الدنيا سينما هذه الأيام بعالمنا العربي، من مراكش حتى دبي، مرورا بالإسكندرية وبيروت.. وفي المغرب، تكاد مهرجانات السينما (بكافة أدرعها الإبداعية)، تتلاحق أسبوعيا، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من سينما المؤلف إلى سينما المرأة إلى سينما الطفل، إلى الفيلم المتوسطي، إلى الفيلم القصير، إلى الفيلم الوثائقي، إلى الفيلم الأمازيغي، إلى الفيلم الحساني، وهكذا.. مما يعتبر تحولا في التراكم الثقافي المغربي، يجعل الكل ينتبه إليه رسالة على أن ما يصنعه المغاربة اليوم، ضمن منظومتهم العربية والإسلامية والإفريقية والمتوسطية، مختلف وواعد. عمليا، لابد من تسجيل معطى مهم، هو أن الجماعات البشرية (العربية الإسلامية) التي حققت تراكما نوعيا في مجال إنتاج الصورة، متعددة ووازنة، نذكر منها أساسا إيران وتركيا ومصر والشام الكبرى والعراق والجزائر وتونس، وهي جميعها قد حققت ذلك التراكم بسبب الدعم الرسمي لقطاع السينما وإنتاج الصورة عموما بتلك البلدان، اعتبارا للحاجة إلى الرفع من قيمة الصورة العامة للبلد من خلال منتوجه الفني. فظل العمل مؤسساتيا رسميا هائلا وكبيرا، رصدت له الميزانيات الوازنة، وأنتجت آليات تدبيرية إدارية رسمية ترى إلى السينما كقطاع إنتاج عمومي يستوجب التوجيه والضبط والدعم. بينما القصة المغربية سينمائيا مختلفة تماما، إلى الحد الذي يستطيع المرء الجزم، تاريخيا، أنه عندنا سينمائيون مغاربة ولكن لا نستطيع الإدعاء أنه عندنا «سينما مغربية» كمؤسسة مهيكلة، ذات آليات إنتاج متكاملة واضحة. وهنا ربما جمالية الحرية المتحققة في هذه الإبداعية السينمائية المغربية، لأنها نتاج مغامرة لمجانين سينما (مخرجين ومنتجين) يدخلون جهنم صناعة أفلام بالقليل المتوفر في اليد، وبعزلة قاتلة في الكثير من الأحيان، فقط بدافع من عشق الصورة ومحبة السينما. فكان أن أنتج سينمائيونا المغاربة الريبرتوار التاريخي الذي نعتز به جميعا اليوم كمغاربة. الحقيقة، أن لذلك قصة.. لقد كان القرار السياسي في مرحلة من مراحل الصراع السياسي بين الدولة والمجتمع مغربيا، أن كل سؤال ثقافي ترف مزعج لا حاجة لدعمه لأنه سيوقض فقط مارد السؤال والمحاسبة في أعين الناس. وفي مقابل ذلك، كانت السينما وإنتاج الصورة (والإبداع عموما، مسرحا وفنا تشكيليا وغناء وزجلا.. إلخ) مجالا للمواجهة ضمن منطق تأطير المجتمع جماليا ومعرفيا، بغاية استنهاض السؤال وأسباب المحاسبة وترسيخ حق المواطنة. ولقد تبلور ذلك، من خلال تجربة الأندية السينمائية خلال سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات. مما كانت نتيجته بلورة وعي سينمائي شعبي عمومي مغربي وازن وكبير. بل أكثر من ذلك أنتج رؤية سينمائية عند غالبية المشتغلين بإنتاج الصورة مغربيا من مخرجين وكتاب سيناريو وممثلين، تتأسس على اعتبار الإنتاج السينمائي نوعا من النضال المجتمعي الإبداعي المحقق لقيم المواطنة. مما أفرز لنا كل ذلك الريبرتوار من الأفلام المغربية المتمايزة بصوتها الفني إبداعيا ضمن خريطة السينما العربية والإفريقية والمتوسطية والإسلامية. التحول سيقع، مع التحول السياسي في الرؤية للتدبير العمومي المغربي، منذ سقوط جدار برلين سنة 1989، وانتباه عقل الدولة بذكاء يسجل له، أن ريح دفتر تحملات العالم علائقيا وتدبيريا تغيرت إلى الأبد، فشرع في خطة انفتاح سياسي وانتقال ديمقراطي، كان من مجالات تبلوره كخطة تدبيرية جديدة، الإهتمام رسميا بالثقافة عموما، وضمنها السينما. بل إنه حتى التحول في أدوار المركز السينمائي المغربي كمؤسسة رسمية، لم يبدأ في التبلور (باحتشام على عهد سهيل بنبركة، وبقوة أكبر وأرسخ وأوضح في عهد نور الدين الصايل)، سوى في هذه الفترة. فانطلقت مرحلة جديدة للسينما المغربية، يتجاور فيها التعايش بين الموروث النقدي لمنتجي الصورة مغربيا، بفضل التربية السينمائية التي ترسخت منذ الستينات، وبين الغاية السياسية للتدبير الجديد للدولة، التي أصبحت مقتنعة أن الصورة والسينما قطاع استراتيجي للتنمية. وأنه أكثر من ذلك مجال رمزي حاسم لصناعة وجه جديد عمومي للبلد، ضمن رزنامة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا. بالتالي، فإن زخم المهرجانات السينمائية المغربية، وزخم الإنتاج السينمائي المغربي الذي أصبح يخلق لنفسه وتيرة راسخة، منذ 15 سنة، إنما هو ترجمان لتحول مغربي لنوع من المصالحة بين الوعي السينمائي المتراكم منذ زمن الأندية السينمائية، وبين الحاجة الواضحة اليوم لجعل السينما مجالا حيويا للتنمية. وهنا مكمن التمايز (وليس التميز، لأنه لا مجال للمفاضلة هنا أوأحكام القيمة)، الخاص بقصة السينما المغربية، مقارنة بباقي قصصها في فضائنا المغاربي والعربي والإسلامي والإفريقي. بل ربما أكثر من ذلك، أصبح جائزا لنا اليوم، أن نتحدث عن ملامح «مدرسة سينما مغربية» مستقلة ضمن هذا الفضاء الممتد والغني. لهذا المعنى، هل يجوز لنا الأمل بالتالي في مستقبل سينمانا المغربية قاريا؟. نعم، فعلامات ذلك راسخة. لأن ما يصنعها ليس القرار الإداري، بل شغف عشاق الصورة والسينما من أجيال المغاربة.