يشغل الشاعر والروائي والمترجم عبداللطيف اللعبي حيِّزاً مضيئاً بين حلقة المثقَّفين المغاربة. الرجل مازال صامداً منذ الستينيات، فبعد مروره بتجربة الاعتقال المريرة التي عاشها خلال السبعينيات (1972 - 1980)، ثم سنواته في المنفى بفرنسا، وحتى في أثناء عودته إلى المغرب ثم رجوعه إلى فرنسا، حافظ على مبادئه السياسية والإنسانية، ولم يتراجع عنها قيد أنملة. خلال الشهور القليلة المنصرمة أعاد صوغ مواقفه النقدية في كتاب أطلق عليه »المغرب الآخر« (دار الاختلاف- باريس) رسالة من مواطن مغربي إلى المواطنين المغاربة محمَّلة بالكثير من القلق تجاه الأوضاع المغربية الحالية والمشاكل الراهنة، وهي موجَّهة- على الخصوص- إلى الشباب المغربي عامة وشباب 20 فبراير الذين ألهموا وأيقظوا الأحلام الدفينة. وموجَّهة أيضاً إلى النساء المغربيات اللواتي ينتظرن »الكثير من التغييرات الحقيقية.«. يكشف اللعبي بصوت حميم وصادق الأسئلة التي تقضّ مضجعه ، وتدفعه إلى مناقشتها واقتراح حلول لها كي يرى في المستقبل القريب مغرباً آخر، المغرب الذي صاحبه ورعى حلمه طوال حياته. منشداً إياه تارة في دواوينه: »عهد البربرية«، و»قصة مغربية«، و»أزهرت شجرة الحديد«، و»قصائد تحت الكمامة«، أو سارداً تفاصيله وطقوسه تارة أخرى في رواياته: »العين والليل«، و»مجنون الأمل«، و»تجاعيد الأسد« و»قاع الخابية«. أو مجسِّداً حرارة قضاياه وحيوية أفكاره في مسرحياته: »التعميد الثعلبي« و»تمارين في التسامح«. الكتاب مراجعة نقدية لمسار اللعبي الأدبي والفكري والسياسي منذ الاستقلال إلى الآن، وهو تأمل في الوضع الحالي أو ما يعتبره مأزقاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. نقاش صريح لآراء واقتراحات حلول ممكنة الهدف منها خلق دينامية جديدة، لتحقيق تقدُّم في مسار البناء الديموقراطي، ومن بين الحلول التي يقترحها بشكل أساسي: الاهتمام المكثف والمعقلن بالبعد الثقافي في المغرب. وقبل الدخول في تفاصيل القضايا الجوهرية، يقوم باسترجاع ضروري، يتذكَّر من خلاله معارك الماضي، والأحلام التي رافقت سنوات النضال، ووحَّدت جيلاً كاملاً في فترة ما بعد الاستقلال. ومن بين هذه الأحلام إنهاء استعمار عقول المغاربة الذين حصلوا للتوّ على الاستقلال. يرى اللعبي أن المغرب كان يحتاج إلى تحرُّر عقلي من أشباح الاستعمار، ورسم معالم هويَّتهم الحقيقية. ويذكر أيضاً مرحلة تأسيس مجلة »أنفاس« سنة 1966، التي كرَّست حلم الأنتلجنسيا في مغرب جديد لكن ملاحقة هذا الطموح، اسُتبدلت بملاحقة المخابرات، فأقبرت الأحلام خلال ما يعرف (بسنوات الرصاص). يستعرض اللعبي مجموعة من القضايا المطروحة بإلحاح، التي تهمّ قطاعات استراتيجية لبناء الإنسان المغربي، والتعليم، والثقافة، والبحث العلمي. ويرى أنها لم توضع في مكانها الصحيح داخل المشروع الديموقراطي الذي يُعاد صوغه من جديد. . يعترف اللعبي بأن السنوات الأخيرة كانت مليئة وغنيّة بالأحداث، ويرى أن أكثرها أهمّيّة »الربيع العربي«، لكن نتائجه كانت دون المستوى المطلوب والطموحات المرجُوّة؛ بحيث ظهر غير قادر على تقديم أجوبة موثوقة أو ذات صدقية للقضايا الشائكة التي يمرّ بها المغرب. لا يخلو الكتاب من انتقادات موجَّهة إلى المثقَّفين الذين يعتبرهم مسؤولين مسؤولية مباشرة عن الركود والجمود اللذين يعرفهما المجتمع المغربي. ولكي يرسِّخ محاولة تكسير الصمت يتوجَّه في كتابه إلى قارئ مستبعَد عادة من طرف المثقَّفين، بيد أن السياسيين يحاولون دائماً الوصول إليه. وهنا يكمن السبب في الاختلاف بين خطاب المثقَّف وخطاب السياسي، فالسياسي يسعى إلى حشد الجماهير وتسخيرها لقضاياه ومحاولة إرضائها ولو شفهياً، بينما لا يضع المثقَّف البتة الجمهور في حسبانه، ولا من بين أهدافه. ومن بين القضايا المهمة التي يرى عبداللطيف اللعبي أن النقاش حولها يجب أن يستمرّ ويتعمَّق هي قضية الحرّيّات؛ فمن أجل تحقيق الحريات المدنيّة لا بدّ من النضال المتواصل، فالمجتمع لا يمكن أن يحقِّق السِّلم والتعايش والتسامح دون حريّة المعتقد والفكر وتكريس ثقافة التعدُّدية واحترام الاختلاف. يشير اللعبي إلى الفراغ الثقافي والوضعية المهينة للمثقَّف المغربي، يتأسَّف لأن المجتمع لا يمنح المثقف قيمته ومكانته الاعتبارية بينما في المقابل يحظى السياسي والإداري بمكانة رفيعة. ويلاحظ اللعبي أن مكانة المثقَّف في مجتمعه تعكس تقدُّم المجتمع أو تخلُّفه، ويخلص إلى أن الثقافة والتعليم قطبان أساسيان لبناء أي مشروع مجتمعي، وبدونهما ينهار المجتمع ومؤسَّساته إن عاجلاً أم آجلاً؛ لأن الاختيار الديموقراطي، والحداثة، والتنمية البشرية المستدامة، والمشروع الثقافي المجتمعي الجديد، ليست نزوات سياسية وانتخابية بل خيارات استراتيجية للدول التي تصبو إلى تحقيق التقدُّم الثقافي، والسياسي، والاقتصادي.