في الوقت الذي تركز وسائل الاعلام العالمية كل أضوائها على الاحتجاجات السياسية في بانكوك، تعيش الأقاليم الجنوبية في تايلاند حربا حقيقية بين المسلمين من الإثنية الماليزية يتطلعون إلى حكم ذاتي أوسع, وقوات السلطة المركزية التايلاندية. ومنذ 2004 يشهد جنوبتايلاند معارك بين القوات الحكومية والمتمردين الانفصاليين المسلمين. ورغم الخسائر التي تكبدتها الجماعات المتمردة مؤخرا، فإن أجواء العنف متواصلة بوثيرة متصاعدة، لاسيما في محافظات باتاني يالاو ناراتيوات. في منزلها الكبير المبني بالخشب في بلدة بيرانجا الواقعة على بعد 50 كلم من بلدة باتاني عاصمة إحدى المحافظات الثلاث المتمردة في جنوبالتايلاند، تحكي سيدة تجاوزت عقدها الخامس, بكثير من التفاصيل, كيف قتل ابنها عزيز (26 سنة) يوم 15 أكتوبر خلال حملة لقوات الجيش التايلاندي الذي يتعقب عناصر الانفصاليين المسلمين. تقول" »كانت الساعة حوالي الثانية والنصف ظهراً، رأيت سيارات مليئة بجنود يلبسون الأسود تقف أمام منزلي. بعضهم حاصر المنزل وآخرون أسرعوا إلى داخل مزرعتنا حيث سمعت طلقات نارية... بعد ذلك، أيقظت عزيز من قيلولته، وهو طالب في مدرسة قرآنية، وطلبت منه معرفة ما يجري. خرج وأخذه الجنود واقتادوه إلى المنزل المجاور، حاولت اللحاق بهم، صدوني، طلبت منهم أن يشرحوا لي ما يجري. ولكنني لم أفهم شيئاً، لأنني لا أتكلم لغة التاي. وفي الخامسة، سمعت طلقات نارية أخرى من المزرعة، في الساعة السابعة، عاد الجنود أدراجهم ولم تر ابنها بعد ذلك. بعد ذلك بساعات، جاء جيران وأخبروها أن ثلاث جثت توجد في المستشفى، كانت إحدى الجثت لابنها عزيز، كان وجهه مشوها بفعل الرصاص، وتضيف: »لم يخبرني الجيش، حضر ضابط لم يكن من القوات الخاصة للجيش بعد ذلك، ليخبرها بأن رجاله لا علاقة لهم بالجنود الذين يلبسون الأسود. أجهل حتى الآن من قتله ولماذا..« تواصل الحكي وهي تمسح دموعها بأطراف حجابها »لا أعرف من المسؤول عن قتله، ليس لدي أي دليل، ولا نعرف من يقتل من«" هذه الحكاية ليست سوى صورة بسيطة عن الروتين الدموي للتمرد في جنوبالتايلاند. ومنذ 2004، تاريخ تصاعد أنشطة المتمردين، لقي ما لا يقل عن 6000 شخص، من مقاتلين انفصاليين ومدنيين ومدرسين وموظفين ورجال شرطة وجيش مصرعهم في المواجهات. العنف المتواصل في الأقاليم الثلاثة (باتاني، يالا، ناراتيوان) له تاريخ ليس بالقديم جداً: في سنة 1909، تم إلحاق ما كان يسمى سلطنة باتاني المسلمة، وكانت جزءاً من ماليزيا المجاورة، تم إلحاقها بالقوة بمملكة سيام (الإسم السابق للتايلاند). عرقياً سكان المنطقة من أصول ماليزية، وديانتها الرئيسية هي الإسلام وهي تمثل الأغلبية (80%) في هذه الأقاليم، رغم أنها أقلية بالنسبة لمجموع سكان التايلاند البوذية. والماليزيون المسلمون لا يمثلون سوى 2,2% من مجموع سكان التايلاند البالغ عددهم 67 مليون. ويمكن بسهولة تصور ما سببه هذا الاختلال الهوياتي في مملكة تغلب فيها الميولات الهيمنية والاندماجية: فالجميع تايلاندي أولا، وغير التايلانديين بالمعنى الإثني مطالبون بالخضوع للنموذج المفروض... في هذا البلد، حتى العلامات أو الإشارات الخارجية المعبرة عن الاختلاف والتميز، تعتبر »معادية للتايلاند«... في هذه الأقاليم المساجد في كل مكان، واللباس الاسلامي (رجالا ونساء) تراه في كل مكان، وأثناء صلاة الجمعة، يعتقد المرء أنه في بيشاور الباكستانية. على الطرقات، ورغم أن الجو العام لا يوحي دائماً بأن البلد في حرب، إلا أن حواجز الجيش والشرطة دائمة والدوريات مكثفة تشعرك بأن الجنة التايلاندية تعاني عطباً في هذه الأقاليم الجنوبية. على بعد كلمترات من قرية أم عزيز، توجد المدرسة القرآنية للإمام محمد باولي كواجي, عبارة عن مركب واسع وسط أشجار الكوكو، ومبنى قديم عبارة عن مسجد وحوله مساكن خشبية تستغل مساكن لحوالي 80 طالباً مقيماً. الإمام محمد باولي خواجي شخصية دينية قوية ومحترمة. قبل وفاة عزيز تناول معه الطعام، وهو من قام بتغسيل جثمانه وأشرف على جنازته... هل كان عزيز انفصاليا؟ يرد الإمام" »سجله العدلي نظيف، لاشيء يربطه بالحركات المتمردة"« لماذا قتل؟ »اعتقد أن القوات الخاصة كانت تلاحق الشابين الآخرين اللذين وجدا مقتولين بالرصاص رفقته بالمستشفى، وربما اعتقدوا خطأ أنه معهم,« يتمدد وجه الإمام قبل أن يختم قائلا: »أرواحنا تحترق، عندما نفكر فيما يجري في أقاليمنا«. أم عزيز والإمام محمد باولي خواجي شخصيتان شاهدتان على مسرح العنف الذي تتحرك على خشبته حرب غامضة تبقى أسرارها كاملة، صراع حقائقه مجزأة والمعلومات حوله غير كاملة ويصعب التحقق منها, بينما الهجمات التي ينفذها التيار الانفصالي لا يتم تبنيها في أي جهة, لكن مصادر مقربة من الجبهة الوطنية الثورية الماليزية لتنسيقية باتاني، أكبر وأنشط الحركات المتمردة، تؤكد أن عزيز كان مرتبطا بخلية اللوجستيك التابعة للحزب. ومنذ شهر فبراير بدأت محادثات سلام بين السلطات المركزية في بانكوك والجبهة في كوالالمبور تحت إشراف الحكومة الماليزية التي يبقى سكانها اثنيا ولغويا ودينيا، مرتبطين وقريبين جدا من سكان الجنوبالتايلاندي. لكن هذا الانطباع خادع عندما يتعلق الامر بالسياسة ويرى أحد مسؤولي اكاديمية باتاني للسلام والتنمية، وهي منظمة غير حكومية لا تخفي تعاطفها مع حركة التمرد، ان الجبهة لا تشارك في هذه المفاوضات بشكل طواعي، بل إلى ماليزيا (التي تترك الجماعات الانفصالية تستعمل أراضيها كقاعدة خلفية) هي من يجبرها على ذلك«. وفي هذه القضية، يضيف" الجماعات الانفصالية تجد نفسها بين نارين, هناك الدولة التايلاندية من جهة, التي تبقى أجندتها السياسية متناقضة تتعايش داخلها رغبات مختلفة أحيانا بين الحكومة والقصر الملكي والجيش والشرطة. ومن الجانب الاخر الحكومة الماليزية التي تريد تهدئة الاقاليم الثلاثة لأسباب اقتصادية أساسا. والمفاوضات الحالية لا تقود بأي شكل من الاشكال الى سلام دائم قريبا" وهو تأكيد حقيقي بدليل ان المفاوضات متوقفة حاليا و الى أجل غير مسمى. على بعد عشرات الكلمترات من باتاني، في المنطقة التي تعتبرها السلطات منطقة "حمراء", أي الاخطر حيث تسيل الدماء بكثرة ، توجد قرية بولاكاتين "قرية الارامل بامتياز. وخلال تسع سنوات، قتل 15 رجلا من رجال القرية. والرجال الذين مازالوا على قيد الحياة يعدون على رؤوس اليد الواحدة. إحداهن وبعد مقتل أحد أقاربها في يونيه على يد رجال كانوا على متن دراجة نارية, جاء الدور على زوجها عبد الله تقول: عبد الله نظم اجتماعا مع القرويين للاحتجاج على مقتل عمه اسماعيل يوم 14 غشت، كان عائدا الى منزله على متن سيارة، لكنه لم يعد, كان رجال بلباس أسود في انتظاره في الطريق، واجهزوا عليه بالرصاص.. وتضيف الذين يطلقون الرصاص هم كتائب قتل حقيقية! من هم؟ ملشيات مسلحة موالية للحكومة؟ جنود تايلانديون بوديون؟ لا أعرف، ما أعرفه هو ان هذه الملشيات المسلحة نصبوا قاعدتهم الخلفية في قرية مجاورة اغلبية سكانها من البوديين, والجميع يعلم أنهم متورطون في تجارة المخدرات. زوجي الذي كان مستشارا محليا. كان يقود حملة نشيطة وناجحة ضد إدمان الشباب للمخدرات. وربما دفع ثمن نشاطه. وتشير الى مكتبة صغيرة في الحجرة, انظروا، كان يسافر كثيرا عبر العالم، لقد جلب لي مجسما صغيرا لبرج ايفل كتذكار من زيارته لباريس. تصمت قليلا تم تواصل" في التايلاند لا وجود لعدالة لنا.. اما بالنسبة لي و منذ وفاة زوجي لم يعد هناك ما يخيفني. عائلة عبد الله تؤكد انه لم يكن انفصاليا. ولكن حسب مصادر اخرى على اطلاع بخبايا الصراع, تؤكد ان عبد الله كان فعلا منخرطا في حملة ضد المخدرات، ولكنه الى جانب ذلك، كان قريبا من الانفصاليين، وفي مثل هذه القرى، هذا هو حال الكثيرين. ومنذ اندلاع التمرد مجددا سنة 2004 بعدما كان يعرف في السابق فترات تراجع وفتور منذ سنوات 1960 تغيرت استراتيجية الانفصاليين, مؤخرا, وبعد ان اظهرت فعالية اكبر من خلال هجمات مباشرة على قواعد الجيش التايلاندي من طرف مقاتلين انفصاليين اكثر تنظيما. تعرضت حركة التمرد لهزائم قاسية بسبب تطوير اساليب وتاكتيكات الجيش في محاربة المتمردين. لكن تزايد عمليات التفجيرات عن بعد ضد دوريات الجيش تظهر الى اي حد تتدهور الاوضاع. ورغم تراجع الهجمات بالسيارات المفخخة، فان العنف متواصل بوثيرة متصاعدة بدليل ان عدد القتلى تتراوح مابين 3 الى 5 يوميا في الجانبين .عنف يصيب اهدافا محددة من رجال الشرطة او الجيش أو تصفية حسابات داخل الماليزيين من "العملاء" و"المخبرين" و تصفية مشبوهين او عناصر من الانفصاليين على يد ملشيات مرتبطة بالسلطات. يقول دون باتان، صحفي ومحلل تايلاندي يقيم في اقليم بالا، احد الاقاليم الثلاثة المتمردة في جنوبتايلاند، يقول "لا يجب ان ننسى ان الجميع يستفيد من العنف السائد من أجل تصفية حسابات ليست بالضرورة سياسية، ولكنها مرتبطة بالجريمة المنظمة وتجارة المخدرات وغيرها . لكن كل هذه الجرائم تلصق بالصراع. وماذا تريد المعارضة المسلحة؟ الامر غير واضح تماما. الانفصال التام عن مملكة التايلاند، حكم ذاتي؟ رغبة في ترك مناخ من الرعب يستقر من اجل كسب موقع افضل في المفاوضات؟ في كل الاحوال، تريد اكبر الفصائل المتمردة الانفصال, وتتبنى خطابا دينيا اسلاميا تقليديا. ولو انه لا يصل حد الدعوة الجهادية, وتؤكد مصادر قريبة من الحركة "إنها ليست حربا دينية، إنها حرب من أجل تأكيد هويتنا وفي نفس الوقت تشبه الاستراتيجية السياسية والعسكرية للمتمردين شبها كبيرا بالمدرسة الماوية القديمة ليس اقلها كسب تعاطف القرويين، وحتى اذا لم يكن كل السكان يساندون الانفصال، فإن جزءا كبيرا من المسلمين من أصول ماليزية تريد ان يتم الاعتراف بخصوصيتها الثقافية. وفي هذا السياق العديد من سكان الاقاليم الثلاثة، يريدون أن يتم الاعتراف باللهجة المتداولة في المنطقة (الجاوي) وأن تصبح لغة رسمية ويتم تدريسها في المدارس، ويركزون أيضا على ضرورة الاعتراف رسميا بالاجتهاد الفقهي الإسلامي في حل النزاعات فيما يتعلق بالطلاق والإرث. وهناك نقطتان إيجابيتان في هذا الموضوع: وضعية حقوق الإنسان شهدت بعض التحسن، وهو أمر يعترف به محامون ماليزيون مسلمون استنادا الى إحصائيات لجرد حالات وجود تعذيب على يد قوات الأمن، وهي في تراجع. كما أن السلطات التي ظلت تنكر البعد الهوياتي للنزاع، يبدو أنها أصبحت أكثر استعدادا لأخذه في الاعتبار. في يالا, يمزج حاكم الإقليم بين الانفتاح والحذر, ويؤكد أن »الصراع »صراع ايديولوجي، ونحن على استعداد للنظر في مختلف الحلول في إطار دستورالمملكة" هل يمكن تصور حكم ذاتي أو نوع من الوضع الخاص للأقاليم الجنوبية في تايلاند ؟ يجيب حاكم الإقليم بابتسامة عريضة تنم عن دهاء موظف سام متمرس في فن المفاوضات "في الماضي، لم تكن الدولة تريد تجاوز هوامش تفسير ضيق لما يمكن تقديمه، لكن اعتقد أننا أصبحنا أكثر ميلا لفتح مجالات يمكن داخلها ايجاد حلول ملائمة ومرضية للطرفين«. لكن هناك مسافة كبيرة بين الكاس والشفتين كما يقال. فالمفاوضات توجد حاليا في مأزق. والحرب المنسية في جنوبتايلاند. والتي لا تثير تداعياتها باقي العالم، لازالت تدمي المناطق الجنوبية من تايلاند "»بلد الإبتسامة"« كما يوصف. ويؤكد مدير مركز دراسة النزاعات والتنوع الثقافي بجامعة باتان, أن امكانية منح الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا أمر ممكن، ودستور مملكة التايلاند نفسه يسمح بذلك، وفيما يتعلق بإحساس السكان, أظهر استطلاع للرأي, أشرف عليه المركز أن 50% من السكان المستجوبين يؤيدون منح هذه الأقاليم نوعا من الحكم الذاتي و30% يؤكدون أنهم مرتاحون للوضع الحالي. وبالنسبة ل 20% المتبقية، هناك 10% فقط يريدون الاستقلال الكلي. وبالتالي يكشف هذا الاستطلاع للرأي أن مسألة التعليم باللغة المحلية (الجاوي) والاعتراف بها لغة رسمية تصطدم برد فعل القوميين التايلانديين، وتتناقض مع مفهوم "»التايلندة"« السائد والمتمثل في الإندماج القسري لجميع السكان من أجل توحيد ووحدة البلاد، وللبلاد تاريخ طويل في إلغاء هذا النوع من المطالب من طرف الأقليات الإثنية في البلاد. والحكومة منشغلة أكثر بالقضية الإثنية واللغوية أكثر من انشغالها بالمسألة الدينية. فالأقلية الماليزية المسلمة تنتمي إلى المدرسة الشافعية السنية التي تدعو إلى إسلام تقليدي ومتسامح. والسلفيون في هذه المناطق قليلون. وبالتالي فالتحدي الأكبر بالنسبة للحكومة هو الوصول الى ايجاد حل سياسي بوسائل سلمية وهو مسلسل سيتطلب بعض الوقت. بتصرف عن لوموند تواريخ بارزة يناير - مارس 2004: مقتل أزيد من 100 شخص في سلسلة هجمات من تنفيذ انفصاليين مسلمين. حكومة تاكسين شيناواترا تعلن حالة الطوارئ في الجنوب. 2006: تمت الإطاحة بحكومة تاكسين شيناواترا من طرف الجيش. ورغم عدة مبادرات تجاه المسلمين، لم ينجح الجيش في إعادة الأمن للجنوب. فبراير 2013: في الوقت الذي ارتفعت حصيلة القتلى الى أزيد من 5000 منذ 2004، اطلقت حكومة بانكوك مفاوضات مع المتمردين برعاية ماليزيا. يوليوز 2013: توقيع وقف إطلاق النار خلال رمضان. غشت 2013: اغتيال يعقوب ريماني إمام مسجد باتاني وأحد الداعين والداعمين لمسلسل السلام.