الثورات العربية لا نستطيع أن نجد لها غرضاً أكثر من الحرية، لكن حرية الثورات هي غير ما نعهده في حرية التعبير والديموقراطية، يحمل العنف الثوريين على ان يقف كل عند رأيه وعلى ان يشتبه في رأي الآخر وعلى أن يصنّم رأيه ويقيم منه وثناً، لذا ندخل في مفارقة او مفارقات كبرى، تبدأ الثورات توقاً إلى الحرية ونقمة على الاستبداد وبعد ذلك، عند انتصار الثورة، تسقط القواعد أرضاً وتقع المؤسسات وتهتز القوانين، بحيث تتحول الحرية إلى فلتان وبحيث يغدو النظام هذه المرة هو الأمل. وتحت يافطة كهذه يتسلل استبداد جديد يجمع بين الحاجة إلى النظام والتعصب للرأي الواحد، تنتهي المفارقة الكبرى في أحيان إلى أحادية جائرة ويحل استبداد يفوق سابقه، اذ ان إعادة بناء الدولة وكبح الفلتان وردع العصبيات السياسية وإعادة هيكلة المجتمع، كل هذا لا يتم بدون عنف صارم وحازم، سرعان ما يتحول إلى عنف عضوي، تقوم الدولة عليه وتنبني. الأمر الذي يعني أن يتوجه إلى الداخل وإلى الخارج وأن يتحول إلى أساس للسياسة وقاعدة للمجتمع وبنية للواقع. عندئذ تقوم دولة المخابرات ويتحول الأمن إلى أساس للعلاقات. إذا كان هذا ما أعقب كثيراً من الثورات، بل ان الثورة لا تستحق اسمها اذا لم يعقبها. يسعنا أن نستشهد بكثير من الثورات التي تحولت جميعها إلى حروب أهلية وإلى حمامات دم وإلى عنف فالت أعقبه استبداد وظف العنف المستشري واستغله لنفسه. اذا كان هذا ما يعيدنا اليه التاريخ فهل يعني ذلك التسليم به والاحتكام إليه، هل يعني ذلك قبوله او على الأقل عدم استهجانه والنظر بواقعية إليه، بواقعية أي بإذعان. لسنا نتمرّد على القواعد إذا قلنا إن هذه الخاتمة غير ملزمة، او اذا قلنا إن ليس من الواقعية في شيء الإذعان لها، لقد قامت الثورات العربية على أسس هشّة وهزيلة، لم تمهد لها مقدمات متدرجة ولم تسبقها بنى مضادة ومعارضة، ولم تتزوّد بخبرة وتجربة عريقتين، ربما لذلك كانت عارمة ومليونية. ربما لذلك انخرط فيها الشعب، كل الشعب بفئاته وتناقضاته وانقساماته ربما لذلك كان الانفجار فظيعاً وفي أحيان مخيفاً. يمكن للحرية ان تكون متنفساً، يمكن لها ان تكون هدفاً أعمى. يمكن لها أن تكون انتفاضاً بلا حدود وبلا غايات واضحة. اذا كانت الثورات العربية لا تملك إرثاً واضحاً سوى إرث الركود الذي دام عقوداً وبالأحرى قروناً. اذا كان تراثها الوحيد هو تاريخ من الإذعان والتسلط اذا كان ما حدث قبلها لم يسمح ببناء مجتمع ولا دولة. اذا كان ما سبق لم يفعل سوى مراكمة التناقضات والانقسامات بدون أي تحويل أو إعادة توظيف واستثمار. إنها تناقضات متكلسة لا تملك أي جواب سوى الانفجار. اذا كانت المفارقة الكبرى هي ذلك التفاوت الهائل بين حجم الحشد وضبابية أهدافه. بين الانفجار الهائل ونسبية مطالبه. كأن هدف الانفجار موجود في ذاته، كأن الحشد العارم ينتهي في نفسه، تبدو الثورة هنا وكأنها فقط حراك، حراك بعد تاريخ من الركود. لا نعرف لذلك كيف ستكون نهاية هذه الثورات، لا نعرف اذا كانت مع هشاشة منطلقاتها وهشاشة قواعدها قادرة فعلاً ان تبني شيئاً. لا نعرف اذا كانت، بعد أن تعبر موجة الفلتان، تملك حقا مشروعاً مختلفاً. نكاد نظن ان قوة هذه الثورات هي تماماً في حشدها، نخشى ان يكون هذا الاستعراض هو كل قوتها الفعلية. نخشى ان تجد حين تهمد او تخمد او تتراخى أي غرض آخر امامها. لذا فإن العود على بدء وارد. اذا لم يسبق الثورة مقدمات وافية فانها لم تصنع بنفسها هذه المقدمات. لقد بقي الحشد في الشارع وبهذا وحده استطاع ان يطيح برؤساء وأنظمة، والسؤال الآن ماذا يحدث حين يخرج من الشارع، حين تلزمه بهذا الخروج عوامل قد يكون الزهق والضجر أحدها. السؤال إذاً، ما يحدث حين يغيب الحشد، حين يخرج من الشارع. لم تؤسس الثورات بعد اجهزة رقابة شعبية، لم تؤسس شيئاً لها. إلى أين ينتهي ذلك، إلى عبادة مجدَّدة للقوة، الى نعرة وطنية غالبة، إلى بارانويا جماعية يمكنها ان تؤسس للمخابرات، الى نعرة كره الأجانب. كل هذه في مجموعها قد تؤدي إلى فاشية جديدة. لن يكون مصير الثورة عند ذلك سوى الانقلاب على الذات. سوى عود على بدء أسوأ منه.