هل تَكتبُ الفراشات ؟ إذا كان من المؤكد أنها تطير، فمن المؤكد أيضاً أنها تكتب، لكن كيف نميز بين التحليق ومزايا الخفة وبين كتابة الفراشات الملونة؟. يهبنا نص ليليات للصديق عبد الإله بلقزيز، الإحساس بالخفة والزهو والتحليق والطيران. وقد شكلت مقتضيات الطيران بكل مستلزماتها، العُدَّة المستخدَمَة في عمليات الشَّطح المتواصل وبدون انقطاع في ثنايا ودروب النص. إذا كان الأستاذ عبد الإله بلقزيز قد عُرف من خلال إنتاجه الفكري المتواصل طيلة العقود الثلاثة المنصرمة، كباحث مهتم بالقضايا العربية وأسئلة الفكر السياسي العربي، فإن أصدقاءه وزملاءه يعرفون ولَعَه المُعْلن بالفنون، فنون الأدب (الشعر والرواية) والموسيقى على وجه الخصوص، كما يعرفون شغفه باللغة العربية وإتقانه لأساليبها وبلاغتها، يتجلى ذلك في حرصه الدائم على العناية الشكلية بنصوصه سواء الفكرية منها أو الإبداعية. لا بد من الإشارة هنا، إلى أننا امام نص يمتلك كثيرا من القرابة مع نص رائحة المكان، وقد صدر للمؤلف عن الدار نفسها سنة 2010، لدرجة تسمح بالقول بأننا أمام نصٍّ مُسْتلٍ من الكتاب المذكور، الذي يتجه محتواه لتقديم عتبات وبصمات من السيرة الذاتية لصاحبه، وذلك مع عناية خاصة بموضوع الليل والكتابة والحياة. يتغنى نص رائحة المكان باللغة العربية ومآثرها، في الكشف عن خفايا العقل والوجدان. وفي السياق نفسه، يشعر قارئ نص ليليات أنه أمام عمليات إتمامِ مقامات روائح الأمكنة، في كل من مراكش وفاس والرباط وبيروت. صحيح أن النص الأخير يحتفل أساسا بالليل ويتغنى بملكوته، إلا أن الحديث عن الليل يرتبط بأزمنة وأمكنة محددة، كما يرتبط بطقوس وشعائر الكتابة والحياة. كُتِب النص في صيغة موالٍ شجيٍّ، وقد رتِّبت مفرادته بكثير من الوفاء لجماليات اللغة العربية. وهو نص يتحوَّل بين الحين والآخر إلى أنشودة رقراقة، كما هو عليه الحال في الفقرة الآتية، «ما أجمل المُحال حين يُمْكِنُ في قصيدة أو فيلم أو هلوسة. وَوَحدَك لا تراه جديراً بالكون خارج اللغة، فأنت تمنح اللغة حق تشكيل العالم وتعيش عالة عليها، وأنت لا ترى نفسك فيها أكثر من جملة اعتراضية، بلا أهمية. ولولا سكون الوحشة في الشغاف، ما عرفت طريقاً إلى أسرار الزراعة في لسان الضاد، ولا غنمت قليلا من سقط القطاف.» ص 67، صحيح أن النص يُعَدُّ محصلة تداعيات وانفلاتات متواصلة في الكتابة، إلا أن الأنغام التي يَحفل بها تكشف جوانب من ثرائه، كما تكشف مفاتنه. نفترض أن نص ليليات لا يقرأ كاملا، بل يُستحسن أن يُقرأ على شكل جرعات، وتتمثل فضيلة هذه القراءة المتقطعة، في كون كل جرعة تمنح القارئ الإحساس التام بنداءات النص المقروء وصَبَواته. إن جرعات متواصلة منه تضع المتلقي في مقام الامتلاء، بحكم سخاء النص وكفاءاته المُلْفتة للنظر في تسخير الإيحاءات من كل جهة، حيث تتحول الكلمات في العبارات والجمل والفقرات إلى ينابيع متدفقة بالماء الزُلال في ليلة قيض من ليالي مراكش في الصيف. تنشأ المعاني وتتبلور الدلالات في النص، لتشير إلى جوانب معينة من حياة صاحبها، ويشكل الليل بمختلف الإيحاءات التي يثيرها في مقاطع النص، الفضاءَ المؤثث للوقائع والأشخاص والمدن، ذلك أننا أمام نص في تمجيد الليل والإعلاء من أنواره. نعثر على مقدمات هذا الموقف في رائحة المكان، حيث نقرأ في الصفحة 33 ما يلي، «للبريَّة يومُها الطويلُ وليَ الليل امرأةً أَرْنُو إليها وأعُدُّ بالأصابع أنفاس لوعتها. والليلُ شهوةُ البعيد للبعيد، معبدٌ يَلُّفُه الصمت ويسكنه الصاعدون إلى أعلى في سلم القصيد. الليل مئذنةٌ تعلوها الروح كي تعلن منها توبتها، والليل إغراء لا ينتهي لنداء الخطيئة. ما الليل في ميزان قصيدتي إلا ما حسبته ليلا وإن هو كان نهاراً. ما الليل إلا النهار وقد فارق نَهارَهُ. الليل جوارُه وجاره وصوت صمته العذب يرتِّل آيات سره الإلهي في أمان. الليل لحظة متعالية عن الزمان، ومكانٌ من الوقت ينتصب فيه عرشان : واحد للمطلق، والثاني يعتليه إنسان.» نستطيع القول بناء على ما سبق، أننا أمام نص في تمجيد اللغة، حيث نقرأ في إحدى فقرات الليليات ما يلي : « واللغة والزمن توأمان إن أوسعتَ لهما مساحة في ملكوت الصمت، وأمسكت عن الكلام. الوحدةُ مرتعهما الخصيب، والظلام يطلق فيهما جنون الشهية. متأخرا علمتَ أنك لم تخطئ حين اعتكفتَ، وانكفأتَ، وأسلمتَ نفسك لإيقاعك الداخلي يسيرك على هواه، ويغريك بلعبة ترصيف حروف الأبجدية. خسرتَ الذي خسرتَ في منفاك الاختياري، ولكنك ما أضعت ما ترك لك الزمان من غنائمَ لغوية.» ص68. لا يريد نص ليليات قولا فوق القول، كما أنه لا يريد قولا قبله أو بعده، إن فتنته آنية، ولعل هذا الأمر بالذات هو ما يبيح لنا القول ودون حرج، إنه كتاب لا يقول في النهاية أي شيء، لأنه معني أساساً بالكلمات وبلاغتِها. إنه كتاب أبيض ليس بالمعنى المتداول اليوم عن الكتب البيضاء، بل بمعنى آخر يفيد تدفق المكتوب في لحظات مواجهة صاحبه لصمت الليل وبياض الورق، حيث تختفي المعاني لتحضر الألغاز والأسرار، ويصبح الإيحاء سيد المكتوب وعنوانه، فنصبح شركاء مع صاحبه في تعيين الدلالات التي نشتهي. إننا أمام ليليات مُتَّشِحات بالبياض، وكتابُها يعتبر كتابا في المحو. يُقرأُ النص من جانب آخر بطريقة قراءة كتاب المواقف للنِّفري، أي يقرأ متقطعا، صحيح أن مقاطع الليليات مُنسابةٌ ومتواصِلَة، إلا أن انسيابها لا يستبعد الدقة والرقة، الأمر الذي يدفع قارئه إلى تجاوز صرامة المواقف، والدنو قليلا أو كثيراً من انسياب عبارة النصوص الصوفية في ثراتنا. لا نُحَمِّلُ نص الليليات أكثر مما يحتمل، عندما نستحضر ونحن نقرأه نصوصا فريدة في التراث العربي، من قبيل النصوص التي أشرنا إليها على سبيل المثال، نحن هنا نتحدث بالذات، عن بعض المزايا التي يشترك فيها نص الليليات مع النصوص الأخرى، نقصد بذلك بلاغة الانسياب، ثم بلاغة الاقتضاب المنساب والانسياب المقتضَب، بلاغة العبارات والفقرات المنفلتة بإيقاع ساحر، إيقاع يحمل رنين الكلمات وعذوبتَها، الأمر الذي يجعلنا نغامر بالقول بأن المعنى المهيمن على جمل وفقرات النص، قريب من صهيل الكلمات ورنينها، ولعله مستوحى منها. نعثر في المقطع الأخير من النص، وعنوانه دخول الخروج، على شطحات في الرثاء، بل لعلنا نواجه فيه مرثية العمر. وقد كتب المقطع المذكور بروح غنائية عالية، مزج فيها المؤلف جملةً من المواقف الفكرية والنفسية، التي تعبر بكثير من القوة عن عنفوان إقباله على الحياة ومُتعها، الحسِّي منها والجمالي. نقول في نهاية هذه الكلمة، إن قوة نص الليليات تتأسس اعتمادا على أمرين اثنيين، يتمثل أولهما في الطابع الشعري للكتابة، وفي هذه المسألة بالذات، تعد الليليات امتداداً لشعرية نص رائحة المكان. أما الأمر الثاني، البارز بدوره في إيحاءات النص، فإنه يشير إلى بعض الجوانب الفلسفية والجمالية، التي تحوِّله إلى فضاء للتأمل في المسار الذاتي لصاحبه، مساره في التكوين والبحث ومساراته في الحياة عموماً، وقد لوَّن المسارين بألوان زاهية، أضفت على صفحاته كثيراً من العذوبة والجمال. مرجع: * عبد الإله بلقزيز، ليليات (نص)، دار نشر منتدى المعارف، بيروت 2013