أول عهدي بلقاء المهدي شخصيا كان عام 1951 حين كنت أتابع دراستي في جامعة القرويين، وذلك بمنزل الوطني الغيور السيد محمد مكوار بحي البطحاء كنا مجموعة من الطلبة قد استدعينا لحضور اجتماع نلتقي فيه بشخصية من قيادة حزب الاستقلال لم يكشف لنا عن اسمه إلا بعد أن قدمه أحد مسؤولي فرع الحزب ليتحدث إلينا.. والحقيقة أن ما بقي عالقا في ذهني من كل ما جرى في هذا الاجتماع، هو اختلاف صورة المهدي عن تلك التي كنت أتخيلها عندما أخبرت بأن قائدا من الحزب سيحضر الاجتماع، ذلك أني تخيلته شخصا بدينا طويل على الأقل مثل قادة الحزب المحليين الذين كنت أشاهدهم في بعض المناسبات التي كان ينظمها فرع وجدة... وإذا بي أفاجأ أنني بحضرة شخص لم يكن يتمز عن أصغرنا من حيث البنية علما بأن عمر أكبرنا كان إذاك لا يتجاوز 20 عاما، ولازلت أتذكر أن أحد الحاضرين همس في أذني قائلا: »أهذا هو المهدي بنبركة؟ (...) ما سأرويه لا يشكل سوى حيز محدود زمنا ومكانا وأداء، ولايمثل إلا مقتطفات لاتزال الذاكرة تستحضرها، وإلا فأين هي مما زخرت به حياة المهدي من جليل الأعمال والانجازات وما امتلأت به من حيوية ونضالات. أول عهدي بلقاء المهدي شخصيا كان عام 1951 حين كنت أتابع دراستي في جامعة القرويين، وذلك بمنزل الوطني الغيور السيد محمد مكوار بحي البطحاء كنا مجموعة من الطلبة قد استدعينا لحضور اجتماع نلتقي فيه بشخصية من قيادة حزب الاستقلال لم يكشف لنا عن اسمه إلا بعد أن قدمه أحد مسؤولي فرع الحزب ليتحدث إلينا.. والحقيقة أن ما بقي عالقا في ذهني من كل ما جرى في هذا الاجتماع، هو اختلاف صورة المهدي عن تلك التي كنت أتخيلها عندما أخبرت بأن قائدا من الحزب سيحضر الاجتماع، ذلك أني تخيلته شخصا بدينا طويل على الأقل مثل قادة الحزب المحليين الذين كنت أشاهدهم في بعض المناسبات التي كان ينظمها فرع وجدة... وإذا بي أفاجأ أنني بحضرة شخص لم يكن يتمز عن أصغرنا من حيث البنية علما بأن عمر أكبرنا كان إذاك لا يتجاوز 20 عاما، ولازلت أتذكر أن أحد الحاضرين همس في أذني قائلا: »أهذا هو المهدي بنبركة؟« ولم يدع لن المهدي الفرصة للحوار إذ شرع في الحديث مبتدئا هكذا: »بسم الله الرحم الرحيم« وبعد ذلك، استرسل في حديث ارتجالي بأسلوب شيق وبلغة عربية دراجة، ما ميزها أنها في متناول كل الحضور الذين كانوا منحدرين من مختلف المناطق المغربية على اختلاف لهجاتهم. لم أكن أتجاوز الخامسة عشر عاما وهو العمر الذي استعصى علي فيه استيعاب كل القضايا التي تناولها المتحدث، خاصة وقد رتب حديثه وفق منهجية راعى فيها مستويات الحاضرين العمري والدراسي، فقد ضم الاجتماع طلبة من مختلف المستويات الدراسية، من الابتدائي حتى الأقسام النهائية، مما أملى على المهدي تنويع حديثه وتكييفه ليكون تارة في متناول كبارنا وتارة لأوسطنا، وأخرى لأصغرنا سنا ومستوى، وهكذا قضى معنا وقتا لم أقدر مدته لأني لبثت خلاله مشدودا إلى الرجل استمع إليه بكل جوارحي متمنيا ألا تكون لهذه الجلسة نهاية، وهذا مالاحظته بالنسبة للحاضرين الذين كانوا مثلي مشدودين منصتين إليه وكأن على رؤوسهم الطير... وأذكر أن المهدي تناول في حديثه كثيرا من القضايا ذات الصلة بالحماية الفرنسية للمغرب وبنشاط الوطنيين، وتحركاتهم من أجل فضح ممارسة الفرنسيين المنافية لعقد الحماية داخل المغرب والمحافل الدولية، كما لم يفته التنويه بموقف جامعة الدول العربية في شخص أمينها العام عبد الرحمان عزام باشا الذي كان إسمه يتردد على ألسنة نشطاء الحركة الوطنية في تلك الحقبة. ما أكثر القضايا التي تطرق لها المهدي، ولكن الذي ألح عليه كخلاصة هو حثنا على الدراسة وتحصيل العلم باعتبارنا جيل المستقبل الذي سيساهم في بنا استقلال البلاد. ولازلت أستحضر كم كان مصرا على أن أخطر مواجهة للاستعمار هو تحصيل العلم، وأن أخطر شيء على الوطن أن يستقل والجهل لايزال منتشرا بين أهله.انتهى الاجتماع ونحن أشد توقا ألا ينتهي وأشد اشتياقا للمزيد من حديثه. كان هذا أول لقائي بالمهدي، وهو مجرد حضور في اجتماع عام ولم أتمكن من الاتصال به أو الحديث إليه مباشرة، ومنذ هذا اللقاء لم تتح لي فرصة اللقاء به ومع ذلك كنت من المعجبين به كقائد مناضل حيوي، لما كنت أسمع عن نشاطه وأقرأه عن آرائه وتوجيهاته عبر وسائل الاعلام وخاصة النشرات.. التي كانت توزع علينا في خلايا الحزب والشبيبة الاستقلالية وما أزال أتذكر ما كان يروج في الأوساط الحزبية عن كون المهدي بنبركة هو محرك الحزب أو دينامو الحزب والأشد حرصا على هياكله، وتطعيمه بعنصر الشباب والمتعلمين بهدفي تطوريه وتجديد أساليب عمله، وكنا نحن الشباب إذاك من أكثر المتحمسين لهذا التوجه، ولطالما كنا نتجادل مع بعض الاعضاء في الحزب وخاصة المسيرين الذين كانوا لا يشاطرون المهدي توجهه رغم أنهم من المعجبين بشخصيته، وفي هذا الاطار كان المهدي يراهن على المجتمع الأهلي «المدني» كرافد من روافد العمل الحزبي. أشرت إلى أن معرفتي بشخصية المهدي قبيل الاستقلال وبعيده لم تكن إلا عن طريق السماع والقراءة وأن لقائي به لم يحدث إلا مرة واحدة بفاس عام 1951، وهكذا إلى صيف 1958، حين شاركت في دورة تدريبية للمسرح كانت تنظمها إدارة الشبيبة والرياضة كل سنة لفائدة ممثلي مسرح الهواة، وكنت إذاك رئيسا لفرقة النجم الوجدي للمسرح، مما عرفني بالمسرحي محمد الدغمي الذي كان وقتها منسقا للفرق المسرحية التابعة للشبيبة الاستقلالية. والأمر له صلة بالموضوع، قمت بزيارته في مركز حزب الاستقلال وصادف أن كان المهدي بنبركة على موعد مع مناضلي الحزب لإلقاء محاضرة، حسب ما أذكر كان ذلك مساء يوم من أيام يوليو 1958 كانت القاعة غاصة بالحاضرين وأغلبهم شباب، وما أن قدم المهدي لإلقاء محاضرته حتى وقفنا وأغرقنا القاعة بالتصفيق وترديد شعارات كانت متداولة في ذلك الوقت من مثل: عاش الملك، يحى علال، عاش حزب الاستقلال، ولم يعدنا إلى هدوئنا إلا إشارة صدرت من المهدي بعدها شرع في إلقاء محاضرته مستهلا بالبسملة كعادته (حسب ما أذكر، فما من اجتماع كيفما كان حجمه أو طبيعته أو من حديث أو محاضرة إلا وكانت البسلمة هي ما يبدأ به المهدي) لا أتذكر عنوان المحاضرة ولكن ما علق بذاكرتي هو أنها كانت عن الوضعية العامة بالمغرب.إن الحيز لا يسمح باستعراض المحاور التي تضمنتها المحاضرة... وهي مرتجلة فاستثناء البيانات والبلاغات لم يكن المهدي يعتمد في أحاديثه أو عروضه ومحاضراته على ما هو مكتوب، ومع ذلك وكأنه مكتوب أو أتقن.. وحسب ما وقر في ذهني كانت هذه المحاضرة تشخيصا للحالة التي كانت يجتازها المغرب إذاك بدءا بضعف الأداء الحكومي مرورا بوضعية الحزب وصولا إلى ضرورة تشكيل حكومة منسجمة وبموازاة هذا تحدث عن ضرورة إعادة النظر في وضعية الحزب وإخراجه من الأسلوب التقليدي الذي كان معتمدا إبان عهد الكفاح الوطني وذلك بالاعتماد على عنصر الشباب والمتعلمين بصفة خاصة. ولما انتهت المحاضرة والمناقشة التي أعقبتها تقدم بعض الحاضرين للسلام على المهدي وتهنئته، وكنت من بينهم برفقة الأخ محمد الدغمي الذي قدمني إليه مخبرا إياه بإسمي وبأنني من وجدة وأنني من أعضاء الشبيبة الاستقلالية ورئيس فرقة مسرحية وبسبب وجودي في الرباط، فما كان من المهدي إلا أن ابتسم وربت على كتفي قائلا: »أيها الوجدي لقد آن الأوان لتضيف لنضالك المسرحي نضالا آخر، حيث ستنزل من الخشبة إلى أرض الواقع، إن الشعب في حاجة إلى الاتصال المباشر لخدمته، سيحتاج الحزب إلى نشطين على أرض الواقع، استعد لما هو أهم من الوقوف على الخشبة« وأردت أن أعقب على كلامه لكنه قاطعني قائلا: »أعلم ماذا تريد أن تقول، لهذا أنصحك بالجمع بين العمل في المسرح، والنضال الحزبي« ثم ودعني... استفسرت الأخ محمد الدغمي عن قصد المهدي فأجابني بأن تحولا ما سيحدث في الحزب.. وأضاف ألم تستوعب ما جاء في محاضرته ورده على المناقشين؟ فقلت: لكن ألا يعرف المهدي أن نشاطي في المسرح وفي الشبيبة الاستقلالية هو جزء من النضال الحزبي؟ أجابني: إن المهدي يفهم ذلك، ولكن الحزب يحتاج إلى مساهمة الشباب لأنه قد شاخ يا سي حرفي، أفهمت؟ كان لمحاضرة المهدي تأثير كبير على نفسي لما حوته من أفكار مستجدة وقضايا كانت تشغل الرأي العام ولاسيما الحزب والشباب على الأخص، من جهة، ولطريقة الاقناع التي سلكها المحاضر من جهة أخر، سواء وهو يحاضر أو وهو يجيب على الأسئلة التي لم تكن تخلو من انتقاد أو استفزاز. كانت المدة التي قضيتها بالعاصمة، ثم بعدها بالبيضاء سواء بين الأوساط الحزبية أو النقابية كافية لأخذ فكرة عما تحبل به المرحلة بشأن مصير الحزب، كان إسم المهدي بنبركة يتردد على ألسنة كثير من المناضلين الذين التقيت بهم، يتحدثون عن اللجنة المكلفة بالتحضير لعقد مؤتمر الحزب، وعن أثر المحاضرة التي ألقاها بتطوان يوم 31 يوليو 1958 أي بعد أسبوع من إلقاء محاضرته بالرباط، فقد صار المناضلون الحزبيون لا يتحدثون إلا عن تحركات المهدي وجولاته في مختلف مناطق المغرب بهدف إجراء اصلاحات هيكلية وعضوية على حزب الاستقلال ومنظماته الموازية.. ولعلها المرة الأولى التي تم التحدث جهارة في اجتماعات الحزب عن »مجتمع متفتح« وعن رفض »مجتمع رجعي جامد،« وهذا ما جاء على لسان المهدي في محاضرته بتطوان إذ أشار إلى أنه »يجب أن نقضي في عهد الاستقلال على روح الانعزال التي فرضها علينا الاستعمار في الماضي، وأن نؤمن بضرورة «بناء »مجتمع متطور تقدمي متفتح»« للتيارات المغذية، لا مجتمع رجعي جامد (1) هذا ولأول مرة تطرح على بساط النظر قضايا لم تكن تثار من لدن الحزب إلا باحتشام رغم أنها من شروط الخروج من التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري والتي وأردها المهدي في محاضرته (...). هذا وقد أتيحت لي فرصة عديدة تمكنت خلالها من الوقوف أكثر وعن قرب، على عبقرية المهدي وذكائه وحنكته ومهارته في قيادة العمل الحزبي، رغم ما انتباه من مصاعب لاسيما في ظرفية اتسمت بالمؤامرات والمناورات ونصب الفخاخ والمكائد، كالتي شهدها المغرب منذ تأسيس الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال 25 يناير 1959) وتحولها إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (6 شتنبر 1959) إلى 29 أكتوبر يوم اغتياله. إلى حدود أواخر دجنبر 1958 لم يكن يخطر ببال أحد من المنخرطين في حزب الاستقلال أن الأزمة التي كانت يتخبط فيها سياسيا وتنظيميا ستفضي إلى انقسام رغم فشل لجنة تحضير المؤتمر، إلا أن إسناد رئاسة الحكومة لمولاي عبد الله ابراهيم بلغ بالأزمة إلى مداها، حيث ما أن نصبت حتى تصدى لها الجناح الرجعي بالانتقاد، وبدا واضحا للجناح المؤيد لهذه الحكومة الأمل بإنشاء حزب للدفاع عنها والتصدي لهجومات من نعتوا إذاك بالرجعيين وخصوم التقدم وعملاء الاستعمار... وفي مطلع عام 1959 ألقي المهدي محاضرة بقصر بلدية مدينة وجدة أثارت ضجة في أوساط حزب الاستقلال لما ورد فيها من إشادة بحكومة مولاي عبد الله ابراهيم ونقد شديد للجهات المعارضة لها، وقد استغل بعض الحاضرين ما ورد في حديث المهدي حول أحداث 16 غشت 1953، إذ أشار إلى أن عددا من المناضلين اعتقلوا، وكان بالإمكان أن تستفيد منهم حركة المقاومة وجيش التحرير، ورغم إشارته بأن يوم 16 غشت يعتبر من الأيام المجيدة التي ستبقى مفخرة من مفاخر وجدة والجهة الشرقية بصفة عامة، إلا أن هذا لم يمنع المغرضين من اعتبار مافاه به المهدي إهانة في حق وطنيي مدينة وجدة، وسيتضح فيما بعد أن رأيه هو ما ذهب إليه باحثون في الموضوع، خاصة وأن هذه المدينة وحدها التي قامت بمظاهرة للاحتجاج ضد تنصيب ابن عرفة على عرش البلاد مكان الملك الشرعي محمد الخامس، علاوة على أنها مبادرة محلية لم تقررها اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. ومنذ 25 يناير 1959 تاريخ تأسيس الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية 6 شتنبر من نفس العام، أتيحت لي عدة فرص للقاء بالمهدي سواء في إطار الاجتماعات المركزية أو المحلية التي عقدتها الجامعات المتحدة أو الاتحاد الوطني بعدها. ففي هذا الاطار أصبحت لي علاقة شخصية بالمهدي تمكنت بفضلها من الوقوف على ما يتمتع بل يتفرد به من مزايا فكرية وسلوكية، وما يمتاز به من ثاقب رأي وبعد نظر وسرعة بديهة جعلت منذ قائدا يحسب له حسابه لا في وطنه وحسب، بل وفي خارجه أيضا، كان رجل المهمات دون رغبته في أن تسند إليه مهمة، رجل دولة دون تهافته على تبؤ موقع في الدولة. فليكن من شاء أمينا عاما لحزب أو وزيرا أو رئيس حكومة، أما هو فيكفيه أن يشتغل وينظم ويتفقد ويتابع ما اتخذ من قرار، ويذكر من يحتاج إلى تذكير، كثير الحركة والتنقل حتى ليمكن القول: إذا عرف عن الحسن الأول أنه كان لاينزل عن صهوة جواده، فإن المهدي عرف بأنه لاينزل من سيارته إلا للقاء أو اجتماع... كان متحركا ومحركا، متحركا من اجتماع لآخر، ومن منطقة لأخرى ومحركا للمسؤولين في جميع المستويات وكان فاعلا ومفعلا لا يكتفي بالتنظير، بل يجسد النظرية بالممارسة وبقدر ما كان ساهرا على استمرارية ماهو متحرك، أي الجاهز من تنظيمات حزبية وجمعوية كان يعمل على تفعيل ماهو ساكن أي الدفع إلى إنشاء فروع الحزب والجمعيات الموازية في المناطق التي بها فراغ حزبي أو جمعوي. وقد ساعده على ذلك إلمامه الواسع بمناطق البلاد وبعادات أهلها وعقليتهم ومعرفة الشخصيات النافذة المؤثرة فيهم. وكان رحمه الله مدركا تمام الإدراك وبعد تجربة طويلة في الحقل الحزبي أن أي حزب يعتمد على جماهير عائمة غير مؤطرة مآله التسيب والميوعة ثم الاضمحلال. وإلى جانت هذه الاهتمامات كان حريصا على توسيع نشاط الحزب والعمل الجمعوي ليغطي كل أرجاء البلاد، وكان علاوة على الاعتماد على مسوؤلي الفروع، كثيرا ما يقوم بزيارات تفقدية إلى فروع الحزب إما بطلب من مسؤوليها أو بمبادرة منه ولا فرق لديه بين القريب منها والنائي. كان هذا ديدنه منذ صار مسؤولا قياديا في حزب الاستقلال وحتى في عهد الحماية. من ذلك ما حدثني به أحد الذين رافقوه في زيارة قام بها إلى بلد فجيج عام 1951، حدثني هذا المرافق رحمه الله وهو الذي ساق السيارة التي استعملها للزيارة، قال: »لما وصلنا إلى فجيج فوجئنا بالمهدي يأمره بالتوجه إلى مقر »المراقب« فاستغربنا وسألناه عن السبب فرد: هذا أحسن من أن يصله الخبر عن طريقة أخرى، وبهذا يصبح وجودنا تحت مسؤؤليته... لم يسعني إلا تنفيذ رغبته، وكانت مفاجأتنا أكثر عندما استقبلنا »المراقب«، ذلك أن المهدي قدم له نفسه كصحفي يريد إنجاز عمل صحفي عن البلدة.. وقد مرت الزيارة كما خطط لها المهدي دون أن يلحقنا أي أذى من المراقب وأعوانه« وهذا ما أكده لي المهدي نفسه بعد انتفاضة 25 يناير 1959 . ولما استفسرته عن جلية ما أقدم عليه ابتسم وقال لقد جربت هذه الطريقة في كثير من المناطق ولم اصب بأذى واقصى ما ووجهت به في بعضها هو منعي من البقاء، هذا بالنسبة للمناطق التي يكون فيها المراقبون من غلاة الاستعمار، أو ليس بها من يحتج على منعنا. أما فجيج فكل سكانها كانوا وطنيين، لهذا خشي المراقب من إثارة غضب اهلها فسمح بالزيارة و مرت بسلام.. ولم يفته أن يسألني عن مرافقه السائق وهل لازال حيا وكيف حاله، فأخبرته بأنه بخير ثم رجاني أن يتصل به عند زيارته لمدينة و جدة، وهذا ما لم يحصل، فعندما زار المهدي مدينة وجدة في إطار الحملة الانتخابية البرلمانية لعام 1963 كان هذا المرافق منتسبا لوزارة الداخلية كشيخ بمقاطعة حضرية. ولهذا وتلافيا لكل إحراج او إلحاق أذى به، عدل عن ترتيب الاتصال بينهما. كان الشغل الشاغل للمهدي والذي ظل مهووسا به، هو عنصر التنظيم في العمل الحزبي، هذا ما لمسته ولاحظته عن قرب خاصة بعد انتفاضة 25 يناير 1959. فمنذ هذا التاريخ لم يعرف المناضلون المهدويون أو الانفصاليون كما كان ينعتهم الاستقلاليون لذة الراحة، فعلاوة على أنشطة فروعهم كان عليهم ان يحضروا الاجتماعات الدورية على الصعيد الوطني وما اكثرها، وحسب ما أذكر كانت تعقد مرة كل شهر لا سيما في المرحلة الاولى للتأسيس، هذا اضافة الى اللقاءات المحلية التي كان يحضرها اعضاء من الكتابة العامة الوطنية للاتحاد والتي غالبا ما يكون على رأسهم المهدي بنبركة. زار المهدي مدينة وجدة عدة مرات، إما في نطاق اجتماعات مبرمجة للاطر، و إما للاشراف على مهرجانات شعبية عامة، ومنها المهرجان الذي أقيم بسينما فوكس مباشرة بعد تأسيس فرع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بوجدة، واذ أخص هذا المهرجان بالذكر، فلأن الخطاب الذي ألقاه المهدي، وكذا إجاباته على ما طرح عليه من اسئلة كانت في أغلبها محرجة، ترك أثرا بليغا في نفوس الحاضرين بما تضمنه الخطاب من قضايا ذات الصلة باهتمامات المواطنين آنذاك، وما احتوته الأجوبة من ردود مقنعة وصريحة، وأيضا بطريقته المشوقة، وقدرته على الإقناع والتفنيد والافحام، و مما لازلت أتذكره في هذا السياق، وهو يتناول في حديثه بعض الاتهامات التي كان يروجها خصوم الاتحاد بما معناه... ان خصومنا يتهموننا بأننا نتوفر على السلاح، وهذه ليست إشاعة بل إنها حقيقة، لأننا فعلا نتوفر على السلاح من كل الانواع، وبهذا السلاح سندافع عن أنفسنا وبه سننتصر في معركتنا ضد خصومنا.. وليكن في علم هؤلاء الخصوم انهم مهما حاولوا أو فتشوا أو عذبوا لن يفلحوا في العثور عليه، لأنه سلاح حاربنا به الاستعمار ولازلنا نحتفظ به لحد اليوم. وكان وهو يتناول هذا الجانب يتكلم وبحماس وانفعال حتى ذهبت ببعض الحاضرين الظنون بشأن السلاح المتحدث عنه، ولم يتخلصوا من هذه الظنون الا بعد أن قال: أتعرفون ماهو هذا السلاح؟ ويجيب: إنه انتم أيها الحاضرون، وانه إيمانكم وصمودكم وتضحيتكم.. وما إن فاه بهذه العبارة حتى اهتزت القاعة بالتصفيق والهتاف.. ومما لازلت اذكره أيضا، إجابته على سؤال يتعلق بموقف الاتحاد من الملكية، فقد جاء فيها لقد كافحنا في وقت الاستعمار الى جانب الملك محمد الخامس من أجل الاستقلال، وكافحنا بعد نفيه من أجل إرجاعه من منفاه، وتعاونا معه لاستعادة حريتنا ثم على بناء البلاد ونهضتها، اما اليوم، فان موقفنا ليس من الملكية بحد ذاتها، و إنما من السياسة المتبعة، وها أنتم تلاحظون أننا حاليا نؤيد حكومة الاخ عبد الله ابراهيم، لأنها تطبق كثيرا مما نطمح اليه. وعلى العموم، فإن موقفنا سيكون مؤيدا لكل حكومة شعبية تتبنى برنامجا يحقق للبلاد التقدم والازدهار، وتقوم علي مبادئ العدالة الاجتماعية. وعن سؤال حول الموقف من الاسلام أجاب، ان الاسلام يهدف الى تحقيق العدالة الاجتماعية ونحن أيضا نتبنى هذا الهدف. كان المهدي هو المرجع الذي يلجأ اليه كل من يريد التأكد من هوية التنظيم السياسي الجديد، وسواء في التجمعات العمومية أو في الندوات الصحفية فإن ما يشفي الغليل هو ما يصدر عنه من أجوبة او تصريحات، خاصة عندما كان مولاي عبد الله ابراهيم وعبد الرحيم بوعبيد لايزالان مسؤولين في الحكومة من دجنبر 1958 الى ماي 1960 وحتى بالنسبة للمناضلين الاتحاديين، فان المهدي هو الذي كان يلجأ اليه خاصة في المسائل التنظيمية، وفي حل المشاكل التي كانت تطرأ احيانا وهي من طبيعة العمل الحزبي، اذ كثيرا ما يتنقل من الرباط الى منطقة ما، مهما كان بعدها ليحل ما كان يحدث بها من منازعات او خلافات بين الاعضاء المسؤولين في مكاتب الاقاليم او الفروع. كانت للمهدي وقفات تنم عما يتميز به من ذكاء ونباهة وقدرة على الاقناع، وهي مواصفات قلما اجتمعت في زعيم من زعماء العالم الثالث، والتي بدونها لم يكن ليتوفق في استقطاب عناصر من مختلف الاعمار والتوجهات والخلفيات والقطاعات للانضمام الى انتفاضة 25 يناير 1959 وبعدها للالتفاف حول الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والا فمن بمقدوره الجمع بين قادة من أحزاب كانوا من قبل متنافرين لحد العداء من امثال عبد الهادي بوطالب واحمد بنسودة من حزب الشورى والاستقلال وعبد الله الصنهاجي من الحركة الشعبية، والمحجوب بن الصديق ومحمد البصري من الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، ومن كان باستطاعته أن يوفق بين عناصر من مختلف القناعات التي انضوى ذووها في الاتحاد؟ اذ فيه التقى الوطنيون التقليديون بالشبان الدارسين في الشرق من ذوي الميول الناصرية أو البعثية، وهؤلاء جميعا بالمتخرجين من الكليات الغربية المتأثرين بثقافات منها ما هو فرنكفوني و منها ماهو انجلوفوني او اسباني؟ ثم من له القدرة على خلق اطار التأمت فيه عناصر من مختلف الايديولوجيات؟ الم يتواجد في الاتحاد أشخاص ذوو توجهات اسلامية بآخرين ذوي نزوع ليبيرالي، أو اشتراكي، أو شيوعي؟ الم ينضم اليه افراد تقدميون وآخرون يمينيون؟ وهل خلا الاتحاد في بداية تأسيسه من اشخاص ينتمون الى فئات اجتماعية مختلفة فيها فئة الاثرياء ومتوسطي الحال والكادحين ضحايا الفقر المذقع، دون إغفال احتواء الاتحاد على صنفين من المنتمين، أحدهما اعتاد ممارسة النشاط الحزبي بأسلوبه القديم، والآخر يريد التخلص من هذا الأسلوب، ودعنا مما احتواه من عناصر معتدلة تفضل العمل السياسي السلمي لمواجهة النظام ، يقابلها افراد من قدماء المقاومين والثوريين ممن تكونت لديهم قناعة بسبب تعنت الحكم الفردي ألا سبيل الى اخراج البلاد من وضعها المتردي إلا بالعمل المسلح. وكل هذه معطيات إن أضفنا اليها ما كانت تحيكه الدولة ضد الاتحاد كما اعترف بذلك احمد البخاري في مذكراته، تسببت في مرور الحزب بأزمات كان من شأنها ان تتسبب في وقوع انقسامات لا يستفيد منها الا النظام لولا حنكة المهدي ويقظته. ومن المعروف عن المهدي انه كان يراهن على دعم العمل الحزبي بالعمل الجمعوي كما سبقت الاشارة اليه اعلاه، وانه كان يعمل على استقطاب الشخصيات الوازنة لا سيما ذات المواقع النافذة في اجهزة الدولة، واذكر في هذا الصدد ان هؤلاء المستقطبين كانوا اصنافا، صنف يحتفظ باسمائهم لنفسه، وصنف لا يطلع عليهم الا ذوو مسؤوليات حزبية مركزية أو محليين، وصنف كان يدفعهم الى تحمل مسؤوليات في الاجهزة الحزبية او يكلفون بإنجاز مهام داخل اللجان التقنية للحزب، وهناك صنف كان يكتفي بتكليفهم بدراسات، كل في مجالات تخصصه. وبالاضافة الى المواصفات السالفة، كان المهدي ذا قدرة فائقة علي البت والحسم، خاصة في المواقف الحرجة، أذكر من ذلك نموذجين في مناسبتين حضرتهما بنفسي. ففي عام 1959 انعقد المجلس الوطني الاستشاري وكان من بين القضايا المطروحة البت في مسألة تأميم استيراد السكر والشاي، و كانت أغلبية هذا المجلس تعارض التأميم، فما كان من المهدي وفريقه الا ان اقترح ان يكون التصويت على المشروع علنا حتى ينكشف الرأي العام من هم ضد أو مع التأميم. وأمام هذا الحرج حاز المشروع على الاغلبية. وفي عام 1963 عقدت اللجنة المركزية للاتحاد اجتماعا خصص للتداول بشأن الانتخابات التشريعية الاولى في المغرب، فكما هو معروف فان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قاطع الاستفتاء على أول مشروع للدستور الذي جرى في شهر دجنبر عام 1962 باعتباره دستورا ممنوحا يكرس الحكم الفردي ويفرغ الديمقراطية من محتواها الحقيقي. وكان من الطبيعي ان يكون موقف الاتحاد من الانتخابات التشريعية هو نفس موقفه من الاستفتاء على الدستور خاصة وانه الموقف الذي اقتنع به اغلب المناضلين ان لم يكونوا كلهم، وهو الذي كان المتتبعون يتوقعونه، بل وان الحكم كان يخشاه لعلمه ان عدم مشاركة الاتحاد، وهو اقوى معارضة في البلاد، سيفضح النظام امام المحافل الدولية علاوة على ما سينجم عنه من انعكاسات سلبية في الداخل. لازلت اذكر في هذا السياق ان عبد الرحيم بوعبيد، هو الذي افتتح الاجتماع، وانه قام بعرض تحدث فيه عن الوضعية السياسية بعد الاستفتاء، معرجا على ما اتخذ من قرارات في المجلس الوطني المنعقد مباشرة بعد نتائج الاستفتاء على مشروع الدستور ومذكرا بما ينبغي القيام به من جهد في سبيل احباط مناورات الخصوم الذين سيبذلون قصارى جهودهم لاقصاء الاتحاد من الساحة، وسيعملون بدون هوادة لإخراجه من المنافسة ليتأتى لهم الاستحواذ على مجلس نواب لتمرير قرارات ومشاريع لا يستفيد منها الا خصوم الجماهير الشعبية، دون ان يجدوا معارضة داخل قبة البرلمان كما تطرق فيه للوضع في البلاد خاصة بعد إقرار الدستور، وما طرأ من متغيرات كلها تصب في اتجاه تثبيت دعائم الحكم الفردي، والدفع بالمغرب الى تكريس عوامل التخلف وخدمة المصالح الاجنبية، ثم حذر من ترك البرلمان لهيمنة أحزاب الادارة، ليخلص الى قرار الكتابة العامة القاضي بالمشاركة من أجل اتخاذ البرلمان منبرا من خلاله يمكن فضح سياسة النظام اللاشعبية. ودون التطرق لما حدث في الاجتماع عقب انتهاء عبد الرحيم من عرضه الذي خلص فيه الى اقتراح الكتابة العامة القاضي بالمشاركة.. اكتفى بالاشارة الى أن الاقتراح اثار نقاشا حادا كاد يعصف بالاجتماع لولا تدخل المهدي الذي تناول الكلمة ليوضح بعض النقط التي وردت في عرض بوعبيد بطريقة أكثر دقة وجرأة، مبرزا ما اعتبره آراء صادرة عن عدم استيعاب طبيعة المرحلة وعدم تمثل خلفيات وأبعاد قرار الكتابة العامة التي عمد الى إبرازها باسلوب جعل كل من في القاعة، وكأن على رؤوسهم الطير، وبذكائه، وفطنته وقدرته على الإقناع، وقبل هذا وذاك ثقة المناضلين في وجاهة رأيه، استطاع ان يعيد للقاعة هدوءها فيسأل هل من متدخل؟ الا ان الحاضرين اكتفوا بتبادل النظرات.. وبعد ذلك أعلن عن اختتام الجلسة طالبا من كتاب الاقاليم موافاته في مكتبه ليستلموا الوثائق.. ومباشرة بعد هذا الاجتماع صدر عن الكتابة العامة بلاغ من أشد البلاغات حدة، وأدقها وضوحا لموقف الاتحاد من النظام. و جرت الحملة الانتخابية واعلنت النتائج كما أرادها الحكم، وبعدها غادر المهدي وطنه ثم صدرت في حقه أحكام عدة بالاعدام ويغيب عنه ليبقى في ذاكرة الشعب المغربي قائدا مخلدا، وفي اعتبار علم السياسة رجل دولة وان لم يتقلد مناصب حكومية رسمية. وبعكس ما كان يشاع عن المهدي من شدة وقسوة، كان لبقا ولكن في غير ضعف، وذا لياقة ولكن من دون نفاق، ومتجاوزا ولكن من دون بلوغ المتجاوز عنه حد التسيب. والى جانب هذه الصفات كان يحترم الوطنيين الذين شاطرهم الوطنية إبان الحماية وان اقتضت الظروف بعدها ان يصبحوا من خصومه، ولا سيما رموز الوطنية كعلال الفاسي وعبد العزيز بن ادريس، الذين اكتفى بذكرهما لأنهما معنيان بما سأستشهد به في الموضوع. في استجواب أجراه معه احد الصحفيين بمقر الكتابة العامة للجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وكنت حاضرا بالصدفة عقب انتهاء اجتماع لكتاب الاقاليم، كان المقر لازال بشارع محمد الخامس فوق مقهى فرنسابالبيضاء. ومن جملة الاسئلة التي اذكرها سؤال عن موقف علال الفاسي من انتفاضة 25 يناير، والذي أجاب عليه بقولة السي علال الفاسي استاذنا وزعيم الحركة الوطنية لكن له الاحترام والتقدير، ولازال لم يتخذ موقفا، وكل ما اتمناه هو ان يلتحق بنا وسنكون سعداء بذلك. وفي اجتماع آخر تلفظ أحد الحاضرين بأوصاف غير لائقة في حق علال الفاسي، فما كان من المهدي الا ان وقف وضرب الطاولة بقبضة يده وصرخ حسن ألفاظك فلسنا في السوق، فنحن إن اختلفنا مع علال أو غيره لا يليق بنا نعتهم بألفاظ سوقية ولم يهدئ من حدة غضبه الا تدخل محمد البصري الذي عقب على الواقعة بعبارات أكدت ما جاء على لسان المهدي، وفي نفس الوقت خففت من انزعاج المتدخل. أما فيما يتعلق بعبد العزيز بن ادريس فأذكر انني حضرت اجتماعا لكتاب الاقاليم، وخلاله دخل أحد الاشخاص الى قاعة الاجتماع و همس في اذن المهدي بما لم نعرف فحواه إلا بعد ان وقف وعلى وجهه علامة تأثر، وأخبرنا أن عبد العزيز بن ادريس قد قتل في تحناوت وطلب منا الوقوف دقيقة صمت، ثم عبر عن أسفه لما وقع وكما تمنى ان تكون مجرد حادثة طارئة غير مقصودة. هذه نبذة من سيرة المهدي العملية و هي غيض من فيض، فهي نبذة أريد لها ان تقتصر على حيز محدود في الزمان والمكان والاعتماد على ما عاينه كاتبها ولايزال عالقا في ذاكرته، ولغيره من المناضلين الذين عاشوا نفس التجربة مع المهدي الا يبخلوا بما لايزالون يحتفظون به لهذا الرجل العظيم من جليل الاعمال والافكار، حتى تتمكن اجيال مابعد عصر المهدي من تكوين صورة حقيقية عن شخصية المهدي بما لها وما عليها. وفي هذا الاطر اسوق زيادة على ماسبق بعض ارائه المدونة، وهي مقتطفات قليلة بالمقارنة إذا قيست بما ساهم به من افكار ونظريات أدلى بها مرتجلة لم تسجل سبب إكراهات يعود بعضها لعدم توفر وسائل التسجيل، وبعضها لغياب الوعي بأهمية التوثيق لدى المسؤولين الحزبيين والنقابيين على السواء، لا سيما في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ومن حسط الحظ انني أحتفظ بمطبوعين نشرتهما المطبعة الاقتصادية بالرباط في اواخر عام 1958، وقد خصص أحدهما لمحاضرة كان المهدي قد القها بالمسرح البلدي في البيضاء بتاريخ 19 ماي 1957 تحت عنوان مسؤولياتنا. أما الاخر فقد خصص لمحاضرة كان قد ألقاها بتطوان يوم 31 يويلوز 1958 عنوانها نحو بناء مجتمع جديد. ولمن فاته الحصول على المطبوعين الرجوع لسلسلة مواقف التي يصدرها محمد العابد الجابري العدد السادس ص 47 و 72 وباعتبار المطبوعين هما المصدر، اقتبس منهما بعض الفقرات مما جاء في كلتا المحاضرتين المشار اليهما بتصرف. اولا محاضرة مسوولياتنا: من هذه المحاضرة اقتطف الفقرات التالية، وقد تحدث فيها عن ميراثين ثقيلين تركهما الاستعمار وعلينا اليوم ان نعمل جاهدين لازالتهما، واستئصال جذورهما.. ولكن الى جانب هذا توجد مخلفات اخرى أعمق وأقوى وهي التي تسببت في استعمار بلادنا، ويجب ان تعلموا ان هذه المخالفات الخطيرة لاتزال موجودة الى اليوم، ومن أجلها كنا ننتقد الاستعمار ونحاربه، ومن هذه المخلفات حسب رأيه تأخر الجمهور اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، وانحطاط المستوى العام عندنا، لان التقدم الذي عبر العالم.. لازال لم يشملنا بعد، ولم يتوغل بين أظهرنا، فنحن اذن متخلفون عن الركب ومن واجبنا - في نفس الوقت الذي نعمل لمحو مخلفات الاستعمار - ان نجاهد ونعمل ونكافح بقوة وعمق لمحو مخلفات قرنين من السبات والنوم العميق، وفي اعتقاده لا تكفي معرفة هذه المخلفات بل لابد من الشعور بالمسؤولية. وأعاد الى الاذهان ان هذا الشعور هو الذي دفعنا لتأسيس الحركة الوطنية وتنظيمها منذ ثلاثين سنة، هو الذي دفع المخلصين للتضحية بالمراتب والمال والجاه وسلوك الطريق الوعر، طريق الكفاح والسجن والنفي، والدفاع عن الوطن والمقاومة بالسلاح وغيره، اما اليوم فان عدم الشعور بالمسؤولية هو الذي نحسه يهددنا و يجعل استقلالنا عرضة للخطر بعد التضحيات التي بذلناها في سبيله وكأنه يعيد الى الاذهان ما جاء على لسان المغفور له جلالة الملك محمد الخامس لقد خرجنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر ولكن من سيتولى قيادة هذا الجهاد او هذه المعركة سيقودها الرجال الذين اكتسبوا ثقة الشعب والذين هم من الشعب واليه، لا يتملقون عواطفه بزخرف القول، ومعسول الكلام، ولا ينهجون به سبل التغرير والتضليل، بل يصارحونه بمر الحقائق، وقد يغضبونه بما يفرضون عليه من نهج وعر، ومسلك صعب، لانهم لا يريدون ان يضللوه ويخدعوه، ولانهم يسيرون به وسط الاشواك، وهؤلاء في اعتقاده لن يكونوا ابدا من خونة الامس ولا من اذناب الاستعمار، انهم يخرجون من صفوف هؤلاء المجاهدين الذين صهرهم الكفاح، و الذين ربما لايزالون ثوريين مبتدئين، ولكن يجب ان ينقلبوا الى ثوريين حقيقيين. فهم الذين سيقلبون الاوضاع الفاسدة التي يوجد عليها المغرب. وبعد ذلك يتساءل كيف يمكن اذن ان نبدأ هاته الحالة المزرية، ونقلب الاوضاع الفاسدة ونزيح هذا الغشاء الثقيل، ونفرقع هاته القشرة التي تغلقنا وتحجبنا عن العالم؟ أما طريق الوصول الى ذلك فيقول عنه بالثورة ايها الاخوان، ثورة في الاقتصاد، ثورة في التفكير، ثورة في العمل، وفي كل ميادين الحياة وعمن يقود هذه الثورة يجيب ولن يقود هذه الثورة الا الثوريون الحقيقيون، قلبا وقالبا، روحا ومعنى، فعلا وقولا، لا تزويرا وتضليلا وتغريرا. واذا كان هؤلاء الثوريون هم المؤهلون لقيادة الشعب اي تسييره، فماهي في نظر المهدي المواصفات التي ينبغي ان تتوفر فيهم، يجيب عن هذا السؤال بقوله: هناك خصال لا يمكن ان تكتسب، ولابد منها لكي يكون الشخص مسيرا، وهي ترجع الى الاستعداد الفكري والى الميل الطبيعي الذي يجعل في الرحل والمرأة أهلية للتسيير، وذلك هو الاخلاص والتفاني في المصالح الوطنية وتقديمها على المصالح الشخصية - التي وان كنا لاننكر وجودها - يجب ان تحتل دائما المرتبة الثانية في نفس المسير. ومن أهم المؤهلات الطبيعية في نظر المهدي هو ما عبر عنه بمحبة الشخص لمن يريد ان يسيرهم بدون تصنع ولا مواربة و لا ترفع، ثم يخلص الى أن أول ما يشترط في المسير إضافة الى ما سبق هو محاربة الانانية. وإذا كانت المؤسسات التعليمية تزود الناس بالمعارف، فإن المهدي يرى أن أحسن مدرسة للمسيرين لهي مدرسة الكفاح والعمل، اذ فيها ينمي المسير شخصيته، ويصلح نفسه، ويقوي ملكته وتجربته. ثانيا محاضرة نحو بناء مجتمع جديد: أشار المهدي الى مفارقتين عرفهما المغرب احداهما وردت في المحاضرة الاولى حين قال: اقام اجدادنا الاسوار والمعاقل والحصون لرد الهجمات. الأجنبية، حالت تلك الأسوار والحصون نفسها دون تسرب نسمات العلم الجديد ونفحات التطور التي كانت بلادنا في أمس الحاجة إليها«. والثانية في المحاضرة الأخرى إذ قال: «عندما اقتحم علينا الاستعمار ستارنا الكثيف أحدث في نفوسنا وأفكارنا هزة عنيفة جعلتنا نستيقظ تدريجيا من سباتنا، ونخرج من عزلتنا، وندرك بأنه يوجد عالم واسع غير العالم الضيق الذي كنا نعيش فيه متخلفين عن الركب، وأنه توجد علوم وفنون أرقى من علومنا وفنوننا، وأفكار نيرة نفضت عنها كل جمود وتعصب، وإسلام حقيقي أكثر نصاعة وسلفية من الإسلام الذي اتبعناه محاطا بطبقة من القشور والخرافات وعبادة الأصنام». لم يكن المهدي يقصد من هاتين المفارقتين سوى أخذ العبرة من التاريخ، وهذا ما يتضح من تساؤله التالي »هل سنعود - كأجدادنا - إلى الاعتزاز بمجتمعنا وننظر مثلهم الى العالم نظرة احتقار، هل سنرضى بالحياة في مجتمعنا الحالي كل الرضى وننزهه عن كل العيوب؟ أم سنشمر على ساعد الجد لنقوم ببناء مجتمع جديد؟». من الأمور التي كرستها ا لحركة الوطنية التفاف الوطنيين حول شخصيات مرموقة إما ذات نفوذ سلطوي كالملك أو مكانة وطنية كالزعيم، أو دينية كالعالم، وما إن استعاد المغرب استقلاله حى تحول هؤلاء الى شبه أصنام يتعلق بهم المواطنون أكثر من تعلقهم بالمبادئ والأهداف التي أنشئت من أجلها الحركة الوطنية، وهذا ما شكل أهم العقبات في تطوير مبادئ وأهداف هذه الحركة وتحديث أساليب عملها، مما أفضى الى جمودها وعزوف الفعالية الحية عن الانتماء إليها ففقدت مصداقيتها، بالرغم من محاولة بعض القادة من التقدميين بث روح جديدة وإدخال إصلاحات هيكلية وجلب عنصر الشباب الى صفوفها، وكان في مقدمتهم المهدي وعبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد، على أن أبرزهم مبادرة وأكثرهم جرأة هو المهدي، ولعل ما جاء في محاضرته الثانية خير دليل على ما كان يبذله من جهد في سبيل علاج الظاهرة المذكورة أعلاه، ظاهرة تقديس الزعماء والمتنفذين، فقد تضمنت إحدى فقراتها ما يلي: «وهناك ظاهرة أخرى من تأخر مجتمعنا، وهي عبادة الأصنام (أي الأشخاص) وهذه العبادة ناتجة عن الأفق الضيق الذي كان يحصر التفكير المغربي، فقد بلغ إعجاب المغارب ببطولة المجاهدين ضد الغزاة الأجانب من إسبان وبرتغاليين وإنجليز درجة كبرى، حتى أصبح هؤلاء الأشخاص - بعد وفاتهم - محل عبادة وتقديس». وهكذا خلص المحاضر إلى القول: «إذا كانت هذه الظاهرة التي رأيناها في مجتمعنا القديم فإنها لم تنعدم تمام في مجتمعنا الحاضر، بل لاتزال أكثرها قائمة، لأن الاستعمار جعل من بلادنا متحفا و عمل بكل قواه على المحافظة على كل ما وجده من أهواء ومظاهر بالية». وأوضح أيضا أن «هذه الظاهرات الاجتماعية الفاسدة التي عامل الاستعمار على إبقائها في مجتمعنا تبرهن على أن مجتمعنا الحالي مجتمع فاسد وأنه في حاجة الى إصلاح» ولما كانت الظروف لا تسمح بالنقد الصريح فإن المهدي في هذه المحاضرة التجأ الى أسلوب التلميح، من باب «إياك أعني واسمعني يا جارة» كما يقال، إلا أن هذا التلميح لم تعقبه إلا سطور معدودة ليتحول الى توضيح حيث قال «لقد حصلنا على الاستقلال لا لتصبح وطنيتنا وطنية تصفيات وهتافات، بل من أجل بناء مجتمع جديد ولنضع للمواطنين الصورة المرجوة لمغرب الغد، ونحدد المراحل التي سيتم فيها بناء مجتمعنا الجديد ليعرف جميع المواطنين أهداف ما بعد الاستقلال، ويعملوا لتحقيق هذه الأهداف» فما هي الأهداف التي حددها المهدي في محاضرته من أكثر منذ خمسين سنة، وهي خلاصة لنفس الأهداف التي لاتزال تسعى لتحقيقها الأحزاب الديموقراطية المنبثقة عن الحركة الوطنية، إنها تحقيق الرفاهية والعدالة والمعرفة لجميع المواطنين، وتحقيق الازدهار الاقتصادي والفكري والاجتماعي في جميع أنحاء البلادليتمتع جميع المواطنين بخيرات بلادهم بعدما ضحوا جميعا من أجل تحقيق هذا الازدهار. لكن من يتولى إنجاز هذه المهام في تصور المحاضر؟ إنها القيادة القوية الحكيمة المخلصة سواء في الحكومة أو في المنظمات الشعبية من مواطنين حنكتهم التجربة أيام المنحنة الوطنية، وأثبتت السنوات كفاءتهم ومقدرتهم على مواصلة السير نحو الأهداف التي تتطلب مصلحة البلاد العليا تحقيقها. وقد اشترط في هذه القيادة الحكومية أن تكون حكومة مسؤولة قوية في جميع مرافقها، قوية بعمالها وبجيشها وشرطتها ومحاكمها، قادرة على تسيير شؤون البلاد تسييرا حازما منسقا دقيقا، وعلى فرض احترام سلطتها على جميع المواطنين بحزمها وإخلاصها ونزاهتها وعملها الجدي المتواصل. أليس هذا ما تطالب الأحزاب الديموقراطية والجمعيات والمنظمات الحقوقية بتكريسه في الدستور حالياة؟ أشرت في موضوع سابق إلى أن المهدي رهن إنشاء المجتمع الجديد بتوافر ثلاثة شروط: قيادة قوية مخلصة، تصميم مدروس للقضاء على التخلف، مشاركة الشعب بواسطة المؤسسات الديموقراطية، وهذه في نظره «تكون سلسلة متماسكة الحلقات، وكما يشترط الماركسيون وجود حزب ثوري لتطبيق النظرية الثورية - لا نظرية ثورية بدون حزب ثوري - وكما يرى الديموقراطيون - أن لا ديموقراطية بدون وجود أحزاب ديموقراطية - كان المهدي يري ألا بناء لمجتمع جديد بدون توفر الثلاثة شروط المذكورة، وأن هذه »تتطلب« خلق وعي يؤدي إلى جعل طبقة هامة من الأمة تشعر بهذه الحاجيات، وبضرورة تحقيق الأهداف، وهذا حسب رأيه لا يتحقق إلا بوجود أداة فعالة لخلق الوعي في الشعب.. وفي تصوره إذاك فإن الأداة الجديدة يمكن أن تكون نفس أداة الأمس، ولكن مع تغيير وسائل العمل، لأن معركة اليوم غير معركة الأس. وليضع مستمعيه، و أغلبهم من مسيري حزب الاستقلال، أكد على أن هذه الأداة لن تكون صالحة إلا بعد إحداث تحويل فيها، لأن حزب الاستقلال الذي صنع الأبطال والمكافحين لخوض معركة ضد الاستعمار، يجب أن يصنع الأبطال والمكافحين لخوض المعركة من أجل بناء مجتمع جديد، و كان ما قصد إيصاله للمسيرين، أكثر وضوحا عندما قال: وهذا الدافع يجعلنا نشعر بضرورة إحداث انقلاب داخل حزبنا، لنجعله قادرا على القيام بمهمته الجديد. ولتوضيح فكرته أكثر أضاف ينبغي أن يتكون لدى جميع العاملين الشعور بالحاجة إلى الانقلاب داخل الحزب، لأن هذا الشعور سيجعلنا ندرك بأننا في طريق تحقيق هذا الانقلاب. وقد اغتنم المهدي الفرصة لتفنيد الشائعات التي كانت تروج في تلك المرحلة بشأن إحداث انشقاق في صفوف حزب الاستقلال يتزعمه التيار التقدمي بقيادة المهدي وقادة الاتحاد المغربي للشغل والمقاومة يساندهم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، حيث قال: إن الواجب يفرض علينا أن نعمل لتكوين أداة جديدة تعد أبطال معركة بناء مجتمع جديد، وهذه الأداة هي حزب الاستقلال بعدما يتجدد في تفكيره وأسلوبه وبرنامجه، وأن الشرط الأساسي لتحقيق هذا الانقلاب لهو ضرورة العمل بنفس الروح الثورية التي كانت تملأ نفوس جميع المكافحين المخلصين أثناء معركتنا ضد الاستعمار...» وهكذا يتجلى من محاور هاتين المحاضرتين أن المهدي كان بصدد الإعداد لتحديث حزب الاستقلال وجعله الأداة المؤهلة لتحقيق الشروط الثلاثة المشار إليها للخروج بالبلاد من المجتمع التقليدي القديم الى المجتمع الجديد. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تطورت الخلافات واشتدت الأزمة وتمخضت هذه وتلك عن ميلاد تنظيم جديد هو الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال المعبر عنها بانتفاضة 25 يناير 1959 على عكس «وجهة نظر المهدي التي كان يؤمن بها، وهي أن الانقلاب يجب أن يحصل داخل حزب الاستقلال وليس خارجه وأن «الأداة المطلوبة هي حزب الاستقلال نفسه بعد أن يتجدد ولعل تسمية انتفاضة هي ما واءم بين وجهة نظر المهدي ووجهة نظر من فضلوا الانفصال عن حزب الاستقلال. وهذا ما أكده الصديق محمد عابر الجابري حيث قال: «حكى لي من كان على علم بالمسألة منذ بدايتها، أن اجتماعا جمع في تمارة بين المهدي والمحجوب وعبد الله ابراهيم، أثناء الصراع بين اللجنة التنفيذية، وبين النقابة والمقاومة داخل حزب الاستقلال، وأن موضوع الاجتماع كان مناقشة الخطة التي يجب سلوكها إزاء موقف اللجنة التنفيذية في موضوع أزمة المؤتمر في الحزب، ويبدو أن كلا من المحجوب وعبد الله ابراهيم كانا لا يريان غير »الانفصال« سبيلا، بينما كان المهدي غير مقتنع بذلك، مع أن فكره وعواطفه مع التيار الجديد في الحزب، تيار المقاومين والنقابين، كان يحاول الإبقاء على الحزب كما هو، والعمل على انتقال القيادة فيه إلى التيار الجديد بدون انشقاق أو انفصال أو تأسيس حزب جديد، ولكن الذي حدث هو ما انتزع من عيني القائد الصلب أدمعا حرى لم تذرفانها حتى في المحن التي ذاق من مرارتها وما أكثرها وأفساها! ومع ذلك وبدون مبالغة أصبح المهدي بعد الانفصال القائد المحرك تنظيما وتوجيها وتأثيرا، لدرجة أن اسمي الجامعات المتحدة والاتحاد الوطني ظلا مقترنين باسم المهدي، أو لم يكن أتباعهما ينعتون من لدن خصومهم ب «المهدويين»؟ ثم ألم تكن الصحف الأجنبية تتحدث عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على أنه حزب المهدي بن بركة كوسيلة للتعريف بهذا الحزب حى أصبحت سمعته في الخارج هي المرجعية؟ بلى، وهذا ما أكده محمد عابد الجابري فيما كتب عن المرحوم... وأعود الى اهتمام المهدي بالتننظيم لأضيف أن حرصه على تقوية الأداة الحزبية بعد نشأة الاتحاد ليس بأقل من حرصه على ذلك قبلها. خاصة وأن الفترة ما بعد تأسيس الاتحاد تختلف في كثير من المجالات على ما قبلها، خاصة في مجال علاقة الحزب بالنظام، وفي مجال الحريات العامة، وللتدقيق أذكر أن المرحلة الأولى تمتد ما بين 18 نونبر 1955 إلى ماي 1960، بينما الثانية تقع بين هذا التاريخ وماي 1962، اتسمت الأولى بعلاقة تعاون بين الحركة الوطنية وحزب الاستقلال خاصة مع جلالة المغفور له محمد الخامس، مما سمح بتوفر جو من الحرية أتاح للأحزاب أن تنشط بكل حرية. هذا من جهة ولكون المرحلة كانت تتطلب وجود أداة للسهر على عملية بناء مجتمع جديد من جهة أخرى. أما الثانية فعلى العكس كانت تتطلب أداة حزبية لتعبئة المواطنين ضد الحكم الذي تحول الى نظام فردي استبدادي خانق للحريات العامة، وقامع لكل معارضة لسياسته اللاشعبية. ولم تنتظر القيادة الاتحادية طويلا لتهتم بشؤون التنظيم، بل ما إن برزت الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال للوجود، حتى بادرت وتحت اشراف المهدي بصفته المكلف بالتنظيم، إلى تنظيم دورات للتكوين بمركز الشبيبة والرياضة الموجود في غابة معمورة، لازلت أذكر أن شبانا من فرع وجدة شاركوا في إحدى هذه الدورات. وما كان لهذه الدورات التدريبية أن تستمر في جو سياسي مكفهر، إذ عرفت الفترة ما بعد وفاة المرحوم جلالة الملك محمد الخامس هجمة شرسة، واعتقالات تعسفية طالت كثيرا من أطر الاتحاد، كان من شأنها إحداث اختلالات في التنظيم وصعوبة في تحرك المناضلين وتنقلهم مما نجم عنه جمود أجهزة الحزب في كثير من المناطق فتعذر استقرار التنظيم. وبرغم هذه العراقيل التي أثرت في الجانب التنظيمي للاتحاد، فإن المهدي أصر على ضرورة الاهتمام به وإعطائه الأولوية لدرجة أنه اقترح أن يكون من المحاور الرئيسية في جدول أشغال المؤتمر الثاني للاتحاد الذي انعقد في شهر ماي 1962. وقد أعد تقريرا في الموضوع كان ينوي تقديمه أمام المؤتمرين، وهو عبارة عن نص وصفه محمد عابد الجابري بأنه »أهم ما كتبه المهدي خلال المرحلة الأولى من غيبته التي تقع ما بين شتنبر 1959 وماي 1962... وهو التقرير الذي كنا نسميه في ذلك الوقت ب «النقد الذاتي» والذي اشتهر فيما بعد ب «الاختيار الثوري»... وتتميما لما تناولته بشأن حرص المهدي على ما أسماه الأداة الضرورية لتحقيق الشروط الثلاثة آنفة الذكر، اقتبس فقرات من الاختيار الثوري، ولكن هذه المرة لأبين الى أي مدى يربط التنظيم بالتكوين الإيديولوجي، مما يعتبر إضافة نوعية كانت غائبة في حقل التنظيم الحزبي، فحسب ما أشار إليه محمد عابد الجابري «فإن مسألة الأداة» لا تخص حل مشكل العلاقة بين الحزب والنقابة وحسب، بل هي أيضا مسألة التكوين الإيديولوجي للمناضلين، وتحديد العلاقة مع كافة المنظمات الجماهيرية.. وقد ركز تقرير المهدي على «ضرورة تكوين المناضلين الاتحاديين تكوينا إيديولوجيا يقوم على أساس دراسة القوانين العلمية لتطور المجتمع، و قد أثرتها تجارب الثورات الاشتراكية والتحررية ضد الاستعمار، كما يجب أن تمتد جذوره الى أعماق ثقافتنا العربية الإسلامية وأن يستمد قوته من تراثنا الوطني الزاخر بالقيم التقدمية والإنسانية إلا أن جانب التنظيم يبقى بالنسبة للمهدي هو الأساس الذي تتوقف عليه كل مهام الحزب إذ يقول «يتبين من جميع ما تقدم أن المهمة الرئيسية التي تتوقف عليها سائر المهام هي تقوية الحزب في ميدان التنظيم وفي تكوين إطاراته ومناضليه تكوينا إيديولوجيا متينا لكي يصبح الحزب في مستوى أهدافه الثورية». انتهت أشغال المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية دون أن يذكر فيه شيء من تقرير المهدي، ومن غير أن يعرف أو يسمع أغلب المؤتمرين شيئا عن هذا التقرير، ذلك أنه ظل سرا لم يطلع عليه سوى أعضاء الكتابة العامة بعض المقربين منهم، ومع ذلك وعلي عكس ما أشار إليه محمد عابد الجابري في سلسلة «مواقف» عدد 7 ص 12، حيث ذكر أن المهدي لم يعد إلا يوم 15 ماي 1962 ليحضر المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني الذي حضره «غريبا» مهمشا، رغم المظاهر، فقد حجب التقرير النقدي الذي أرسله ليكون من بين وثائق المؤتمر.. وأيضا حجب هو نفسه، أعني دوره كزعيم الاتحاد، فالأمر ليس كذلك لأن المهدي وإن لم يشرف على تحضير المؤتمر مباشرة، لأن عودته للمغرب لم تتم إلا قبيل انعقاده بأيام، إلا أن مساهمته كانت حاضرة، وهذا ما كان يطعلنا عليه أعضاء من الكتابة العامة وبعض المسؤولين المركزيين للاتحاد. فهو الذي افتتح أشغال المؤتمر وقدم الشيخ مولاي العربي العلوي رحمه الله كرئيس للمؤتمر وقدم مولاي عبد الله إبراهيم لإلقاء التقرير المذهبي وعبد الرحيم بوعبيد لإلقاء التقرير التنظيمي، علاوة على توليه الرد على مداخلات بعض المؤتمرين، ولاسيما تلك التي انصبت على الجانب التنظيمي، ومن النقط التي ركز عليها كخلاصة لإجاباته حول التنظيم، تذكير المؤتمرين بما جاء بشأنه في التقرير الذي ألقاه عبد الرحيم بوعبيد، حيث أعاد قراءة الفقرة التالية: لقد كانت الضرورة تقتضي وضع تنظيمات على الصعيد المحلي والإقليمي والوطني بشكل يضمن الديموقراطية واللامركزية والتسيير الجامعي والتخلص من البيرقراطية والقضاء على الرواسب الحزبية العفنة، ووضع تشكيلات وتنظيمات من هذا النوع، وعلى صعيد المغرب كله يتطلب مجهودات كبيرة، وعددا من الإطارات المقتدرة والمخلصة المحنكة وهذا لا يتيسر بسهولة وقد خصص جزءا مهما من الوقت في توضيح ما يتعلق بالديمقواطية في إدارة الحزب، واللمركزية والتسيير الجماعي والتخلص من البيروقراطية، والرواسب الحزبية التي لم تكن أطر اتحادي - جهويا ومركريا - قد تخلصت منها لحد ذلك الوقت، خاصة من تربوا في أحضان الحركة الوطنية. والى جانب هذا كان المهدي طيلة أيام المؤتمر - الذي دامت أشغاله ثلاثة أيام - هو المشرف على لجان المؤتمر يرجع إليه كلما اقتضى الأمر ذلك، ولازلت أذكر في هذا السياق أن لجنتين كانتا تشغلانه وهما: لجنة التنظيم، ولجنة الترشيحات لما تشكل الأولى من أهمية في توضيب هيكلة الحزب وتحصينها ضد التسيب والاختراق، ولما تشكله الثانية من صعوبة بخصوص التمثيلية في الأجهزة الوطنية، وذلك راجع الى كون النزعة الفئوية والقطاعية والجهوية لم تكن قد اختفت بعد في العمل الحزبي وغيره «وللحقيقة أقول لولا دور المهدي وفطنته وصبره لانفرط عقد المؤتمر قبل اختتامه أو في أحسن الأحوال لأعلنت انسحابات كانت قد خططت لها عناصر مندسة في جسم الاتحاد.،.. شعرت بذلك عندما أقنع المهدي بعض الإخوان وأنا منهم بألا «يغضبوا» إن لاحظوا تساهلا أو تنازلا إذا اقتضى الأمر ترشيح بعض الأشخاص على حسابهم.. ولما كنت أعلم شخصيا أن مبادرات المهدي وإدارته للأزمات لن تكون إلا سليمة ولصالح الاتحاد، لم أعارض وكذلك فعل آخرون... لكن تبين فيما بعد أن أغلب العناصر التي تشكلت منها أجهزة الحزب لم تلبث أن اختفت عن المشهد الحزبي بمن فيهم بعض الأعضاء من الكتابة العامة، مما فرض على من استمروا فيها الاعتماد على كتاب الأقاليم والذين لم يكن أغلبهم سوى أعضاء في المجلس الوطني بحكم النظام الداخلي للاتحاد.. وبعد المؤتمر الذي حقق نجاحا كبيرا في جانبه السياسي، أصبح انشغال المهدي منصبا على تطبيق مقرراته، خاصة ما يتعلق بالتنظيم، والتكوين السياسي. فإلى جانب تكثيف اجتماعات مسؤولي الأقاليم، وتنقلات من بقي من أعضاء الكتابة العامة واللجنتين الإدارية و المركزية، اهتم المهدي بالجانب الإعلامي الحزبي، تجلى ذلك في إصدار نشريات حزبية بعنوان النشرة الداخلية، أذكر منها العدد رقم 2 لأبين مدى اهتمام المهدي بالتنظيم جاء في هذا العدد ما يلي: تدهور الحكم الإقطاعي بالمغرب، إفلاس وتدجيل في الداخل، سيطرة الاستعمار الجديد، عزلة وافتضاح في الخارج: واجب المناضلين أمام هذه الأوضاع التنظيم قبل كل شيء. وأما (ص9) فقد جاء بها: واجبنا أمام هذا التدهور، التنظيم والمزيد من التوعية وتحت هذا العنوان ما يلي: يتبين من هذا التحليل المختصر للظروف التي تعيشها بلادنا اليوم أن تجربة السنتين الأخيرتين أدت الى إفلاس وتدجيل في الداخل وسيطرة الاستعمار الجديد، وعزلة وافتضاح في الخارج، وأن على الجماهير الشعبية المنظمة أن تنقذ المغرب من الخطر الذي أوقعه فيه نظام الاقطاع المطلق، كما أنقذته سنة 1952 عندما تمكن المستعمرون من تنفيذ مؤامرتهم ضد الشعب والسيادة المغربية وعجزت القيادة السياسية عن تحمل مسؤولياتها، وها هي اليوم مسؤوليات مماثلة تواجه الشعب المغربي مع فارق أساسي بين 1952 و1962 وهي أننا اليوم بفضل وجود الاتحاد الوطني للقوات لشعبية ، وبفضل الخطة الواضحة التي رسمها مؤتمرنا الثاني نستطيع أن نوضح الطريق التي يجب سلوكها، وأن نحدد الأهداف التي يتعين الوصول اليها. ولا يتأتي هذا العمل الجبار إلا بالتنظيم المحكم الذي يجند هذه الجماهير، والتعريف بحقيقة الداء والدواء. ويتوقف الأمر كذلك على مثابرة السعي ليل نهار للمزيد من توعية الجماهير في خلاياها المتصلة الحلقات في المقاطعات والفروع ولاأقاليم، ولجعلها قادرة على العمل المتواصل الهادف الخلاق، وهذا التنظيم هو الواجب الأول الذي يتعين المبادرة به حى تتحدد مسؤوليات المناضلين، ويعرف كل واحد مهمته ويباشرها بحزم واستمرار في جو الحماس والامتثال الذي يخلقه الإيمان المشترك بالنصر المحقق «السعي أو العمل ليل نهار لتنظيم الجماهير» هو الشعار الذي أصبح يستحضره المناضلون المضطلعون بالمسؤوليات في مختلف المواقع الحزبية، وللحقيقة أذكر أنه بالرغم من غياب كثير من القياديين سواء منهم من انبثق عنهم المؤتمر التأسيس للاتحاد المنعقد بتاريخ سادس شتنبر 1959 بسينما الكواكب في شارع الفداء بالبيضاء أو الذين تمخض عنهم المؤتمر الثاني المنعقد أيام 27-26-25 ماي 192 بالمعرض الدولي في نفس المدينة، أقول رغم ذلك لم يتوقف المهدي، ومن بقي معه في الأجهزة المركزية على قلتهم، عن بذل الجهد في تطبيق مقررات المؤتمر الثاني سواء المقررات التنظيمية أو السياسية أو الإعلامية، وبدون الدخول في التفاصيل أكتفي بالإشارة الى أن الاتحاد الوطني للقوات لاشعبية خاض في عام واحد معركتين من أشد المعارك حدة ضد سياسة النظام، إحداهما بمناسبة الاستفتاء على الدستور (7 دجنبر 1962) والثانية بمناسبة الانتخابات التشريعية (ماي 1963) ورغم أن الوقت الفاصل بين المؤتمر وتاريخ إجراء الاستفتاء على الدستور وجيز، إلا أن ما أنجز في ميدان التنظيم كان كافيا لتوفر الاتحاد على تنظيمات حزبية مؤطرة بمناضلين ملتزمين، استطاع بها أن يعبئ المواطنين لإفشال مخططات النظام، وفضح مناوراته أمام الرأي العام الداخلي والدولي، ولولا تدخل أجهزة القمع والتزوير لكانت النتائج عكس ما أراده خصوم الديمقراطية، سواء فيما تعلق بالدستور أو البرلمان.. وإذا كان لابد من خلاصة بشأن هذه النقطة فلتكن مجملة في أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قطع أشواطا مهمة في الحقل التنظيمي والسياسي، ما حوله الى حزب جماهيري قوي، ظهرت جماهيريته وقوته في مناسبتين حاسمتين هما الحملتان اللتان نظمهما لمقاطعة الاستفتاء (7 دجنبر 1962) وللمشاركة في انتخاب مجلس النواب (ماي 1963) ولغيري أن يسأل عما إذا كان فضل ما اكتسبه الاتحاد من جماهيرية وقوة، يعود إلى شخص المهدي وحده، وهو سؤال مشروع أما إجابتي عليه، فهي كالتالي: لست وحدي من ينسب إلى المهدي عددا من الانجازات، كما وأن المهدي ليس وحده من نسبت إليه انجازات، فقد دأب معظم الرواة على شخصنة كثير من الأحداث والانتصارات، فنجد مثلا من ينسب تحرير فرنسا الى الجنرال دوكول، وتحرير المغرب إلى محمد بن يوسف، والثورة المصرية الى جمال عبد الناصر، والثورة الإيرانية الى الخميني، وهذا لا يعني أن هذه الشخصيات وحدها من انفرد بإنجاز هذه المهام، لأن أي شخص مهما علا شأوه لا يستطيع إنجازها وحده وبدون توفر شروط موضوعية وشخصية، أي وجود قضية، وجماعة مؤمنة بها، وقائد قدوة، متميز، فكرا وسلوكا، يمتلك مؤهلات «مهنية» مطلوبة للقيادة وإدارة المعارك كيفما كانت طبيعتها وفي أي مستؤى وتحت أي ظرف، إذن فلا المهدي أو غيره بقادر على إنجاز مهمته بنجاح إن لم تسنده جماعة من الرفاق تؤمن مثله بالقضية، وتتوفر أيضا على مؤهلات في مستؤى طموحاته، ومن هنا فحديثي عن المهدي من بدايته لنهايته إنما يعني الحديث عنه وعن رفاق له، شاطروه الحلو والمر وعانوا ما عاناه من محن، لكن الذي لا ينكره حتى ألد خصومه، هو أنه كان الأكثر دينامية والأكثر مبادرة، والأقدر على تحريك ما هو جاهز، وتفعيل ما هو ساكن، ليس في بلده وحسب، بل في العالم كذلك. أليست هذه القيم النضالية هي التي اقضت مضاجع الرجعية والصهيونية والامبريالية. أليست هذه الجهات هي الت عرفت قدره واكتشفت خطورته على مصالحها، وتآمرت عليه فانتهى شهيدا وطنيا عربيا عالميا. فرحمة الله عليه، لقد عاش مناضلا وقضى مناضلا، ولايزال «اختياره» نبراسا لكل المناضلين الشرفاء.