذن، فإن الشباب يتأثّرون بهذه الدينامية المزدوجة، ويجدون أنفسهم داخل مظاهر ثقافية معقدة للانتماء والانتساب الهوّيّاتيّ. وهذا ما يجعل شباب اليوم مختلفا عن الجيل السابق. ويسير الأستاذ الباحث نور الدين أفاية في الاتجاه نفسه معتبرا أنّ التحوّلات المتسارعة للمجتمع المغربي، في ضوء ما يعتمل في العالم العربي والعالم ككلّ، والأحداث الاحتجاجية والسياسية الأخيرة تؤكّد صدْقية الأطروحة التي يدافع عنها باحثون أمثال رحمة بورقية ومحمد الطوزي ومحمد الصغير جنجار. يتجلى جوهر هذه الأطروحة في أنّ المجتمع الذي يفكر، بالجدية السياسية الضرورية، في شبابه، وفي نسائه أيضا، هو ذلك المجتمع الذي يرتقي إلى مستوى طرح الأسئلة الكبرى عن ذاته، وعن تاريخه وقيمه واختياراته المستقبلية، والبناء عليها، خصوصا في سياق تهتز فيه المقولات التقليدية بحكم التنامي المطّرد للمجالات الحضرية، وبروز ظواهر من الفصام والتمزق الوجودي بسبب تحديث مادي ناقص، وحداثة مشوهة ، وغياب مشروع ثقافي وتعليمي يستجيب، حقا، لمقتضيات التأسيس لمجتمع ديمقراطي يعترف بكل فئاته. وكلّ هذه يستوجب على الباحث إعادة النظر في أدواته التحليليّة، ومُراجعة عدد من المنطلقات النظرية في علم الاجتماع. التنظيمات الاجتماعية في مغرب اليوم وبالفعل، لقدْ شهد المغرب في العقد الأخير نشاطا لافتا لتنْظيمات المجتمع المدني، وظهور فاعلين جدد، وحركات شبابية، ونسائية، وتجمعات مهنية، وأشكال جديدة للتضامن تحل محلّ الانْهيار التدريجي للإحساس الإنساني بالتضامن بسبب اجتياح قيم الاستهلاك المتوحشة. وهو ما أدّى إلى إطلاق حركات احتجاج، وانتفاضات، وإلى صيغ مبتكرة من المطالب، ساعدت على تأجيجها أحداث تونس ومصر سنة 2011، وحركة 20 فبراير التي دفعت إلى الواجهة فاعلين شباب في غالبيتهم، مدعومين بأشواق وتطلعات، ووسائل تواصل جديدة، ومنظمات حقوقية وسياسية. غيْر أنّ المُلاحظ، مع ذلك، هو بروز دراسات وقراءات ذات صبْغة سوسيولوجية متسرّعة إلى حدّ كبير، ولا تعتمد على معطيات متأنية ومدروسة، وخصوصا في المشرق العربي الذي يعرف استسهالا كبيرا في الكتابات الاجتماعية، خلافا لما تعرفه الساحة المغربية التي يزيد من تأنّيها نُدرة الباحثين الجدّيين في هذا المجال. من ثمّ يعتبر كلّ من إدريس الكراوي ونورالدين أفاية أن الاهتمام بالشباب المغربي، اليوم، من طرف كل مستويات صانعي القرار، يستلزم اختيارا تاريخيا واستراتيجيّا، إنْ لم يتطلب مشروعا مجتمعيّا جديا قادرا على تعبئة الشباب، وخلق شروط إدماجهم في المؤسسات، واعتبارهم فاعلين رئيسيين في توطين قيم المجتمع الديمقراطي. وهذا لا يتمّ بدون جرْد سوسيولوجيّ وميداني جدّي يقوم به باحثون متخصصون، ولا يستند إلى مجرّد الرأي الشخصي والانطباعي. التحوّلات العربية وسوق القيم تعتبر رحمة بورقية أنّ هناك ظاهرة أخرى تتصل بالتحوّلات التي تعرفها المجتمعات العربية، وضمنها المجتمع المغربيّ، هي ظاهرة انتشار القيم داخل سوق واسع للقيم. فإلى جانب القيم «التي كانت تقليديّا خاصّة بالمجتمع المغربيّ ومميّزة له: كالزواج، التضامن العائلي، الدّين (الصلاة)، وجدنا أنفسنا أمام قيم جديدة: التحرير والحوار بخصوص تربية الأبناء، استقلالية الزوْجيْن، العائلة الضيّقة، مشاركة المرأة في السياسة، وكذا القيم الجديدة، مثل المساواة بين الرّجل والمرأة والديمقراطية... إنّ التحوّل الكبير يكمن في سيرورة معقّدة حيث القيم التقليدية والقيم الجديدة يعاد صهرهما وتشكيلهما وأحيانا تهْجينهما». ومعنى ذلك أنّ عملية التطبيع الاجتماعيّ داخل المجتمع قد جرتْ في سياق مطبوع بكوْن شباب اليوم يُفاوض »العقد الاجتماعيّ« التقليدي وفْق منظومة قيم جديدة ومخالفة. لذلك يعتبر الباحث والأستاذ محمد الصغير جنجار أنّ السنوات الثلاث الأخيرة، أي منذ انطلاق الانتفاضات العربية الشعبية في كل من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، قد انطبعتْ بصورة عميقة بنقاشات متواترة حول وضعية ومكانة الشباب في المجتمعات المعاصرة. يقول: «إنه بطرحنا قضية التحولات، هنا والآن، فإننا نسعى إلى المساهمة في التفكير في فعل اجتماعيّ مكثف سيعمل مصيره ومستقبله، على المدى المتوسط والطويل، من شأنه أن يغير بكل تأكيد مجتمعاتنا في العمق. فلم يسبق من قبل لمجتمعات الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، عبر تاريخها، أنْ كانت أمام تدبير ظاهرة وتحديات بهذا الحجم، مثل ما تمثله اليوم إشكالية شبابها (التربية والتعليم، التنشئة الاجتماعية، الإدماج الاقتصادي الخ). ذلك أنه يوجد اليوم في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية ما يربو على 100 مليون شاب تتراوح أعمارهم ما بين 15 و29 سنة، يعيش 10 في المائة منهم في المغرب. غير أنه، مع ذلك، لا بدّ من تسجيل أنّ الشباب لا يمكن اختزاله في مجرّد مسألة ديمغرافية . فخلْف الأرقام تعتملُ تحوّلات أنتروبولوجية عميقة للمجتمعات المعاصرة». لذلك يخلص إلى أننا اليوم في أمسّ الحاجة إلى معرفة مختلف الدلالات التي تنطوي عليها مقولة «الشباب» في مجتمعاتنا. وذلك لأن الباحثين المتخصصين في العلوم الاجتماعية، ورجال السياسة، ونساء ورجال الإعلام، طالما اعتادوا على التفكير في هذه المقولة باعتبارها «حالة مؤقتة»، حالة انتقالية، في حياة الأفراد، مرحلة انتقالية ما بين نهاية المراهقة والدخول في سنّ البلوغ. ويتمّ عموما تمييز سنّ البلوغ بثلاثة محددات تدل على استقلالية الأفراد، وهذه المحددات هي: الاستقرار المهني، والانفصال عن الآباء، والانخراط في الحياة الزوجية. لكن مع ارتفاع معدل الحياة، وتزايد وطول مدة الدراسة، وتراجع سنّ الزواج، وتزايد صعوبة الولوج إلى سوق الشغل، باتتْ هذه النظرة إلى مقولة »الشباب« جدّ متصدّعة. ومن ثم، إذن، يتعيّن علينا تغيير المنظور والتفكير في الشباب بكيفية مغايرة. وبالفعل، فإنهم يُجمعون على أنه من من القضايا التي ينبغي إعادة فتح نقاشات حولها، هي: إشكالية إدماج الشباب في سوق الشغل، والبطالة التي تضربه بقوّة في العمق، والعلاقة المعقّدة القائمة بين التكوين وسوق الشغل، وكذا الترتيبات المتباينة بين كلّ من الدولة والأسرة وسوق الشغل، وتأثير هذه الترتيبات على المستوى استقلال الشباب، وعلى درجة انخراطه المدني والسياسي. وفي سياق إعادة صوْغ السؤال السوسيولوجي في ضوء العلائق الجديدة التي ترتسم اليوم، تقول بورقية: «ما هي حصّة الموروثات الثقافية في النظرة التي يبلورها المجتمع إزاء شبابه؟ وكيف يمكن تفسير كوْن إمكانيات الاستقلالية والفرْدانية الذي تحرّر بفعل الثورة التربوية، يجد نفسه محصورا في حالة البنات من الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من خلال ندرة فرص العمل التي تُقترح عليهنّ، والثقافات العائلية؟ مع ملاحظة أن البنات يتابعن بشكل مكثف شعب التعليم العالي أكثر من الشباب، غير أنّ معدّل البطالة في صفوف المتفوّقات مضاعَف بشكل كبير بالقياس إلى بطالة الشباب الذكور(من بين الحاصلين على شهادة الإجازة في الأردن، مثلا، هناك 18 في المائة من العاطلين مقابل 49 في المائة من العاطلات)». من ثمّ لا يمكن، في نظرها أنْ نختزل النقاش حول مختلف الأدوار التي لعبها الشباب في الانتفاضات التي عرفتها بلدان المنطقة خلال السنوات الأخيرة، ذلك أنّ السؤال الذي يطرح، يتجاوز الحالة العربية: الغاضبون والساخطون الإسبان، والمحتجّون في كل من تركيا والبرازيل الخ. فهل نحن اليوم أمام دينامية جيليّة تسعى، هنا وهناك، إلى التفاوض حول »العقد الاجتماعي«؟ وما هي أنماط التعبئة السياسية الجديدة التي يبتكرها أمام أعيننا شباب اكتسب الثقافة الرّقمية؟ احتلال الفضاء العموميّ لقد انتقل احتجاج الشباب، الذين أصبحوا فاعلين أساسيين له، إلى الفضاء العمومي، وذلك في اتجاه تملّك هذا الفضاء من أجل التظاهر وتحدّي قوات الأمن وتأكيد حضورهم في هذا الفضاء. ومن ثمّ، فإنّ الصراع الذي كان يقتصر في الماضي على صراع الأجيال، أضحى اليوم صراعا مفتوحا ضدّ أشكال أخرى للسلطة: مثل الاحتجاج على قانون أو قرار حكوميّ أو سياسية أو فكرة أو إيديولوجيا، وجميع أنواع المطالب الاجتماعية الخ. من هنا تعتبر بورقية أنّه «إذا كانت ظاهرة المعطلين من أصحاب الشهادات الجامعية بالمغرب، قد أدّت إلى الحطّ من قيمة ومصداقيّة الشهادة الجامعية داخل المجتمع، فإنها قد أدّت كذلك إلى إحداث إحباطات كثيرة في صفوف الحاصلين عليها. وهذا الإحباط هو الذي يعبّر عنه الشباب من خلال التظاهرات التي ينظمها بانتظام في الفضاء العموميّ، من أجل الطالبة بحقّه في العمل. إن هذا الشباب، الذي يعتبر نفسه بمثابة نخبة متعلّمة في المجتمع، حاصلة على شهادة يقلّل من شأنها سوق الشغل، يعبّر عن مخاطر النظام الاقتصادي والاجتماعي، ويزيد من فقدان ثقة الشباب في هذا النظام». وعلى صعيد آخر، «فإن هذا الشباب المتواجد في أرضية الاحتجاج العمومي لا يشكل جسدا واحدا منْسَجما، بلْ إنّه تخترقه اختلافات اجتماعيّة وإيديولوجية. فشاب إسْلاميّ يمكنُ أنْ يتواجدَ بجانب شابّ ماركسيّ أو ليبراليّ من أجْل تنْشيط وتحْريك الشباب. شابّ آخر، باسْم الحداثة ومسْكون بنموذج الحرّية الشّمولية، يحطّم كلّ علاقة بسلطة ثقافة ماضي، في حين يطالب آخرون بحرّيّة المعتقد الخ». صحيح أنّ الاحتجاجات الشبابية، التي اخترقتْ »العالم العربي«، تعبّر عن المطالبة بالديمقراطيّة. غير أنّ هذا التعبير لا يصاحبه تفكير حول محتوى ومضمون مفهوم »الديمقراطية«. نحن إذن إزاء عاطفة ديمقراطية تسعى إلى جعْل هذه الديمقراطية كَصَنَم سياسيّ. وهذا ما يؤدّي إلى انقسام وتشتّت هذه المطالب الشبابية في الفضاء العموميّ، وتباين المثل العليا التي تحملها، والتي تبدو في بعض الأحيان مُثُلا متناقضة. وتدعم هذا التشتّت الثورة التكنو-معلوماتية التي توفّر للشباب فضاء مفتوحا على كلّ التطوّرات الممكنة. وفي مستوى آخر، ساهم الأنترنيت في تعزيز ثقافة الحرية، وفي خلْق محيط يسمح باقتسام المعلومات والصور والأفكار، بحيث جعلها بين يدي الشريحة الواسعة من المبحرين في عالم الأنترنيت. فبإمكان كل واحد أن يدخل إليه بدون موانع، ويبدي رأيه، ويبعث بمعلومة أو خبر الخ. ومن ثم، فالأنترنيت أسّس لثقافة سياسية جديدة تقوم أساسا على الحرية المطلقة من أجل التعبير عن الأفكار وممارسة النقد السياسي للسلط والأنظمة. ويعبره بعض الكتّاب بمثابة »اللا شعور السياسي«، أو بالأحرى بمثابة عالم سياسيّ مواز للعالم السياسي التقليديّ. إنّ الصفة الغُفلية تعطي لكلّ واحد إمكانيّة اكتساب جرأة تغيير الخطوط الحمراء التي يفرضها القانون السياسيّ التقليديّ وممارسة حرية »القوْل«، وكتابة الآراء والتعبير عنها بواسطة الصور. فكل مستعمل للأنترنيت، خلف جهازه، يوجد في وضعية مساوية للآخرين الذين يستعملون نفس الوسيط التواصليّ. يتفاعل معهم في الوقت ذاته ليتقاسم ويتلقّى. بإمكانه إبداء رأي، أو تقديم معلومة كتابة أو بالصورة أوبالفيديو، بشكل فوريّ، متجاوزا بذلك الرقابة الذاتية، دونما خوف من تكسير الطابوهات، ولا خوْفا من ضغوط العقاب. يتعلق الأمر بمحيط بلا حدود، ينفلتُ من مراقبة الحاكمين؛ محيط بلا حرّاس وبلا فارز ومُصَفّ للمحتويات، وبلا حَكَم يميّز بين المعلومات الخاطئة والمعلومات الحقيقية. هذه الحرية التي يتمتع بها مستعملي الأنترنيت تزيد من تقويتها وتعزيزها شبكة الفايسبوك التي تسمح للفايسبوكيّين بتكوين مجموعات اجتماعيّة، والتواصل فيما بينها في اللحظة نفسها، ومواصلة الاتصال على الشبكة. كلّ مرسل للمعلومة، على الفايسبوك، هو مُستقبل في الآن ذاته، وكلّ مستقبل هو مرسل. وهذا ما يجعل من كلّ فايسبوكيّ مساهما في إنتاج الأفكار وفي توزيعها ونشرها. لقد منحَ الأنترنيت ومختلف شبكات مواقعه الاجتماعية، ك «الفايسبوك» و«تويتر»، للأفراد فضاءات واسعة لممارسة حرية افتراضية، كما وفّرتْ الاستقلالية، وحرّرت الكلام، ووسمحتْ بممارسة النقد والنقد المُضادّ. إن الأنترنيت ينتج بكيفية دائمة صيغا جديدة لتنظيم التواصل بكل حرية في التعبير. وعلى الصعيد السياسي، يُعتبر الفضاء الافتراضيّ فضاءً للتعدّد إلى الحُدُود القصوى. بحيث يأوي كلّ الاتجاهات ويجعلهم متساكنين ومتواجدين في المكان نفسه مع بعضهم البعض. كما أنه محيط يقبل الفاعلين داخله بهذا التعدد. كما أنّ الفضاء الافتراضيّ هو كذلك حامل لأشكال التعبير الأخرى: التعبير الفنّي، الفنّ، الأغنية، بحيث يعطي لكلّ شخْص إمكانية الحضور الفردي، ويجعل تعبيره ماثلا للعيان. إنّ الشباب، المسْكون بتمرّد ما، ظاهر أو خفيّ، يمارس السياسة بدون فكرة نظرية عن السياسيّ. فالاحتجاج يتحوّل إلى انفجار آنيّ ولحظيّ سرعان ما يخبو بعد تلبيته أو قمعه، ليظهر من جديد في أشكال أخرى. ففي مرحلة معيّنة من الحياة، تستخلص بورقية، مرحلة تطيلها التحوّلات المجتمعية، يتأثر شباب اليوم بالتحوّلات الكبرى لهذا المجتمع بطريقة تفاعليّة. وهذا ما يوحي على الصعيد الفرديّ بمسارات متعددة. فالعولمة، وتراجع السلطة العائلية التقليدية، والحرّية المكتسبة على صعيد العالم الافتراضيّ، والتي امتدّت إلى العالم الواقعيّن والخوف من اللايقين ومن التقهقر الاجتماعيّ، وكذا حرية سوق القيم والإيديولوجيات، كلها جعلت التنشئة الاجتماعية تتمّ من خلال قنوات متعددة. في هذا السياق، يتوفّر الشّباب على سجلّ واسع من الإمكانيات التي تجعلهم يختارون انطلاقا منها معاييرهم واتّجاهاتهم الخاصّة. فالبعض سيتموْضع في اتجاه التطرّف الديني أو في اتجاه تطرّف آخر، والبعض الآخر سيختار تمرّدا يلطّفه الغناء (الرّاب، الهيبْ هوبْ، موسيقى التكنو، الفنّ، الرياضة...)، بينما سيغامر آخرون في المجال الاقتصادي، بخلقهم لمقاولات اقتصادية، أما البعض الآخر فقد اختار النشاط الاحتجاجيّ من خلال احتلال الفضاء العموميّ (المعطّلون الحاصلون على شهادات)، في حين اختار غيرهم الانخراط في المجتمع المدني...