موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«القوس و الفراشة» لمحمد الأشعري بين تصديع الأصل و تصدية الخطاب 2/2
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 04 - 2011

قبل ما يزيد على أربعين عاماً، طرح رولان بارط على نفسه سؤالاً شهيراً أبت مجلة Poétique الفرنسية إلاّ أن تدشن به ميلادها في 1970،
ألا و هو?: Par où commencer
و قد كنت دائماً أعزوه إلى تعدد البدايات الممكنة التي تلوح أمام الكاتب، سواء أكان مبدعاً أم كان ناقداً، و التي تجعله في حيرة من أمره، لا يدري أي بداية يختار لنصه.
و إذا كنت أزعم أنني، في قراءاتي النقدية السابقة لبعض النصوص الروائية، قد استطعتُ، بالمراوغة و التحايل، أن أتغلب على صعوبة هذا السؤال، فأنا أعترف اليوم بأنني، حين كنت عاكفاً على قراءة رواية محمد الأشعري: «القوس و الفراشة» (المركز الثقافي العربي، بيروت ، الدار البيضاء، 2010)، أحسستُ بأنّ من دونها خَرْطَ القتاد كما يقال ! وفي ظني أنّ السبب لا يعود إلى ما يمكن أن يكون تكثيفاً هيرميسيّاً للنص أو تلبيساً له بالفراغات و البياضات الدلالية قد يكونان من اختصاص الشعر (و الأشعري شاعر أصلا ً! ). فالرواية لا تناصب القارئ أية معاندة أو مقاومة. إن السبب يكمن بالأحرى في ثرائها الفكري و في كيفية تدبيرها لهذا الثراء. فلا شك عندي في أنّ المؤلف قد ضمّنها لا عصارة خبرته بالواقع المغربي المعقد فحسب، بل كذلك خلاصة تصوره للكتابة الروائية. بل يتخيل لديّ (وهذه نقطة سأعود إليها بالتفصيل) أنه، حين كان يكتب «القوس و الفراشة» ، كان تحت ضغطٍ أو هاجسٍ خاصّ مقصودُه أنه يكتب الرواية الثانية و الأخيرة بعد «جنوب الروح» (دار الرابطة، الدار البيضاء، 1996). لذلك احتشدتْ فيها موضوعات وقضايا وأزمنة وأمكنة جعلتها تهَبُ نفسها للقارئ من منافذ متعددة، من غير أن تكون هناك باب واحدة أو رئيسة تفضي إليها. ومن ثم، كان السؤال المشكل: من أين أبدأ ؟
البعد الخِطابي
أما البعد الثاني لطريقة تدبير الرواية لمتخيلها الحكائي، وهو ذو طبيعة خِطابية، فيتمثل في إجراءين:
* حين ينقال الكلام
يختص أحدهما بالكيفية التي تستأثر بها أحياناً بعض الشخصيات بالكلام على السارد. وهذه إحدى الخاصيات الشكلية التي يتميز بها السرد في روايات الحساسية الحداثية. فمن ثوابت النمط الكلاسيكي في السرد أن يدمج السارد كلام الشخصية في الخطاب الحكائي كما تكون قد نطقت به، وذلك بوضع كلامها بين هلالين مزدوجين وبواسطة علامات ترقيم دالة، لاسيما منها ذات الشحنة التعبيرية التي تعكس أحوالها الشعورية وتوزعها بين اختيارات ومواقف متعارضة، كعلامات التعجب و الاستفهام ونقاط الحذف و الروابط النسقية التي تحدد طبيعة المحاوِر وأسيقة التحاور ... كما أن المألوف في هذا النمط أن يُنقل هذا الكلامُ في هيئة جمل ترتبط بجمل أخرى بعلاقة تبعية، مع تغيير علامات الضمائر النحوية وقرائن الوصل المكانية و الزمانية. أما في «القوس و الفراشة»، فإن كلام الشخصية لا يخضع لهذه الضوابط الشكلية و النحوية، وإنما يبدو وكأنه ينقال بتلقائية، أي يقول نفسه بنفسه بدون وساطة السارد، ومن غير أي خطاب افتتاحي يمهد له ويجعله مندمجاً بطريقة طبيعية في الخطاب الحكائي.
لتوضيح هذه الخاصية، أقول إن الرواية التقليدية إذا كانت تنحو منحىً معياريّاً في السرد يجعل السارد يقول مثلاً : «قال لي ياسين: « إنها آخر مرة أظهر فيها في حياتك ثم سأختفي إلى الأبد ! » ثم طلب مني أن أنصت إليه: »اسمع. لا أريد أن تفهمني خطأً. إنني (...)«. فإن رواية الأشعري تقول نفس الشيء، لكن بطريقة مختلفة: »قال لي [ياسين] إنه يظهر لآخر مرة في حياتي ثم سيختفي إلى الأبد. اسمع. لا أريد أن تفهمني خطأً. إنني لست مبعوثاً برسالة من أحد. لست على علاقة بأي كان. لا يوجد أي رابط بين ما يحصل لي و ما يحصل لك» (ص. 235).
وإذا كان السارد في رواية لبلزاك أو لغلاب سيقول مثلاً: «قالت لي بهية: » إنني فكرت كثيراً في الموضوع. فالأمر لا يتعلق بأي حنين ساذج للأمومة». ثم خاطبتني بقولها: «أنت تعرف أنني غير مولعة بهذه الأشياء (...) »، فإن السارد في « القوس و الفراشة» يقول نفس الشيء لكن بكيفية غير قياسية: «قالت [ لي] بهية إنها فكرت كثيراً في الموضوع. لا يتعلق الأمر بأي حنين ساذج للأمومة. فأنت تعرف أنني غير مولعة بهذه الأشياء. ومن هذه الناحية لن ألومك إذا قلتَ مرة أخرى إنني أمّ سيئة ..» ( ص. 119).
أظن أنّ مقايسة متأنية بين المثالين - ونظائرهما متعددة في النص ! - تكشف بأن ياسين في الصيغة الأولى وبهية في الصيغة الثانية يبدوان وكأنهما يريدان أن يستبدّا بالكلام ويَخُصّاَ به نفسيهما دون غيرهما. وهو ما يعني تمرداً غير مموّه عليه على سلطة السارد الإلهية التي تخوّله أن يتحكم فيهما، فلا يتكلمان إلا بمشيئته وحسب هواه، كما لو كانا دميتين إمّعتين تحركهما خيطان خفية ! ليس هذا فقط ... بل إن تعبيرهما بتلك الطريقة المتخللة و العفوية يمنح للسرد نوعاً من النزو و الخفة و الحيوية يؤدي بالسارد إلى أن يتوارى عن الخطاب رغماً عنه لتأخذ الشخصيات مكانه، بحيث لا يدرك القارئ العالم الروائي كما يدركه ويؤوله السارد، بل يراه بعيون الشخصيات. وهذا يكفل للسرد أعلى نسبةٍ من قابلية التصديق وأبلغ قدرةٍ على التأثير.
ضد بياض الكتابة
أما الإجراء الثاني، فسأدعوه ب «التخطيب» (la mise en discours). وأعني به الوساطة البلاغية والأسلوبية التي تنظم المتخيل الروائي (أي الأحداث المحكية) و السرد (أي الاختيارات الفنية و الإبداعية التي تُحكى تبعاً لها هذه الأحداث).
إن ما يستحق التنويه هنا هو أن الكتابة الروائية لدى الأشعري ليست ممارسة حيادية، لا بالمعنى السياسي للنعت، الذي يعني الانزياح عن واقع الجماهير و الانحياز إلى الذات الفردية للمبدع، بل بمعنى أن الكتابة لا تتمخض أبداً عن نص أبيض وأملس يكون في الدرجة الصفر للإبداع. فلابد له من «ماء» يرويه و يسمو به عن نثرية الواقع. لذلك، أمكن لي أن ألاحظ أن له أسلوباً خاصّاً في سياسة اللغة الروائية، قوامه الأساس و الأثير هو عنف التشبيه الذي يؤول بالكلمات و الجمل إلى أن تنبض بين أصابعه بقوة إيحاء وتوتر ترميز نادرين. فهو عادة لا يكتفي بتسمية الشيء (المشبه) بما هو بذاته في حد ذاته، بل يعمد إلى وصفه بشيء آخر (المشبه به) يشاكله في صفة معينة (وجه الشبه)، وهو ما يؤدي إلى تنجيم النص بكنايات واستعارات توسع مداه الإيحائي، ومن ثم تستنفر في القارئ مخيلته التأويلية. ولأن جسد الرواية كله مرصّع بالأمثلة، فسأقتصر منها على نماذج توضيحية قليلة.
فالسارد، بعد فقدان إحساسه بالأشياء نتيجة لفجيعة فقدان ابنه، لم يجد أحسن من استعارة اللجة المظلمة التي تَسْرُطُ الأشياء لِيُكَنِّيَ به عن نفسه في إشارته إلى أنّ «الموات الحسي الذي أصبت به قد جعلني مثل هوة سوداء، لا يقترب منها جسم مضيء حتى تبتلعه» (ص .25) . بل إن تلك الفجيعة ذاتها، التي كان عليه أن يمرّن نفسه تدريجيّاً عليها، استغلها تعلة لهذا التشبيه العنيف: «في أي لحظة (...) لم أحس بوخز الفجيعة. كنت أعرف أنها هنا. ولكنها لم تكن تصلني. كنت أراقبها وهي تتمدد أمامي مثل بقعة زيت تأخذ كل وقتها في الانتشار ...» (ص .15). لكن ذلك الموات الحسّيّ لم يقتل فيه لوعة ومتعة الإحساس بالعيطة البيضاوية التي يَعتبر صداحها الحزين صدى للنفس المكلومة: « كان إبراهيم (...) يجلس في ركن قصي يحلق في سماء صوت [المغني] الرخيم، متعجباً من كل هذا الشجن الذي يسكن شخصاً لا يكف عن الضحك و السخرية من كل شيء كأنّما يصعد من أحشائه نفس داكن من تراجيديات سحيقة بمجرد ما يفتح فمه بالغناء، ثم ينسحب إلى دواخله البعيدة بعد ذلك» (ص .32).
و إذا بحثنا عن نبرة أقل سوداوية، فسنجدها مثلاً في تشبيهه انعكاس ذلك القوس الخرافي على سطح الماء بهذه الصورة الرهيفة: «قوس من الفولاذ، مصبوغ بالأزرق، كأنه خيط ماء يلعب فوق المحيط» (ص. 108). أما علاقته بفتنة المدن وحميميتها، فلا خيار أمامه سوى أن يشبهها بهذا الأسلوب الحسّيّ: «أحلم دائماً أن أسقط في شباك مدينة لا يسلمني حضنها لأي مكان آخر، مدينةٍ تضمك وترضعك، تعنفك وتلحس جراحك. مدينة تعيش فيها كأنك تبنيها حجراً حجراً، وتفكر فيها عندما تتهيأ للنوم كأنها امرأة تنتظرك ! » (ص . 108) لكن عنف التشبيه وبلاغته يدركان الذروة حين يتحدث السارد - المؤلف عن ظمإ الأنثى إلى جسده: «خفق قلبي (...). أحسستُ بليلى تنهال عليّ دفعة واحدة، كما لو تكون ماءً احتبس لمدة طويلة خلف صخرة عظيمة قبل أن ينجح في إزاحة الصخرة و التدفق بكل قواه على كياني. ولم يكن لي خيار سوى أن أترك نفسي لصخب الماء يحملني لا أعرف أين أطفو وأغوص» (ص. 274 - 275).
إن ما يمكن استنباطه من هذه الأمثلة هو نوع من الالتفاف الكنائي لطرفيْ التشبيه حول أدواته (المسطّر تحتها) التي تجعل المشبه به دالاًّ على المشبّه بنوع من التعريض الشاعري اللطيف. لذلك، فهي - أي الأدوات - تضطلع بوظيفة سردية تنظيمية تمد السرد بطاقة مضافة يكون لها أثر تكسير رتابته، ومن ثم تفسح له آفاق التنوع.
سطوة فائض المعنى
لكن ... وهناك دائماً «لكن»، إذا الشيء زاد عن حده، انقلب إلى ضده ! بالفعل، لا تعدَم الرواية للأسف أمثلة يبدو فيها المؤلف وقد أرخى العنان لملكة التشبيه لديه حتى خرجت عن الغاية البلاغية المتوخاة منها. فما الداعي مثلاً إلى إضافة هذا الكلام: « تجميعاً لقطع من ألوان وأزمنة مختلفة» إلى قول ياسين منتقداً أباه: « ماذا جرى لكم لتعتقدوا أن المستقبل يمكن أن يكون مثل عباءة المتسول ؟ » (ص.79) .ألا يغني هذا القول عن ذلك الكلام ؟ أ ليس في هذا الأسلوب التشبيهي بعض الإفراط في التصريح بما كان يحسن أن يظل مضمراً صيانةً لآثار التورية والإيحاء، وتحفيزاً للقارئ إلى البحث بنفسه عن وجه الشبه بين طرفي التشبيه ؟ ثم ... أ ليس الفتور والخفوت في قول السارد: «كان العَشاء فاتراً، تحدثنا فيه بأصوات خافتة «كافيين لجعله في حلّ وغنى عن إضافة «كأننا نخاف أن نوقظ أحداً » (ص. 240) ؟ وأية فائدة يمكن أن تكون لمضاعفة الصفات وظلال الصفات الدالة على القرف والملل ، اللذين أصبحا يسودان بين السارد وزوجته بهية بعد أن كانا يعيشان في انسجام تام ، وذلك في هذا الكلام المسهب :«انسجام(..) لا مجال فيه للخلل [سرعان ما تحوّل إلى] رماد لا أثر فيه لجمر اللحظة. رماد بركاني من عصر سحيق، بارد ومتحجر، لا يُخرجه من وِهاده السحيقة سوى تنفسنا البطيء الذي يشبه تنفس مومياءات هامدة»(ص.18 ) ؟ ثم لنتأمل هذا الحديث عن العشق الذي تكنه له ليلى:«قالت إنها تحبني، وإنها لأول مرة يحدث لها هذا الشيء بشكل مختلف تماماً. شكل هادئ مريح ومبهج ! كأنه تنفس منساب، بلا إجهاد ولا تلاحق. أخذتُ يدها الصغيرة في يدي وتنفستُ عميقاً (..) »(ص.212) . فأي داع هناك إلى محاولته أن يستوفي كافة معاني الغبطة ، خاصة حين يؤدي هذا إلى التناقض الفادح والفاضح بين انسياب التنفس و عدم إجهاده من جهة و التنفس العميق الذي يحتاج إلى جهد من جهة أخرى ؟
إن الملاحظ في كل هذه الأمثلة، التي لا داعي لمضاعفتها، هو هذا التضخم المعجمي، أي المفرداتي، الذي يتم دائماً انطلاقاً من جذر مخصوص، هو المشبه، يستدعي تعدداً في صور المشبه به وتنوعاً في صفاته، أي مدونة لغوية توجد بين وحداتها المكونة وبينه، أي الجذر، علاقة كنائية. وهاذان التعدد و التنوع يثيران بدورهما توسعاً إسناديّاً يعمل كتفسير للمشبه به. وهذه الظاهرة الأسلوبية تغريني بالقول إن المؤلف يبدو وكأنه عاجز عن التحكم في تدفق كنائي أهوج يجرفه، فاقداً لزمام التشبيه. فلا شك عندي في أنّ لتعدد المشبه به وتنوّعه أثراً غير أثرهما الذي قد يكون المؤلف راهن على تحصيله، وهو سعيه الحثيث إلى بلوغ أقصى غاية ممكنة في استقصاء لا الأحوال فقط، بل و أحوال الأحوال كذلك. ففي كل مرة، يؤكد الأشعري هيامه الشرس على هذا النحو بفائض معنى الأشياء، لا بمعنى هذه الأشياء المحايث لها. وفي كل مرة كذلك، يكون فائض المعنى هذا عامل تشويش للعلاقة بين طرفي التشبيه. فهل يجوز أن يكون هذا النزوع لديه نوعاً من التعويض اللاشعوري عن إكراهات الشعر ? وهو شاعر بالأساس ! _ الذي يقتضي الاقتصاد في التعبير وتقطير الكلمات و الصور و الأخيلة من مصفاة عقلانية صارمة لا تستبقي من الأشياء سوى جواهرها ؟ هل تكون كتابة الرواية عنده انتقاماً من كتابة الشعر ؟
تضخم الفضاء النصي
إنّ هذه الملاحظات الأخيرة، المتعلقة بكيفية إدارة المؤلف لدواليب الخطاب الحكائي التي سميتها ب «التخطيب»، تقودني إلى إبداء هذه الملاحظة، وهي أنّ الغلوّ في ملاحقة فائض المعنى وفي مطاردة معاني المعنى إذا كانت لا تخدم بلاغة الرواية، فإنها بالمقابل تخدم فضاءها النصي خدمة غير هينة (وأنا أقصد هنا بالفضاء النصي طبعاً الأوراق). فلا شك عندي في أنّ هذا الغلوّ قد كان له أثر ارتفاع عدد صفحات الكتاب إلى 336 صفحة بالتمام و الكمال ! وهذا في نظري لا يجوز في زمن كزمننا الراهن، فأحرى المقبل، الذي نعرف جميعاً حيثياته و اشتراطاته !
و هذه الملاحظة نفسها ستقودني قيادة طبيعية إلى توضيح نقطتين سبق لي أن أشرت إليهما عرضاً ووعدتُ بأن أعود إليهما. تتعلق إحداهما بما دعوته «مَنْمَلَةَ» الشخصيات. ففي الرواية عدد كبير ومذهل من الشخصيات، بعضها زائد لأنه لا يمثل أي دور مؤثر في ماجريات الأحداث، وبعضها الآخر، حتى وهو يضطلع بأدوار البطولة، يتحول في أحايين كثيرة إلى مجرد سنادات لمحاورات أفلاطونية ثنائية، يطبعها أحياناً التجريد و المفارقة، حول المعضلات الاجتماعية و النفسية و السياسية التي يتخبط فيها المغرب منذ الاستقلال. و الطريف و المسلّي هنا هو أنّ كثرة الشخصيات هذه أربكت السارد ? المؤلف، الذي أدى به الأمر إلى خلط هذه بتلك، غير مفرق في كلامه حتى بين زوجته (بهية) وعشيقته (ليلى)، كما حدث فعلاً في مواقع كثيرة (انظر مثلاً الصفحات 105 و 119 و 124 و 125 و 145 ). فهل يُعزى الأمر إلى une métempsycose ، أي التقمص و التناسخ، أم إلى زلة لسان فاضحة تعكس ما يهجس في عقله الباطن؟
وارتباطاً بهذه الملاحظة، فأستطيع أن أؤكد أن للمؤلف قدرةً عجيبة على السرد لا تعادلها سوى قدرتِه الفائقة على التقاط أدق تفاصيل الأشياء، الحسية و المعنوية على حد سواء. وهو ما تؤكده ليلى أيضاً بالنسبة ليوسف الذي قالت له مرةً : «إنّ ما يدهشني حقّاً هو هذه القدرة السحرية التي تملكها (...) على التعبير عما نعرفه كلنا في أدق تفاصيله (..) . لا أعرف رأيك في الموضوع. ولكنني شخصيّاًَ أعتبر الدقة هي أفضل تجليات الجمال ! » (ص . ص . 40) . وهو الكلام الذي يحلو لي أن أستدركه بقولي: إن الدقة، حين تكون بكياسة وأناقة، هي أفضل وسيلة لتجلية الجمال !
تجنيس الفضاء
بالفعل، يحفل نص الرواية بفقرات ومقاطع كثيرة توقفتُ عليها بغير قليل من الاندهاش والانشداه، خاصة منها تلك التي تتعلق بنزوات السارد النسائية وهلسناته الجنسية. و هي جميعاً تؤكد هذه الأناقة و تلك الكياسة. و نظراً لاستحالة ذكرها جميعا،ً فسأختار من بينها مثالين فقط على رغم طولهما، لأنهما كفيلان بتحسيس القارئ - على غرار إحساسي أنا - برهافة الخيال و ألق الاستعارات و رشاقة الأسلوب.
المثال الأول : « تخيلت عبير جسدها أو تذكرته، لا أعرف على وجه التدقيق، كان ذلك منذ اللحظة التي امتزجت فيها شفاهنا و تلقيت لسانها متردداً مخاتلاً مستكيناً، ثم عندما رفعت ذراعيها لتطلق صدرها، ثم لما جُسْت تفاصيل بشرتها البيضاء متنقلاً من مساحات باردة راعشة إلى مساحات دافئة نابضة، ثم عندما ضممتها و أفْلَتُّهَا عندما استلقت عندما استدارت عندما انفرجت عندما التفتت عندما أشاحت عندما انكفأت عندما استعصت عندما لانت عندما انتفضت عندما أرسلت أصابعها إلى أقصى النداءات عندما هدأت عندما غابت عندما تأوهت عندما صرخت عندما قالت نعم نعم هكذا. نعم أعرف بالضبط ما سيحدث الآن، أعرف، عرفت، انتظرْ، نعم هكذا .. بالضبط كما فعلت لا تفعل ذلك مع امرأة أخرى، أتوسل إليك .. أمنعك أن تفعل ذلك مع امرأة أخرى ! عندما صمتت عندما انفجرت. نعم، الآن، الآن، أرجوك، قل إنك تحبني .. ثم عندما بكت .. ثم انطفأت» ( ص. 86 ).
المثال الثاني : «... ما أن اختفت أنوار المدينة و نزل بياض الستائر على شفافية الزجاج، حتى أينع شيء ما في هذا الجو، و أصبح الضوء و الفراغ مثل ريح مجنونة تعبث بالعقل، و تزرع في كل الأشياء شهوة متقدة. قالت ليلى لولا أنني خجولة لمشيت عارية في الغرفة، فدنوت منها، و أخذت في استدراج عريها مستسلما في ذلك لأصابعي و لشهوة عارمة لم أذق لها طعما منذ سنوات، أحسست في لحظة ما أنني لا أعرف حركاتي، أن شيئا ما يجعلها تنبع من جسدي من تلقاء نفسها، كما أحسست أن تفاصيل جسدها تداهمني لأول مرة دون أن تمر من تلك المصفاة الذهنية التي كانت تقودني إليها، وصلتني عبر جيدها و صدرها و نعومة ظهرها، و أغمضت عيني مستسلما لأناملها تجوس في ملامحي، و داخل كل رعشة تخترقني، و سمعت لأول مرة أصواتها الداخلية تنمو بين يدي، تأتيني من تدفق غائر، ليس لغة، بل عزفاً مشدودا، ثم وجدت نفسي داخل أنفاسها، داخل عذوبتها، داخل محارة مغلقة أتحول فيها إلى مجرد شذى بحري تنثره أملاح و طحالب بعيدة. ثم وجدتها تقاوم اقتحامي باندفاعات متوترة، مزيج من مد و جزر، تمشي عارية، فتبعت بيدي و شفتي نهوضها التدريجي، حتى وضعت بوقفتها قدمين صغيرتين بأصابع طويلة مرسومة بعناية على نفس الرخام الذي أدفئه بوجنتين ملتهبتين، رأيت أصابعها تتحرك عندما لمستها بشفتي، ثم رأيت القدمين تنتقلان مثل أجسام مضيئة. بقيت ممددا كما كنت، لا أرى من مشيتها في الفراغ الأبيض سوى قدمين ترتفعان عن التماعة الرخام و تعودان إليها بتناسق مبهج، و عندما لسعني البرد اعتدلت في جلستي و طلبت من ليلى أن تقف على خلفية الستائر، ففعلت ذلك بامتثال مثير، عند ذلك رأيت لأول مرة تعبير وجهها. فأحاط بي ما يشبه سحبا كثيفة جراء ما رأيت، كان وجهها قد امتلأ بالخواء الذي مشت فيه، فأصبح له بعد ميتافيزيقي كما لو أن المجهود الذي بذلته، و الرقصة السرية التي مارستها قد سكبا في تعبير وجهها مسافات لا نهائية، مددت ذراعي نحوها لمدة طويلة فلم تتحرك، ظلت واقفة بكل شهوتها أمام الستائر. عند ذلك قلت لها متوسلا .. أرجوك .. المسي جسدك .. فحركت يديها معا ابتداء من وجهها ثم نزلت بهما على كامل جسدها حتى وصلت بيد واحدة إلى أسفل بطنها، عند ذلك سحبت يدها الأخرى جزءا من الستائر و غطت به حركتها المهتاجة التي لم يعد يبدو منها سوى ارتعاش الثوب و امتلاء وجهها بظلال لذة كاملة.»(ص.-ص279-280)
آفة الاستطراد
لكن التدقيق في التفاصيل قد تترتب عليه، إذا هو زاد عن حده المعقول والوظيفي، نتائج جسام ! وهذا ما لمسته فعلاً، حيث أمكن لي مرّات عديدة أن أضبط المؤلف - السارد وهو متورط في حمأة التفاصيل غير الضرورية، متلبّساً بسرد أحداث هامشية لا يتطلبها الاقتصاد الداخلي للنص، أو بالاستطراد إلى موضوعات وقضايا شائكة كثيرة (سوء تدبير المال العام، تبييض المال الحرام، الرشوة، استغلال النفوذ، المحسوبية، الزبونية، الفساد السياسي، الإرهاب، المخدرات، السياحة الجنسية، ... و طبعاً الحب و العلاقة مع المرأة بما هما الموضوع المحوري) يحتاج كل منها إلى رواية بل روايات مستقلة. لذلك، وكما أشرت إلى هذا آنفاً، يخيّل إليّ أنّ الأشعري، وهو عاكف على توليف هذه الرواية، كان تحت وطأة شعور قاهر بأنه يكتب الرواية الأخيرة، الأمر الذي جعله يُفتتن بالمعاني البعيدة للأشياء ويستنفر شخصيات كثيرة ويراكم تفاصيل زائدة ويتطرق إلى قضايا وموضوعات عديدة. إذا صح هذا الافتراض، فقد كان حريّاً به أن يعتقد بأنه كان يكتب لا الرواية الأخيرة بل ما قبل الأخيرة، و بأنه سيظل دوماً يكتب الرواية قبل الأخيرة. هكذا أفهم شخصيّاً ممارسة الرواية. وهكذا ينبغي لها أن تكون، أي مغامرة مشرعة على الأبدي ّواللانهائيّ. إن الروائي لا يكون يكتب روايته الأخيرة إلا حين يكون يكتب وصيته الأخيرة إلى القرّاء !
(*) نص القراءة التي شاركتُ بها في لقاء حول «القوس و الفراشة» بتطوان نظمته المديرية الجهوية لوزارة الثقافة في 6 يونيو 2010، بحضور محمد الأشعري و مشاركة محمد عز الدين التازي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.