- لاشك أن التخاريج التي اضطلع بها موجة من المفكرين في الإسلاميات حاولت أن تراجع المخزون الاصطلاحي لأكبر المفاهيم حضورا في الثقافة العربية الإسلامية و هو مفهوم «النص». - العقل الحداثي و بينة الخطاب الديني و طموحاته الاستراتيجية الأنسنية استتهدفا ترويض جموح الديني و تفكيك سلطته النسقية، واستبطان مكبوته التخييلي، ومخزونه الرموزي. - الرؤية الإيجابية للتاريخ ظلت معتقدا قويا إلى أيامنا هذه، يؤمن بها قطاع واسع من الباحثين و المثقفين. - حسب المفكر حسن حنفي: «لم يتلق أي شخص وحيا من الله دون الالتجاء إلى الخيال، وينتج عن ذلك أن النبوة لا تتطلب ذهنا كاملا بل خيالا خصبا». نظمت مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» يوم الخميس الماضي يوما دراسيا حول محور «المقاربات الحداثية للوحي بين تطوير الفهم و استعادة المعنى» بمشاركة نخبة من الباحثين الشباب جلهم من الجزائر، البلد الذي كانت الندوة مقررة أن تعقد على أرضه. و قد انعقد اليوم الدراسي ضمن «صالون جدل الثقافي» و هو عبارة عن حلقة فكرية درجت المؤسسة على تنظيمها بإيقاع منتظم، إضافة إلى إصدار مجلة فكرية فصلية «يتفكرون» تعنى بقضايا الفكر و الدين و الأدب و الترجمة. بعد كلمتي مدير المؤسسة محمد العاني و منسق الندوة الحاج دواق، انطلقت أشغال الجلسة الأولى في محور « الوحي بين التعالي و التاريخانية، او نحو نموذج معرفي متوازن لاستعادة البنية و الوظيفة»، بتدخل اليمين بن تومي، من جامعة سطيف 2، تحت عنوان « التسييق و التاريخانية الجديدة في الخطاب الديني المعاصر» ، حيث أكد أن لاشك أن التخاريج التي اضطلع بها موجة من المفكرين في الإسلاميات حاولت أن تراجع المخزون الاصطلاحي لأكبر المفاهيم حضورا في الثقافة العربية الإسلامية و هو مفهوم «النص»، إذ خرج لفيف من المتضلعين في الخطاب الإسلامي، وقاموا بنسف مفاهيمي و اصطلاحي للبنى المتكلسة التي تقوم في عضد الثقافة الإسلامية. و أكد بن تومي أنه إذا جدد هؤلاء في الرصيد المصطلحي و فق ما يقول به علماء نظرية التلقي و القراءة فإنهم يجعلون النص الديني في مواجهة الواقع مباشرة، يعطونه مفهوما دنيويا قائما على المصلحة التي باتت ضرورة، أي يجعلون النص مساوقا للراهن و الآني، مفارقا لطبيعته المتعالية التي انحسر فيها فضاعت دلالته النصوصية الجوهرية من كونه مقدما أساسا لجمهور من المخاطبين. وتحت عنوان « أنسنة الخطاب الديني «قراءة في تأويل العقل الحداثي العربي لجدل اللاهوت و الناسوت»، قدم شراف شناف، من جامعة الحاج لخضر باتنة» عرضا رام فيه تفحص المدونة النقدية الحداثية العربية، وأدواتها و آلياتها الإجرائية في نقد الخطاب الديني، وتحليل طبيعة العلاقة بين هذا العقل الحداثي و بينة الخطاب الديني و طموحاته الاستراتيجية الأنسنية التي تستهدف ترويض جموح الديني و تفكيك سلطته النسقية، واستبطان مكبوته التخييلي، ومخزونه الرموزي، وفضح تلاعباته الكهنوتية و مراوغاته الإيديولوجية. و قد اعتمد الباحث في عرضه على تحليل مدونة محمد أركون و علي حرب ونصر حامد أبو زيد و أدونيس، وانتقدها باعتبارها مدونة مليئة بالتعقيدات. وتناول أحمد زيغمي، من جامعة قاصدي مرباح، محور الندوة بطرح السؤال التالي «أيهما يشمل الآخر: الوحي ام التاريخ؟». و أضاف متسائلا: هل يقول حقا التاريخ كل شيء؟ فهو يرى أن الرؤية الإيجابية للتاريخ ظلت معتقدا قويا إلى أيامنا هذه، يؤمن بها قطاع واسع من الباحثين و المثقفين، يتبنونها وليست هذه الجملة سوى دليلا قاطعا على متانة هذا المعتقد الجديد، فيقول الناس: « التاريخ سيحكم على فلان وعلا»، و أيضا: « سيذكر التاريخ كذا و كذا». لكن أين يكمن التاريخ؟ يتساءل المتدخل، ليجيب أن هذا السؤال محرج بالنسبة للمؤرخ، وهو أكثر إحراجا للمؤرخ الميتافيزيقي إذا تواجهه مشكلة البداية. و لهذا فلا غرابة أن جميع كتب التاريخ القديمة تنطلق من خلق آدم، وقصة السقوط، ثم الطوفان و هكذا... الوحي، كما يرى زيغمي، لا يعاني عجزا مذكورا فيما يتعلق بهذه المسألة، فالبداية هي دوما الله، و ليست المسألة محل اختلاف أبدا بين الكتب السماوية. وجاء عرض الرحموني بومنقاش، عن جامعة سطيف 2» في محور «الضوابط التداولية للنص الديني، التفسير أنموذجا»، وجاء في ان القراءة المعاصرة في حقل الدراسات القرآنية تتأسس على مبدأ التجديد و الرغبة في تذليل ما يبدو عصيا في النص، و من ثم سعت القراءة المعاصرة على ضوء مبدأ التجديد إلى أنسنة النص بنقله من وضع التقديس إلى وضع التأنيس، و عقلنته بإعادة فهمه توسلا بالمناهج العلمية المعاصرة و تقديمه كنص مفكك يغلب عليه الرمز و الاستعارة و الأسطورة ولاتناهي المعنى. ويضاف إلى الأنسنة و العقلنة الأرخنة، وهي محاولة ربط النص بالظرف الزماني و المكاني الذي ولد فيه، هدفه في ذلك « أن نستخلص من النص القرآني تدينا ينسجم مع فلسفة الحداثة» كما ظانها « قراءات مقلدة غير مبدعة» حسب الدكتور طه عبد الرحمان. وتدخلت في الجلسة المسائية نعيمة إدريس، من المدرسة العليا للأساتذة بقسنطينة» في محور «جدل الدراسات النقدية الحديثة و المعاصرة للكتاب المقدس»، فأكدت أن الدين في أوربا الحديثة تحول إلى موضوع بحث مستقل عن تخصصات علمية عديدة بعد تطورات تاريخية و علمية و فلسفية عديدة، وقد مكن هذا الدراسات الدينية أن تعرف تقدما نوعيا بعيدا عن الطروحات الماضية التي غلبت عليها السذاجة و الخرافة و العاطفة في وصف الدين وتحليل مضامينه، حيث ظهرت تخصصات تدرس الدين من كل النواحي: أصل الدين بين التوحيد و التخصص و الطقوس و المشترك و المختلف فيه بين الأديان السماوية من نبوة و معجزات و شرائع. وتستند هذه الدراسات إلى خلفيات و رؤى و مناهج و مدارس مختلفة، حيث نجد الدارس المؤمن بمسيحيته و بعيسى المخلّص و بالوحي، كما نجد الذي يرفض كل الموروث، ويؤمن بإله كما يحب هو ان يؤمن به و يراه، كذلك نجد الملحد الرافض للدين جملة وتفصيلا أو من يعتبر الدين ضرورة اجتماعية أخلاقية رافقت المجتمعات البدائية و المتحضرة على السواء. وجاءت مداخلة محمد الشريف الطاهر تحت عنوان «الوحي و التاريخ في المنظور المعرفي التوحيدي». جاء فيها أن تحليل العلاقة بين الوحي و التاريخ لا يجب أن يكتفي بحدود البحث عن الماهيات كماهية الوحي و ماهية التاريخ و غيرهما، بل يتجاوز ذلك إلى تحليل العلاقات بين العنصرين كعلاقة السيطرة و الحلول، إذ ان هذه العلاقات تمكننا من حل قضية العلاقة بين الوحي و التاريخ. وتدخلت في الجلسة الثالثة جاري جويدة، من جامعة الجزائر، في موضوع «مكانة الوحي في مشروع، من العقيدة إلى الثورة، بادئة عرضها باقتباس دال من حسن حنفي في كتابه « رسالة في اللاهوت و السياسة»:» لم يتلق أي شخص وحيا من الله دون الالتجاء إلى الخيال، وينتج عن ذلك أن النبوة لا تتطلب ذهنا كاملا بل خيالا خصبا». و تضيف أن حسن حنفي يتناقض بين ربانية الوحي و إنسانيته إذ يقول:» و الوحي من حيث هو كلام مكتوب بلغة البشر. و لا يهمنا الكاتب لأن الشخص خارج نطاق السؤال. لا يوجد أمامنا إلا الكلام. و الكلام مكتوب بلغة معينة تطبق عليها قواعد هذه اللغة لفهمه. بل يتم التعبير عن الكلام أحيانا بالصورة الفنية أي بتشبيه إنساني خالص». ثم جاء عرض ليندة صياد، من جامعة باجي مختار بعنابة، تحت عنوان «إعادة قراءة النص القرآني وفق مقاربات محمد أركون». و بلال مقنعي تحت عنوان « الصلة بين الوحي و الواقع في فكر حسن حنفي، محاولة للفهم». يستخلص المتتبع لهذه الندوة الفكرية في موضوع الوحي، ان ثمة ثلة من الباحثين الشباب يسهمون علميا في دراسة الدين، بعيدا عن التشدد و العاطفة. سلاحهم العقل و أدوات التاريخ و مناهج تحليل النصوص الحديثة.