ينتظرها في الجو الغائم على الجسر النهري، ينتظر بإصرار لأنه رآها... رآها كما لم يرها من قبل؛ من قبل كانت تطارده أو يطاردها؛ متطاردان معاً لم يلتقيا أبداً، رغم قرب القرب في مشاهد كثيرة ومواقف؛ أبداً لم يلتقيا إلا إذا كان ذلك يتم بغير علم ولا إحساس منه أو منها... هل يعقل؟ المسألة جد الجد؛ يعتقد الآن إلى حدما، وربما هي أيضاً كذلك، وكأن لقاءهما يمكن أن يتم بدون علم من أحدهما أو منهما معاً... لقاء من يكون إذن، وبين من ومن؟ يتساءل دون أن يملك جواباً، إلا أن الإحساس قوي في نفسه، بأن الأمور جد الجد في كل توافقها واختلافها... هكذا إذن لا يستطيع أن يحدث أحداً بكل صدق عما يرى، وما يملك عليه تفكيره نتيجة ذلك، ويبقى عليه باستمرار أن يغلف خطابه للغير، بقضايا ومتطلبات عامة محسوسة، وأن يصوغ الفكرة مبسطة في عبارات من مستوى الجميع، مما يستعمل الجميع، ويفهم الجميع. رآها أول مرة ليقول أين رآها؟ حقاً لم يكن رآها من قبل، لم يرها في واقع على وجه التأكيد، لم يجمعهما لقاء، لم يصادفها في متجر أو منعطف أو يسايرها في خط درب أو طريق...لا يذكر لا يتذكر؛ إنما قطعاً رآها، وشعوره لا يكون قوياً إلى هذا الحد دون سند؛ وقطعاً لم يرها في حلم أيضاً، شعوره قوي بذلك، لا يذكر لا يتذكر... لا طابع حشمة تكتسي ولا سمات تبرج، مطلقة المحيا والجبين والشعر والنظرة والحركة الضمنية غير المنظورة والمنظور منها وكل شئ... لم يرها كُلا، لكن ما تسمح به المسافة بين جادتي شارع، وزحمة حركة احتجاج مألوفة في عرضه، كاف لرسم كل شئ لديه بمنتهى وضوح... ورأته فعلا كما هو قد رآها، التقى شعاعهما يقول، ليكون صادق التعبير عن شعوره؛ بدت بمواجهته، ربما نظرتها إلى نظرته، لن يقول عن تبادل قصدي بينهما، ولا عن محض صدفة، إنما مواجهة شعاع لمثيله، على قرب بعد وبعد قرب. أدمن متابعة حركات الاحتجاج شبه اليومية المألوفة على ممر من جلسته في مقهاه المعتاد، ضمن رحلته المعتادة شبه اليومية المألوفة كذلك... يعبر الجسر النهري بين مدينتين، ضفتين، يطلقون عليهما العدْوتين، وينطقها في باطنه بالتشديد، لمجرد مغازلة لغوية عابثةً... أين رآها إذن، إن لم يكن قد رآها لا واقعاً ولا حلماً؟ جد مألوفة في مشهد مرتاحة مريحة، بكل مطلق جاذب، بعيد كل البعد عن أي إبهار أو إثارة. في غمرة من مشاعره، يترك كأس قهوته، ليقوم مسايراً حركة الاحتجاج، عاملا بحركة مدروسة على تقليص المسافة باتجاهها على الجادة المقابلة حيث تتبدى له، مسايرة بدورها متابعة تبدو، لكنها كالواقفة المتوقفة في غير جمود ولا حركة؛ يحث السعي باتجاهها مع بعض عسف خطو منه واحتكاك، يرنو مرة بعد أخرى إلى موقعها عبر الفاصل الموتور بينهما، لا بأس... لا بأس، يداخله شعور الاقتراب دون إحساس بتقلص فعلي في المسافة بينهما... تخامره مقاطع المطلب والشعار الاحتجاجي، كلمات تنبض سراً في حلقه، قبل أن ينخرط في ترديد لساني متردد، على إيقاع خطو باتجاه قطع المسافة إلى موقعها هناك، هنا، هناك، على قرب بعد وبعد قرب. أتكون مجرد عين أمنية راصدة متتبعة؟ ما كان لها إذن لتكون بهذا التميز... ملامح مريحة مرتاحة، لا متلهفة مستطلعة ولا متوترة، لا محبذة مشجعة، ولا معارضة معاكسة... مريحة مرتاحة ولا منفرة على الإطلاق، بل تبدو إلى حد كبير مغرية جذابة، أو على أقل تقدير باعثة على التطلع، وبعيدة كل البعد عن أية استثارة. يدمن الآن ما تدمن حضوره في موقعها الجامد المتحرك على جادة الشارع، في زحمة احتجاج يومي مألوف، غير عابئ بكأس قهوة لم يعد يحظى منه باهتمام معهود، ليصبح مجرد تعلة انتظار لظهورها على الجادة المقابلة، لينخرط ضمن التيار في ترديد آلي للمطلب والشعار، مع السعي الحثيث المعهود باتجاه تقليص الفاصل والمسافة دون جدوى... تطارده أم هو المطارد؟ يغير وجه العملة واللعبة بقصد، مجلس قهوته الآن في غير جادته المألوفة، ينقل موقعه إلى مقهى مقابل، مقدراً أن مدى سعيه باتجاهها سيقل إن لم ينعدم، ما دام الآن في جادتها المألوفة، معها على جادة واحدة؛ ويقول في نفسه إنه ربما... أو بالتأكيد كان مغفلا عندما لم يفهم لغتها، إذ كان عليه أن يبادر بحركة مثل هذه، يتخذها باكراً لتجده بجانبها أو ليجدها على الجادة نفسها... ويلوم نفسه أكثر، إذ كان وكأنه ينتظر أن تسعى هي إلى جادته؛ والأدهى في حاله كما يحدث نفسه، أنه يبدو بمثابة مخاتل أو متحايل في التعبير عن مشاعره، عندما يتحدث بالغامض الملتبس عن شعاعين يلتقيان، يتقاطبان... لا عن نظر وخاطر ورغبة منه على الأقل... أم يريدها هي بذاتها من ذاتها، أن تصرخ في عرض الشارع أو جادته، ضمن ترديد المطلب والشعار أن: يا ذاك، يا من هناك، روحي فداك، أنا باغياك... إنما وهو الآن في جادتها، لا تحضر كالمألوف حيث هو متحين متربص من أجلها، ألم يقل إنهما يبدوان متطاردين؟ الآن يؤكد ذلك، كل منهما يطارد الآخر بطريقته الخاصة... لماذا؟ وأين رآها، إن لم يكن قد رآها؟ واين رأته إن لم تكن قد...؟ الآن يلف خيبة نيته في الإيقاع بها، أو مجرد الوصول إليها عبر الحلول بجادتها، معتبراً أنه مع ذلك استفاد الآن، وعلى وجه اليقين، أنها بدورها لها به شأن، ربما لا يقل عن شأنه بها... يراها الآن في كل شئ حوله أو يكاد، حيثما التفت أو انتحى؛ لا بأس... اللعبة يعرفها علمياً، ولا تذهب به قليلا ولا كثيراً على طريق الالتباس؛ دروس الضوء والبصريات لا تنسى، وبخاصة عندما ترتبط باللعب... تعلموا كيف يحدقون في الشئ الواضح المعالم، أي شئ... أبيض في أسود على سبيل التوضيح، يحدقون في ذاك الموضوع الماثل حتى يستوعبوه بقوة النظر، أو تتشبع به الأعصاب البصرية على حد قول العبارة المسكوكة، وحينئذ يمكنهم صرف النظر عن ذلك الموضوع المبصر، ليروه ماثلا حيثما نظروا حولهم على لوحة أو عارض في الفراغ... لذلك يفهم كيف يراها أحياناً حيثما التفت، يراها كما هي مريحة مرتاحة في غير تبرج ولا احتشام دونما حركة أو تجمد... أكثر من ذلك، تذهب اللعبة العلمية إلى إمكان رؤية ذلك الشئ المشبع به بصرياً في الإغماض، دون حاجة لعينين مفتحتين أو لوحة عارض عاكس في الفراغ... لذلك يراها داخل الإغماض ماثلة بوضوح طابعها المميز، لا متفرجة ولا محبذة أو معارضة... يفهم الدرس العلمي واللعبة الفزيائية المحسوبة في بصرياته الخاصة، ولا يعتريه شك أبداً في أن يكون به مس أو مدعاة ريبة، أو أنها هي بالذات سحرية أو ذات طابع أسطوري... ويراها في رحلته اليومية بين المدينتبن الضفتين، يطلقون عليهما العدوتية بالتسكين، بينما يحلو له في داخله أن يستعمل التتشديد لمجرد غواية لغوية عبثية... يراها حيثما التفت في الفضاء حوله، وأحياناًعلى ظهر أي رفيق أو رفيقة رحلة وقوفاً أو جلوساً، على إيقاع اهتزاز حافلة نقل، أو انسياب عربة ترامواي... لن يقول لأحد عن حاله، أو أنه حالة خاصة على نحو ما هو، إلى أن يمسك بها أو تمسك به؛ ويعترف بأنه لا يميز لها لباساً، ولم يراوده السؤال بهذا الشأن، كان فيما يرى منها كما تبدو على جادتها بذلك السمت المميز المعهود بلا إثارة أو إبهار، مكسوة بما يلائم ولا يأخذ العين، بما يريح ولا يأسر أو يشغل بالا بأي من وجه الوجوه... لتبقى وتبقى فقط، مجرد مميزة في منظوره. سؤاله عن لباسها الآن، لأنه يراها فعلا، هي بالذات كما يعرفها، هي هنا الآن كاشفة مكشوفة بلا لبس ولا التباس، عارية كما ولدتها أمها، مع الفارق طبعاً فهي ليست صبية ولا رضيعاً... بل مكتملة أنوثة وغير بريئة من مسحة فتنة... ربما عليها شئ من هفيف رهيف لا يكسو ما يكسو أو لا شئ عليها تماماً... يراها ويعيد ويحدق... وعندما يستطيع تأكيد الأمر لنفسه بصوت مسموع له على الأقل، فلأن لحظة الدهشة والارتباك بالمشهد تجاوزته أو تجاوزها، ويستطيع أن يوازن ويقارن، ليزداد تأكيداً أنها عارية بالكامل أو إلى حد كبير كبير على الأقل... رحلته اليومية بين الضفتين على الجسر النهري يقطعها راكباً، إن لم يعبر ببساطة في بطن مركب بمجدافين، كما يقطعها كلياً أو جزئياً راجلا يخطو الهوينا على قدميه، بتؤدة فراغ يوم عطلة أسبوعية، هنا ملتقى النهر والبحر حيث يفقد كل منهما طبيعته لوناً وحركة ومذاقاً وكائنات حية، بعد أن عمقت مختلف الأشغال الترسانية، من عمق وصال كان على الدوام هيناً رفيقاً، خارج موسم الإمطار والفيضان... هنا مرتع اليفاعة والصبا حيث كنا نسابق بعضنا أينا الأسرع سباحة، أينا يعبر النهر من ضفة إلى أخرى، أينا يغوص أعمق أو أطول مدة ومدى... وآخرتها، آخرتها إن لم تكن أولاها، القفز من حافة الجسر إلى لجة النهر... هنا يراها ، يؤكد بصوت مسموع أنها هي، يراها كما لم يرها من قبل، بوضوح عري كامل إلا ما يخفيه الماء مما يرتديه أو قد لا يرتديه سابح أو سابحة، يؤكد... يتأكد أنها هي، بمطلق كل شئ فيها، سلس حركتها تداعب هدأة الماء، تابع شعرها ينساب منتشراً حولها على صفحة الماء، ارتسام كيانها متموجاً تحت صفحة الماء... هي... هي... يؤكد في نفسه، يخطو منحدراً باتجاه مرتع اليفاعة والصبا حيث كنا نتسابق متقافزين في أحضان ملتقى الماءين... هي هي... يسير محاسباً خطوه محاذراً ألا يثير انتباهاً، مترصداً لحظة لمس خطوها اليابسة... يراها الآن بوضوح أفقي أكثر، مطلقة الحركة في الماء، تغطس... تطفو... بظاهر مرح غامر وعبث... تطفو ، تغطس، يراها من هنا... ويراها غيره من سابلة أعلى الجسر، متوقفاً بعضهم عند المشهد، مكتفياً بعضهم باقتناص لمحة عابرة قد لا تخلو من عجب مضمر، لا لمشهد سابحة أو سابح في مرتع اليفاعة والصبا، وإنما لغيم يوم واعتدال طقس أميل ما يكون إلى رطوبة... يراها من وضعه المترصد، غير مبالية تبدو في غامر ما هي فيه، تغطس... تطفو... تغطس... ولا يراها... يتابع توقعه لظهورها هنا هناك، ولا يراها، لم يعد... ينتظر بزوغها هناك هنا... ينتظر ولا يراها... هنا هناك... لا يراها... لا يمكن أن تسكن أو تصمد تحت الماء إلا إلى حد... لا يراها... لا... لتنبثق بكل هون عن مائها على الجادة المقابلة، منتصبة بتؤدة وسكون، عمود كيان بين غيم وماء...