ليس من الممكن بتاتا التصريح بأن الرجل كان يروم أن يلقي بنفسه في النهر. لا أبدا. نعم هو كان فوق الجسر الكبير، على نهر أبي رقراق، وكان يلوح للناظر من خلال تشابكاته الحديدية العملاقة المقوسة واقفا وبسكون لا تخطئه العين، أي أن لا أحد قد ينتابه شك في مغزى وقوفه على جسر. قد يكون في لحظة تأمل، أو أنه توقف كي يستريح قليلا ليستعيد نفسا ضائعا، ولكي يصل إلى مناه، كما قد يكون قال لنفسه، بدون أدنى ريب،أن رؤية الماء أسفل الجسر وخريره الرتيب سيساهمان في تشييد هناء مفقود كان يرومه ويبحث عنه. ولذا لم يكن بالشيء الغريب أنه قضى في المكان، فوق الجسر، وقتا مدته ساعة وثلاثا وخمسين دقيقة تقريبا، متكئا على الحاجز، يحدق في الماء بلا حراك، هذا أمر أكيد. إنسان فوق جسر ينظر ويحدق بإمعان في ماء النهر وهو يسيل. لا غير. كأي إنسان. وبالطبع لم يلبث في وضعه ذاك إلى ما لا نهاية. فقد تحرك فيما بعد ذلك، وقام بفعل شخصي غير عاد. تمسك بحافة الحاجز الحديدي، وبخفة حركة صعدَ، وظلَ فوقه، واقفا، منتصبا في عزم وتصميم، لا ترجه الريح، ولا يرتعد، ولا يرتعش في بدنه أي طرف من أطرافه. اليدان ساكنتان، والقدمان راسختان. كان تقريبا أشبه بتمثال في ساحة عامة. ظل هكذا مدة سبع عشرة دقيقة تقريبا. أمر مؤكد ولا يتطرق إليه شك. لكن لماذا وقف على الجسر بداية؟ ولماذا ظل كل ذلك الوقت منتصبا وواقفا وساكنا؟ هذا شيء لا مجال لإداركه في الحال بسهولة ويسر. فمن ذا الذي يستطيع معرفة ما يعتمل في قلب وعقل رجل أصلا، فبالأحرى هذا الرجل الواقف فوق حاجز جسر !؟ نعم من السهل بعد تأمل طويل نسبيا القول إنه كان ينوي فعل أمر خطير للغاية. النهر والجسر والسكينة والعزلة لا تجتمع كلها إلا لأمر جلل، فيه خطر ما يحدق بالتأكيد ! لكن وفي نفس الوقت لا يمكن الجزم قط، برغم الصورة والتخمين المنطقيين، أنه كان يريد الارتماء في لجة الماء الداكن، وقد قارب المساء من الحلول التام. الذي حدث بعد ذلك لم يكن متوقعا البتة هو بدوره. لكن هي وقائع حدثت فعلا غيرت مجرى الأمور، وكسرت يقين التخمينات الأولية الممكنة والسهلة الإدراك. تفاصيل الحياة ليست على الدوام كما ننتظر أن تكون. يقع أحيانا طارئ من جهة ما وبقدر ما. ففي لحظة، بدت فوق الماء حقيبة يد نسوية حمراء، تتقاذفها موجات النهر الصغيرة الهادئة. حقيبة بريئة وحيدة في الماء. ثم وقع أن توقفت الحقيبة عن الحركة بشكل فجائي كما لو ركد الماء في مرمى بصر الرجل تحديدا، وجَمّد الحقيبة أمام عينيه. حدق فيها. اهتم بها على حين غرة. بالتفاصيل الممنوحة للبصر أولا. لم تكن الحقيبة قديمة أو ممسوحة الجلد أو رخيصة بل من النوع الرفيع والممتاز، ولونها الأحمر كان يتلألأ ما بين الماء وضوء اللحظة. ضوء لحظة كان فيه نور مساء قريب من الليل، يحار ما بين الوضوح التام وحلول مستهل الظلام. وقد راعه منظر الحقيبة الحمراء المتجمدة فوق الماء. فقبل ذلك الماء وسيلُه العادي المألوف هو ما كان منظورا، حتى اختل بوجود غير عاد في المجرى، لا يمت بصلة للماء والمكان والآونة. والغريب أكثر أن الرجل، تبعا لذلك، بدا كأنه فُوجئ، فارتعشت ملامح وجهه قليلا، وظهر أنه شرع في الاهتمام بأمر مخالف وغير ما كان يروج في باطن نفسه، في وجوده المنعزل منتصبا فوق جسر حديدي ذات مساء. وبالتالي فهذا ما جعله يتحرك من مكانه، ويخرج من وقفته الجامدة على الحاجز. غادر منطقة الذهول الطويل والشرود الذي يُنسي الكون وما فيه وحوله. ولم يدر إلا وهو ينزل من على الحاجز، وبتؤدة مشى متجها نحو حافة الوادي في الأسفل. وليفعل، اجتاز نصف الجسر حتى الحافة، وأخذ الدرج المتجه نحو الشط النهري. نعم كان واضحا أنه قرر أن يعرف حقيقة الحقيبة. ليس لأنه امرؤ نباش وفضولي، أو لأنه من عشاق الأشياء المهملة والمتروكة، كما أنه لم يكن أيضا رجلا من عشاق متاع النساء الحميمي. لا. فقط لأنه لم بكن يتوقع رؤيتها هكذا سابحة فوق الماء بلونها المثير. بكل بساطة. شيء من الفضول الذي قد يكون له مصدر خفي ولاواعي، لكن دون تأكيد ذلك مرة أخرى. إلا أن هناك أمرا مؤكدا، فلا أحد كان موجودا هناك غيره. وإذن عند اقترابه من هناك، من حاجز النهر السفلي الذي يشبه رصيفا عاليا، بحث عن غصن طويل أو قصبة، ولما عثر عليه بعد بحث غير هين، مده وسحب الحقيبة جهته. قام بذلك في شبه سباق محموم تقريبا، مستجيبا لرغبة لم يعرف من أين أتته، فهو كما أشرنا ليس رجلا حُشريا، ولم يحدث أن اهتم من قبل بأن يتعرف على ما لا يعنيه. لكن حصل الذي حصل. لكن ما الذي جعله يفعل؟ كيف وجد نفسه يندفع ليعرف؟ هذه أسئلة ستظل بلا جواب إلى الأبد. المهم أنه بعد أن سحب الحقيبة الحمراء نحوه، وأمسك بها كما لو كانت شيئا نادرا، لم يعد إلى أعلى الجسر. تأملها مليا، وقلبها بين يديه، وشعر بلذة غامضة لكن لذيذة ارتعش لها ومردها أحاسيس اكتشاف نادر بما له من قدر متعة ملتبسة ممزوجة بفرح خفي. ولم يمكث طويلا في مكانه قرب النهر، فبفعل قدرة قوة ما، غريبة ولا مفهومة، غادره بسرعة موليا ظهره له مودعا ومهرولا، واتجه نحو منزله، بأحد أحياء أكدال الراقية. وقد قطع المسافة خابطا الطريق بسيارته بسرعة قياسية، غير آبه بالشوارع والأزقة والسيارات وأضواء السير. وحالما دخل شقته، اتجه مباشرة إلى غرفة النوم. وهناك وضع الحقيبة فوق السرير, ثم ابتعد عنها لدقائق دون أن يفارق نظره مرآها. وفي الأخير تقدم مجددا، وراح يتلمسها بحنو ورهبة، وهو يتساءل في دخيلة نفسه عما قد تحويه. تساؤلات تأخذ شتى المناحي، وتركب شتى الأفكار. وأخيرا وكي يعرف بطبيعة الحال، فتح الحقيبة. ليس بدون وجل وتهيب حقيقيين لكن متسمين في نفس الوقت بهدوء عجيب. نعم فقد كان الرجل في كل ما قام به تلك العشية يتمتع بسكينة قاتلة. كان ظاهره ظاهر رجل رزين رصين ثابت العزيمة، يعرف ما يريد وما يفعل. وأفرغ محتوبات الحقيبة النسوية. وجد كما هو متوقع مشطا مرر أصابعه على أسنانه دون أن يهتم بغرزها في أنامله، وقناني عطر فتحها وشمها واكتشف قوة نفاذها وقوة إثارتها مما جعل قلبه يهتز بالرغبة مرتعشا. ثم وجد كريمات في علب مختلفة الحجم، بعضها دائري والبعض الآخر مستطيل، فرفع غطاءاتها تباعا في كل مرة، واستحسن ألوانها ومنظرها اللدن تقريبا. ولما فرغ وضعها جانبا. واستمر في البحث. رأى منديلا مطرزا في زاوية منه رُسِم حرفان مذهبان لا بد أنهما الحرفان الأوليان لاسمها في الغالب. عب رائحته ومططه بحنو ثم تركه. بعد ذلك أخذ إصبع أحمر الشفاه وضغط عليه من أسفل حتى تبدى قلمه القرمزي. تأمله قليلا وداعب حمرته بسبابته. وقلب قلم الرموش ومشابك شعر بين يديه كما لو كان يتمثل خفتهما، ونفخ قليلا في بودرة الخدين فحلقت في الهواء مثل ندف ثلج مضرجة بالدم. فعل الرجل ذلك كله كأنه يتفقد محتويات كنز صغير، فقد كانت حركاته منتبهة وحذرة، لكن في نفس الوقت واثقة وغير مستعجلة. لما انتهى رتبها فوق السرير. أدوات ماكياج امرأة لا غير. ومن جديد تأملها لدقائق قبل أن يستدير للبحث عما تبقى في الحقيبة. وهكذا عثر على أجندة عناوين قرأها كلها، وهاتف نقال بحمرة قانية طالع في ذاكرته الأسماء والأرقام، وبضعة نقود عدها كلها، ومفاتيح عدها أيضا، وسجل مختلف أحجامها وأشكالها. ثم وجد رسالتي حب كتبها رجل أعمال مسافر يشتكي ألم الفراق والبعاد عن قلب حبيبته، ورائحة جسدها الفواح باللذة وسر السعادة، كما وصفها بكلمات بسيطة سطحية لعاشق متيم ليس له الوقت للحذلقة، حسب ما قرأ فيها دون أن يغفل حرفا ولا فاصلة رغم قلتها. قرأها وتألم قليلا لحاله. وكان في الحقيبة كتاب جيب اصفرت أوراقه كتبت في بعض صفحاته وصفات للتجميل، وبعض العناوين والأرقام والحسابات النقدية. انتهى من مرحلة البحث والقراءة الأوليين وراح كمن يفكر. ثم توقف لوقت قصير ينظر، وتساءل أخيرا السؤال الذي كان يطرق مخيلته، ويملأ دهنه منذ البداية، منذ رأى الحقيبة، والذي لم ينشغل تماما بالإجابة عنه إلا حين انتهى من أمر الحقيبة في المرحلة الأولى كما قلنا. تساءل عن أي نوع من النساء هي صاحبة الحقيبة. وخمن أنها من النساء الجميلات الثريات, وقد اعتمد على ما وجده في الحقيبة، وتبعا للمظهر النفيس التي تظهره، كدليل على المرأة كما هو الحال دوما في مثل هذه الأمور، وارتسمت صورة تقريبية لها في رأسه. صورة ملونة وبراقة كما لو نقلت من صفحة "البيبل" في مجلة باري ماتش التي يدمن على قراءة تحقيقاتها المثيرة عن المشاهير كل أسبوع. فأعاد القول إنها حتما من تلك الأنيقات الباذخات اللائي يراهن أحيانا يمرقن في الشوارع الرئيسية الكبرى وعند المدارات، وهن يقدن سيارات الدفع الرباعي الداكنة اللون غالبا وشعرهن يتطاير في الهواء، وعيونهن محتجبات خلف نظرات فاخرة داكنة اللون أيضا. يكون هو لحظتها في أي مقهى عند أي مدار يرتشف قهوته ويتأمل ذاته وحياته، ويحلم من حين لآخر بالرحيل نحو مكان آخر مختلف لا يشرب فيه قهوة في سطيحة، وليس له فيه الوقت الكافي للحلم. بالتأكيد هي إحداهن لا محالة، قال وهو يتأمل الحقيبة مرة أخرى، ثم وهو يقلبها رأسا على عقب للتيقن من خلوها تماما. لكن شيئا ما سقط منها أخيرا. كان صورة لامرأة بالأبيض والأسود ! وفيها تبدو امرأة في مقتبل العمر، جميلة المحيا، فاتنة الملامح. وكانت تبتسم نصف ابتسامة، وظلال وأضواء منبعثة من مجاورة اللونين المتناقضين يلعبان برونق زائد ومحبب في تقاسيم الوجه. وتبدى ذلك أكثر في شعرها السبط المقصوص حد الكتف، والذي ذكره بشعر ديان كيتون في شريط "منهاتن" لوودي ألان. ذكره بها فجأة، لكن كمعطى مباشر لا يحتاج إلى كبير جدال. هكذا مثل أمر منتظر في حقيقة الأشياء. لكن الأغرب هو أنه لم يكن يتصور أن يجد الصورة بالأبيض والأسود، بعد كل الألوان والروائح التي ضمخت ولامست عينيه وأنفه وقلبه وملأت قلبه بالتساؤلات الحنونة الممتعة اللبس. إلا أن المفاجأة الأكبر، والتي كانت بسعة الاندهاش العاتي، هو أن الرجل يعشق اللونين الأبيض والأسود. فكل ممتلكاته وأشيائه تقريبا تحمل اللونين الأبيض والأسود، فقط. كحياته. أثاث الشقة، السيارة، السترات.. هو يجد راحة قصوى وهناء واستقرارا في التموج بين أشكال البياض والسواد. رجل الظل الوحيد كما يحلو له أن يصف نفسه من حين لآخر. الألوان لا تفعل سوى أن تشمل لوني الحياة الأصليين. وها هي هذه المرأة، أو بالأحرى صورتها تحمل لونين اعتادهما منذ زمن كما لو أنها حلت عن سبق قصد وتعمد، وكأن حلولها تأكيد لواقع سابق. هذا فضلا على الأكثر إثارة بعد كل هذا وذاك، أي أنها تشبه الممثلة ديان كيتون التي يعشقها حد الجنون كما تظهر في ذلك الشريط الذي بالأبيض والأسود والذي لا يكف عن معاودة مشاهدته بدون ملل وكلل رغم أنه يحفظ أحداثه عن ظهر قلب. وخاصة المشهد الأكثر روعة في نظره، وهو مشهد الملصق الشهير، حيث تجلس رفقة المخرج الممثل وودي ألان نفسه على جسر بروكلين الشهير Broklyn ذات مساء شفاف الضوء والذي ينعكس من على التشابكات الحديدية العظيمة، ضوء يتراقص في ماء نهر east river، ضوء يلمع في واجهات ناطحات سحاب جزيرة مانهاتن البعيدة التي تبدو نوافذها مثل عيون نائية حانية حاضنة، تماما مثل الأشجار التي تظللهما معا حيث كانا جالسين عاشقين هادئين في لحظة الانتشاء الصامتة. تذكر الرجل المشهد في الحال كما لو كان المنتظر تلك اللحظة. وأسرع نحو خزانة أفلامه، وأعاد مشاهدة الشريط، وتوقف كثيرا عند مشهد الجسر. بعد ذلك صمت. وعاد إلى الصورة وإلى المرأة. وقبع أسفل السرير هادئا للحظة طويلة. واتكأ على حافته، والصورة بين أنامله، ولم يجد تفسيرا لكل ما فعل وكل ما حدث. وتذكر الحقيبة في الماء، وكيف ظهرت له وهو من فوق حاجز الجسر. الصورة في الحقيبة جاءته كما لو كانت رسالة، قال في دخيلة نفسه وهو يريد أن يقتنع بهكذا أمر لأن أمرا شخصيا لا يعرف سواه ارتبط بما يراه أمامه في يده. وشعر بالمرأة التي تشبه ديان كيتون تتلمس سبيلا إلى قلبه، عبر عاطفة جياشة. وفي هذه اللحظة بالذات أحس ببعض الاضطراب يتسلل إليه، وغير قليل من القلق يسكن عينيه. لقد اخترق رأسه سؤال كبير مؤرق. لأنه تيقن بأن لا أحد يمكنه أن يقول إن الصورة في الحقيبة هي للمرأة صاحبة الحقيبة الحمراء. اللهم إلا إذا جرب حظه في معرفة ذلك.. فالتفت إلى الهاتف والأجندة والرسالة... كم من المعلومات.. كيف سأفعل؟ وماذا سأفعل؟ تساءل.. وتساءل طويلا بصمت حتى سقطت رأسه على صدره.. في الأخير، انتفض واقفا وقرر العودة إلى الجسر.