(...) أجدد الترحاب بكم باسمي الشخصي وباسم الفريق الاشتراكي بمجلس النواب متمنيا لكم مقاما طيبا وكلنا أمل في أن نوفق في هذا الملتقى. لن أستعمل عبارات المجاملة التي تستعمل عادة في اللقاءات التقليدية لسب بسيط وهو أن هذا اللقاء هو غير عادي. فهو تأسيسي أولا، وهو بين العائلة الواحدة الاشتراكية والتقدمية ثانيا، وهو يسعى إلى البحث عن صيغ عملية لإخراج مشروع مجتمعي تقدمي على ضفتي المتوسط ثالثا، وهو أخيرا يجري في ظرفية دقيقة أعتقد أننا توفقنا إلى حد كبير في اختيار عنوان يختزل خطورتها وأبعادها من خلال عنوان هذا الملتقى هو: الأمن التنمية الديمقراطية كيف هي الصورة التي ترسخت لدى شعوبنا إزاء جنوب المتوسط اليوم، وكيف نتصورها غدا؟ الأمن: ظل يجسد إلى أمد غير بعيد بالنسبة للمنطقة المغاربية مقاربة واحدة ووحيدة هي استعمال القوة لصد كل معارضة وقمع أي اعتراض على توجهات وقرارات الحاكمين... التنمية: اختزلتها إلى حد كبير أدبيات الحكومات المغاربية في إجراءات ظاهرها على الأكثر تحقيق تقدم كمي يفترض أن المواطن هو المعني الأول والأخير به وبنتائجه. أما الديمقراطية: فظلت ذلك الشبح المخيف والذي وصل إلى حد أن بعض الحكام أصبحوا يجتهدون في صنع ديمقراطيات على المقاس، ديمقراطيات لها منظروها ومخرجوها وكتاب سيناريوهاتها. وأحيانا لها علماؤها المختصون في الإفتاء متجاهلين أن الديمقراطية قيمة كونية مشتركة بين الإنسانية جمعاء. أنا لا أرسم صورة كاريكاتورية، ولكنني أقوم بقراءة للأمس لنرى حقيقة كيف نواجه الغد ولا أرى في ذلك أي مساس بشعور أي أحد ما دمنا عشنا وتقاسمنا هذا الواقع في فترات متفاوت. غدا بالتأكيد غير الأمس ولن يكون مثل اليوم طبعا. الحراك السياسي، صحوة المجتمعات، أو ثورة المجتمعات، ولنسميها الربيع والخريف أو الحريق العربي، أفرزت قواسم مشتركة... لكن في ذات الوقت عمقت من فجوة الخلافات حول قراءة مفهوم الأمن ومفهوم الديمقراطية على الخصوص. ولنقف عند المشترك وقواسمه: القاسم المشترك يتجلى بوضوح في ساحات وشوارع أغلب عواصم المغرب العربي إلى جانب مصر والأردن واليمن وتركيا والبحرين وغيرها وأخيرا سوريا طبعا. تزايد المطالب السياسية مقرونا بتراكم الخصاص الاجتماعي: العدالة الاجتماعية.. المساواة في الحقوق.. احترام حقوق الإنسان الكونية.. التوزيع العادل للثروات، محاربة الفساد.. وإقرار الديمقراطية الحقيقية في مناخ تنموي سياسي اقتصادي اجتماعي وهي مطالب أصبحت شعبية من المحيط إلى الخليج.. ما يهمنا في المنطقة الأورو متوسطية، وتحديدا في الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط هو أن نقوم اليوم بعد قراءة سريعة لواقع وتجارب بعضنا البعض سواء كنا في مصر أو المغرب أو الجزائر أو تونس أو موريطانيا أو ليبيا، قراءة دقيقة وأن لا نضيع وقتا أكثر في التشخيص، بالتوجه نحو المستقبل بالرؤية المنتظرة منا كاشتراكيين وتقدميين وحداثيين. دعوني أقتصر على تجربتنا كاشتراكيين في المغرب. فقد بقينا في المعارضة لمدة أزيد من أربعين سنة عانينا خلالها كل أنواع الاضطهاد من اغتيالات واعتقالات وسجون ومنافي ومعاناة عبر كل الواجهات السياسية والاجتماعية والفكرية، دخلنا بعد كل هذا تجربة حكومية انتقالية لمدة حوالي عشر سنوات قبل أن نعود إلى موطننا الأصلي (المعارضة)، هذه التجربة جعلتنا نخوض مع قوى سياسية تقدمية ومعتدلة جبهة استهدفت تسريع الإصلاحات السياسية الكبرى وتضمينها في الوثيقة الدستورية واعتماد أسلوب الحوار والتدرج باعتبار أن العمل الديمقراطي بناء بيداغوجيا يقتضي إعداد الآليات المحتضنة له... إننا لا ندعي الوصول إلى الكمال، ولكن نستطيع أن نؤكد كاشتراكيين أن جسور الثقة التي عملنا بإخلاص من أجل ترسيخها بين المؤسسة الملكية والمعارضة الديمقراطية والتقدمية جعلت التوافق الوطني يفتح آفاقا جديدة لتطوير مؤسساتنا ويوفر الأمن والاستقرار للبلد رغم المصاعب الاقتصادية والخصاص في المجالات الاجتماعية وثقل فاتورة الدفاع عن الوحدة الترابية للبلاد. وإن الوثيقة الدستورية الجديدة المصادق عليها في استفتاء شعبي في بداية العشرية الثانية من عهد جلالة الملك محمد السادس (2011) والنضالات المستمرة لتطبيقها عبر إخراج القوانين التنظيمية لتوفر اليوم قاعدة قد تشكل نموذج الاستقرار في المنطقة، وأقولها بدون نرجسية. لكن هل نعتبر أن هذه الصورة تعكس الديمومة والتعميم بالنسبة لبقية التجارب المغاربية ؟ أعتقد بكل صدق، لا. إن الربيع العربي بقدر ما فجر من طاقات، دفع إلى الواجهة قوى محافظة لتكشر عن أنيابها، قوى للبعض منها قراءات مختلفة للأوضاع بل قراءة مختلفة حتى للإسلام نفسه... إن هناك نماذج اليوم لتدهور الأوضاع من خلال التراجعات الكبرى في مجالا في عدة واجهات وخاصة في مجالات حرية الحقوق وبشكل يكاد يكون عدوانيا، بل وصل الأمر في بعض هذه الدول إلى الكارثة الوطنية. وأغلق القوسين هنا لأقول: إن مفهوم التنمية الشاملة اليوم هو توجه المستقبل، حيث لا مجال للمقاربة الأمنية المجردة، ولا مجال لديمقراطية الواجهة ولا خيار خارج التنمية الشاملة بشقيها السياسي والاجتماعي. ونحن اليوم هنا في مراكش أمام مسؤولية تاريخية قوامها دعم التنمية السياسية ومناهضة كل أشكال المس بالاستقرار وكرامة وحرية شعوب المغرب الكبير في أفق ديمقراطي تقدمي متوازن. فليكن هذا المنتدى، وليكن نداء مراكش الانطلاقة الفعلية للعمل التقدمي المشترك من أجل فضاء تسود فيه الديمقراطية وتحترم فيه الحقوق وتكون التنمية القاسم المشترك بين بلدان المنطقة.