افتتحت شعبة اللغات بالمدرسة العليا للأساتذة بمرتيل موسمها الثقافي 2013/2014 بتنظيم الحلقة الثلاثين من سلسلة «تجارب إبداعية» باستضافة القاصة المغربية لطيفة باقا. وتميزت الجلسة التي أدارتها باقتدار الباحثة سعاد بن الوليد بحضور لافت ونوعي لعدد من الأدباء والباحثين والأكاديمين وثلة من الطلبة الذين تابعوا اللقاء وأغنوه بمداخلاتهم وأسئلتهم التي تؤكد عمق الرسالة التربوية التي تنخرط فيها شعبة اللغات منذ سنوات بجعل التكوين الجامعي ينخرط في أسئلة الإبداع والنقد المغربيين من خلال تجاربه المتعددة بإشراف محكم للأكاديمي والأديب عبد الرحيم جيران. مداخلة الباحث محمد العناز الموسومة ب»الموضوع الجمالي والبنية الفنية في «منذ تلك الحياة» انطلقت من خصوصية تجربة الكتابة السردية للقاصة لطيفة باقة بوصفها صوتا متفردا يشكل إضافة نوعية في مشهد القصة القصيرة في المغرب عامة، والكتابة النسائية بصفة خاصة. متلمسا التميز الجمالي في مجموعتها القصصية من زاويتين هما: المادة القصصية والبناء الفني. الزاوية الأولى انطلق فيها العناز من كون لطيفة لا تكتب في هذه المجموعة إلا عن الحياة في مظهرها الذي يكاد يكون مألوفا، فوراء ذلك المظهر العادي يكمن عمق يُعطي نفسه من خلال رؤية فنية متميزة، ومن خلال مقدرة سردية غير مألوفة. فالقاصة تقدم موضوعها من خلال تفكيكه بالتدريج إلى عناصر محددة، وتترك هذه العناصر تجتمع مرة أخرى وفق زاوية معالجة جمالية معينة. وتقوم هذه المعالجة الجمالية على تتبع التحولات التي تلحق بالموضوع من خلال لقطات زمنية مختلفة، ولا تخضع هذه التحولات لترتيب متعاقب تتوالى فيه اللحظات متتابعة كما تحدث في الزمن العادي الكرنولوجي. تبدو هذه التقنية الجمالية واضحة في قصة «آيِلاتٌ إلى الخيبة». فالقاصة تضعنا مباشرة ومنذ الجملة الأولى أمام جنون زهيرة بوصفها تحولا في مسار حياة امرأة، ثم يتوالى القص ليعود بنا إلى لحظات حياتها كما هي قبل إصابتها بالجنون، لكن هذه العودة تُبنى حسب بناء مُتدرِّج، ويتخلل هذا البناء الفني الذي يستهدف تحول الموضوع تقاطعُه مع حياة الأنا التي تتكلف بالسرد، وحيوات أخريات لهن علاقة بالشخصية- المرأة التي تعتبر موضوعا للحكي، ولا بد لنا أن نشير إلى أن هذا التحول يُقدَّم من خلال انشغال الساردة الخاص (حياتها، أفكارها، رؤاها...الخ)، وجعل هذا الانشغال مبنيا من زاوية ملاحظات مستقاة من المحيط أو السياق الاجتماعي. التحول ذاته يلاحظه العناز في قصة «لأن الوجود كان أضيق من أن يتسع لروحها..»، فالموضوع يبدو على أنه مسألة جسد، ومسألة تحوّلٍ يلحق به، أي تحول من إحساس المرأة التي هي الساردة بتملك جسدها إلى الإحساس بفقدانه، لكنه يكتشف فيما بعد أن هذا التحول هو مجرد مظهر، إذ تنحو القصة إلى حكاية تحول آخر، وهو المرور من تجربة الحب القائمة على الحرية إلى تجربة تحول الكائن- المرأة إلى بضاعة تباع وتشترى، ومن ثمة فهي تفقد بذلك حريتها الخاصة وتصبح مرتهنة بالآخر الذي هو امرأة أيضا لكن من دون ملامح محددة في القصة، والتي يمكن نعتها بالقوادة. وكما في القصة الأولى يمرر الموضوع من خلال انشغال خاص، لكنه هذه المرة ليس بانشغال ساردة منفصلة عن الشخصية، بل انشغال الشخصية نفسها التي هي ساردة، وهذا الانشغال لا يتمثل في أفكار أو رؤى، وإنما في الذاكرة التي تؤرق الشخصية، وتجعلها تستعيد لقطات من حياتها ( الغرفة، المدارس الشعبية...الخ) ومن خلال هذه الاستعادة تبني ذاكرة فقدان الجسد. أما الزاوية الثانية المرتبطة بالبناء الفني فيرى الباحث العناز أن الكتابة القصصية عند باقا لا يمكن معالجتها إلا من خلال التعالق الموجود بين صياغة الموضوع القصصي والبناء الفني، فهذا الأخير يلعب دورا هاما في هذه الصياغة، إذ يمنحها الأسلوب المناسب الذي يتلاءم معها، ويكسبها الملامح الخاصة بها. متوقفا عند صياغة العنوان «منذ تلك الحياة»، وهو عنوان القصة الأخيرة في المجموعة باعتباره عنوانا يتشكل من جملة مفتوحة غير مكتملة؛ إذ يتساءل القارئ عما الذي حدث في المسافة الزمنية التي يؤشر عليها الظرف الزمني «منذ» والذي من دلالاته أنه يحدد بداية صيرورة ما، أو فعل ما، كما أن هذه المسافة الزمنية مفتوحة، ولم تنغلق، إذ لا بد أن يعقب الظرف الزمني»منذ» تحديد المدة بواسطة حرف الجر «إلى»؛ أي لا بد من أن تكون العبارة على النحو الآتي «منذ تلك الحياة إلى «. هذه تقنية لا تقتصر على بناء العنوان، بل هي تقنية منتهجة في بناء الجملة السردية أيضا داخل القصص، كما هو الحال في الجملة الآتية «تلك التي كان الوجود أضيق من أن يتسع.. كانت تعتقد.. أن..». فعدم اكتمال العنوان وبعض الجمل السردية تكمن الغاية منه في جعل القارئ مشاركا في تخييل أجواء القصة بما يجعل منها عالما ممتدا في مخيلة القارئ. فالسرد عند باقا -حسب الباحث العناز- ليس مجرد رواية حدث فحسب، ولكنه أيضا كلام يسعى أن يكون شبيها بقوة الحدث نفسه، بل إن الحدث يجد نفسه نابعا مما تختزنه الجمل التي يستهل بها السرد. وما دامت اللغة تحتل عند القاصة أهمية بالغة فإن الكثير من الصياغة السردية تتسم عندها بالبعد الشعري، ولهذا نجد الكثير من العبارات المجازية والاستعارية وكذلك التشبيهات تخترق نسيج الكتابة عندها. فالحدود بين أصناف اللغة في الطريقة التي تكتب بها لطيفة باقا تتداخل لتشكل أسلوبا يمتد من اللغة الراقية (الشعر والتأمل) إلى اللغة العادية التي تغرف من العامية أحيانا. لينتهي العناز في الأخير إلى أن كل قصة من قصص لطيفة باقا تشعرك بأنها تسعى إلى البحث عن شكل جديد، ولا ترغب في تكرار نفسها، لكن ما يجعل تجربتها تكتسب وحدة ما، هو كونها تدمر الحكاية، ولا تتبنى أسلوبا خطيا في سرد العالم الذي تقدمه إلى القارئ، كما أنها لا تسعى إلى إيجاد روابط منطقية بين الأجزاء التي تتكون منها القصة، بل تبحث عن روابط لغوية للقيام بذلك. وداخل هذه الوحدة القائمة على تدمير الحكاية نلحظ جهدها الملحوظ في التنويع، والتجديد. أما القاصة لطيفة باقا فقد بدأتها بتقديم الشكر إلى د.عبد الرحيم جيران، وشعبة اللغات وطلبة المدرسة العليا للأساتذة معترفة على أنها «تكتب بالغريزة»، لتفضل بداية أن تقرأ نصا غير منشور لها بعنوان»تفاحة آدم» يحكي عن الابتسامة المهنية التي لا يصدقها أحد، وعن العطب الإنساني المجسم بوصفه مظهرا من مظاهر الإنسان الممتد في حياة الآخرين. القصة تروي لحظة معينة من شخصية غير متزنة نفسية تقبض عليها القاصة عن طريق استدعائها من خلال استثمار نظرات الشخص البدوي الزموري، واستدعاء أفلام الكارتون في الزمن الرائع الذي نتخفف منه من القواعد. لتنطلق سلسلة من المداخلات والأسئلة التي أجابت عنها لطيفة باقا بتلقائية وبجرأة؛ فالحماية عندها تنبثق من الغريزة، لأنها من النوع الذي يكتب بشكل غريزي، من دون مفكر تماما مثل الخبز الذي يخمر ثم ينضج إلى أن يصير لذيذا، معترفة أنها تفضل أن تكون كتابتها سهلة في متناول فئة أكثر من النخبة، معرجة على التزامها؛ لأنها تعتبر أن المثقف معني بما يقع في المجتمع. ذلك أنها تؤمن بشكل قوي بخصوصية القضية النسائية نافية أن تكون مناضلة في الكتابة، لأنها تخشى أن يتسرب التزامها بقضايا المرأة إلى الكتابة، فالكتابة يجب أن تظل في حديقة من الجنون، تصنع أحداثا، وتجلب شخوصا كأنها»إله يصنع عالما». معترفة تبعا لهذا السياق أن قارئها الأول هو زوجها الشاعر والمترجم سعيد الباز، تسأله دائما إن كانت قد سقطت في ما لا ينبغي أن تسقط فيه؟ مستحضرة علاقاتها مع عنوان المجموعة القصصية الأولى الحائزة على جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشاب»ما الذي نفعله؟» أنه مقتبس من قصيدة أمجد ناصر موسومة ب»منهى اليأس» يجد فيها الشاعر نفسه وحيدا إلى يبحث في الأخير عن مدية. الجملة الأخيرة في القصيدة كانت «ما الذي نفعله؟». فرقصنتها..لتعرج بعد ذلك على تكوينها الجامعي المتخصص في السوسيولوجيا والفلسفة وعلاقتها بالأدب الذي يأخذ منهما، ويذَوِّبُ فيه كل شيء. فالحرية بالنسبة لها أساسية في الكتابة مستحضرة مقولة للشاعر السوري علي أحمد سعيد(أدونيس)»لا نقول الشمس تحرر الغرفة من الظلام، ولكن نقول الغرفة تحرر الشمس من الظلام». فالشخص غير الحر، شخص غير مبدع، والأدب يطرح الأسئلة، ولا يجيب، السؤال مهم في الإبداع تضيف باقا. رافضة حالة الاستسهال في القصة القصيرة التي تلمسها في عدد من النصوص الفاشلة التي تملأ المنابر والمواقع،»يتجرؤون على القصة أكثر مما يتجرؤون على الرواية والشعر، القصة جنس صعب يتطلب نوعا من الجهد»، فقد اختارت القصة لكي تعبر عن ما يخالج عقلها، وتكتبها لأنها وراء الأواني في المغرب؛ لا تستطيع التفرغ للكتابة، فهذه الأخيرة لا يمكن أن تعيش منها نظرا لسوء التوزيع إضافة إلى وضعية الكتاب في المغرب غير المشجعة. أما عن الكتابة النسائية فقد اعترفت باقا بوجود أقلام مهمة في المغرب، تختبأ في القصة، وتفتضح فيها. فالمرأة تقول لطيفة أنها تكتب بدوافع تختلف عن الرجل، ورغبة منها في التحرر من الثقل الذي تحمله الثقافة الذكورية. فالكتابة بالنسبة لها كأنها وشم على الجسد تتحول إلى كتابة على الورقة بنفس الرغبة التي كان يحملها الجسد، وأثناء مخاض الكتابة تقتل القارئ ولا تستحضره بتاتا، لأنه بالنسبة لها مرحلة ثانية. رافضة التجسس على كتابة المرأة وربطها بسيرتها الذاتية. مؤكدة على الراحة التي تشعر بها عندما توظف ضمير المتكلم، والقوة التي يمنحها لها، إضافة إلى الجرأة الكامنة فيه، فلطيفة ترى أن المرأة الكاتبة تكتب كما يكتب الرجل، آملة أن يتحرر الكتاب الذين يمارسون رقابة ذاتية على كتاباتهم. فهي ترفض أن يتم حصر الكتابة النسائية في الجانب الأنثوي؛ لان من شأن هذا الحصر أن يسجن تجربة كتابة المرأة، ولهذا تقول بضرورة فتحها. تكتب من داخل جسدها، وكتابة الجسد تتسرب إلى تجربتها القصصية بشكل جميل، معترفة أن النساء يتحرشن بالرجال بمفاهيم نسائية، ويعفين من العقاب. لتنهي في الأخير إلى إيمانها بأن الكتابة الحرة قادرة على صنع عالم جميل؛ لأنها محاولة أخيرة في تجميل العالم.