ذات 24 دجنبر، حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر. شخص كان ينوي شراء بوضة (glace) لشقيقتيه من محل شهير بالدار البيضاء، خرجت سيارة »سافران» الفارهة ذات اللوحة المعدنية الرسمية (M الحمراء) بسرعة من الممر الممنوع في الزقاق خلف المحل... وصدمت في لمح البصر السيارة الصغيرة لعشاق المثلجات الثلاثة، أحست إحدى الشقيقتين بألم فظيع في الرقبة بعدما اصطدم رأسها بسقف السيارة, ألم رهيب تبين في الأخير أنه أدى إلى ضرر دائم ولو أنه لم يسفر عن عاهة.. نزل موظف الدولة المزهو بنفسه من سيارته الرسمية وقال وهو يمرر يده على واقي الصدمة الأمامي لسيارته: «أنا لم أصب بأذى» كان وقتها على رأس إدارة بالغة الأهمية في البلد، كما أنه اليوم يقود إدارة أخرى لا تقل أهمية .. يبدو أنه القدر المرسوم لابن وزير قوي في سنوات 60... «اتجاه ممنوع؟!»... يبدو أن الرجل أحس بالإهانة عندما أشعره ركاب السيارة الصغيرة وكذلك رجال الشرطة الذين قاموا بتحرير محضر الحادثة: قال بهدوء رجل قوي في بلد يستحكم فيه الاستبداد والإفلات من العقاب.. مكتبي موجود هنا وأخرج دائما من هذا الزقاق...«! في المحصلة يخبرنا الرجل بأن مكتب سيد («أو »توباب« «بلغة جيراننا في منطقة الساحل)« وبالتالي هنا يختفي الاتجاه الممنوع، هنا يجب محو قانون السير، هنا يموت القانون.. هنا يجب خلق مكان للاقانون, للجريمة, وفوق ذلك مكان لعجرفة المجرم، وريث الافلات من العقوبة! كان ذلك قبل 20 سنة. قبل أقل من ثلاث سنوات عند محطة الأداء بالطريق السيار عند مدخل الجديدة, لاحظ الدركيان العاملان أن السائق لم يكن يضع حزام السلامة، بل كان يربطه مثل الكثير من سائقي السيارات الرسمية في المقعد وراء الظهر! الدركيان فوجئا بالاستعجال الذي أظهره الراكب الذي يبدو أنه رئيس «السائق «الغشاش» وهو يعترف على الفور بالمخالفة ويعاتب السائق, عرض على الدركيين أداء المخالفة, هو الذي كان يضع حزام السلامة، لكنه طالب بوصل يوضح نوع المخالفة وأسمآء محرريها, بحث الدركيان طويلا في محفظتهما قبل أن يعثرا على الختم الخاص بالمخالفات والوصل المطبوع الذي يتضمن نوع المخالفة وحجم الذعائر المطابقة لها، كان من الواضح أن هذا الوصل يستخدم لأول مرة من طرف الدركيين اللذين تعودا على التعامل مع أوراق من نوع آخر... وفي جو جد متوتر, نجح أحد الدركيين في ملء المطبوع الضروري رغم أن الرجلين لم يتفقا إن كانت المخالفة المعنية تحمل رقم 165 أو 169.. ورغم ذلك ملأ أحدهما المطبوع ووضع عليه توقيعا غريبا وسلمه لرئيس السائق المخالف، بينما وضع الدركي الآخر بسرعة 600 درهم في حقيبته ملجأ الراحة الأبدية لدفتر المخالفات الذي لا يزعجه أبدا مثل هؤلاء «المزعجين» من مستعملي الطريق المخالفين. إلى نفس الوجهة الجديدة, وهذه المرة عبر الطريق الوطنية قبل عهد الطريق السيار، وبينما كانت قافلة من السيارات تسير بمعدل 100 كلم في الساعة, وفجأة توقف سائق وسط القافلة بعدما سمع أحدا في الحقول المحادية يناديه بإسمه, السائق لم يتوقف فحسب، بل تراجع بسيارته ربما حتى لا يتعب الرجل الذي ناداه باسمه، عندما توقف سرب السيارات وما صاحب ذلك من اصطدامات ونزل السائقون الغاضبون من سياراتهم، لاحظ الجميع أن السائق المسن الذي كان مباشرة وراء السائق المجرم تكسر حوض ظهره, أما السيدتان اللتان كانتا رفقته فلم تكتشفا بعد ما أصابهما من رضوض وآلام مختلفة، أما المجرم الذي كان حريصا على الاستجابة لنداء صديقه أو جاره الذي دعاه للتوقف, لكنه لم يكن حريصا تجاه باقي البشر، لم يصب بأي أذى لا هو ولا سيارته المهترئة. كان هادئا ولم ينطق بكلمة أمام ضحاياه والشهود المصدومين, كانت حركاته شبيهة بحركات متفرج مقتنع بأنه غريب عن الفاجعة، بريء يعبر بصمته عن إحساس غريب قريب من إحساس الشخص البرئ الذي لم يقم بأي فعل يؤاخذ عليه. وفي كل الأحوال تقول حركاته بلغتها المشفرة الطريق ليست سوى جزء مبلط («منجورة») مثل باقي الحقول التي تتخللها وتنحتها العديد من الممرات. إذا ما العيب في أن تتوقف تلبية لنداء جار أو قريب من بلدتك ربما كان في حاجة للمساعدة... إنها قمة الاستهتار! إنها قمة العبث في تلاقي عالمين لايلتقيان: عالم إنسان الحقول والممرات التي ينحتها مرور الحيوانات وعالم إنسان الطرقات والطرق السيارة والقوانين واشارات الأسبقية التي تنظم وتؤطر تحرك هذه الأسلحة الفتاكة، أسلحة الدمار الشامل في المغرب التي تمثلها العربات المكونة من الحديد والتي تسير في اتجاه الموت المحتمل والعاهة... ومن مجموع 33 مليون مغربي يقتل السير على الطريق كل سنة أكثر من 4000 ليحتل المغرب بذلك صدارة طرق الموت في العالم العربي المرتبة السادسة عالميا، ويخسر معها 2% من ناتجه الداخلي الخام، في سنة 2012، فقدت فرنسا التي يبلغ تعداد سكانها 66 مليون نسمة 3645 من مواطنيها في حوادث السير (مقابل 3963 سنة 2011) وبالمقارنة بين الدولتين بسكانها وحضيرة سياراتها وشبكة طرقها وطرقها السيارة وتجهيزات المراقبة ... الخ فإن المغرب سيحطم دائما الأرقام القياسية في اتجاه الأسوأ في اتجاه اللامعقول والنزيف الذي لا ينتهي لقواه وموارده وأرواحه البشرية. طرقنا تتألق بالموت حتى خارج حدودنا... قبل 10 سنوات سنة 2004، ذات 8 دجنبر أي قبل يومين على الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الانسان, قتل سائق من بلادنا في ممر للراجلين بملتقى الطرق أبو رقراق بالرباط، مواطنا تونسيا معروفا عالميا: إنه المرحوم أحمد عثماني, عراب أنسنة السجون عبر العالم ,الرجل المشهور عالميا, رجل «الشرف والمبادئ» كما يصفه روبير بادينتر. عثماني قضى في حرب طرقنا هو الذي لم يستطع لانظام بورقيبة الذي عذبه وسجنه لمدة 10 سنوات ولا نظام بن علي الذي طارده عبر العالم إسكات صوته ولا وقف مسيرته نحو الحرية. في نفس المدينة عاصمتنا العزيزة قبل 40 يوما, 20 سنة بعد حادثة السائق المتهور ابن الوزير وبعد 30 سنة على حادثة طريق الجديدة, وبعد عشر سنوات على الموت المأساوي الذي تعرض له عثماني الذي كان فقط يسير أمام الفندق, وبعد ثلاث سنوات على حرج دركي متردد بين المخالفة رقم 165 و169 هاهي حرب الطرق المغربية تحصد في قلب هذه العاصمة البروفسور أمينة بلا فريج, مواطنة محترمة من السيدات اللواتي قدمن الكثير لهذا البلد, وقدمت عائلتها لهذا الشعب: والدها هو السي أحمد بلافريج الرجل السياسي المتمرس وزعيم الكفاح من أجل الاستقلال ومؤسس حزب الاستقلال ومحرر وثيقة المطالبة بالاستقلال، وواحد من الذين أسدوا خدمات جليلة لدبلوماسية مقاومة الاستعمار ودبلوماسية المغرب المستقل، الوزير الأول السابق (1958) والممثل الشخصي للملك. الخدمات التي قدمها أنيس بلا فريج الشقيق الأكبر لأمينة, المناضل الديمقراطي الذي عاش ويلات السجون وهي المحنة التي دفعت والده إلى أن يتجرأ على تقديم استقالته من جميع مهامه الرسمية... أنيس بلا فريج الذي أسس عند الافراج عنه، في بداية سنوات 80 أول معسكر شعبي لتعليم المعلوميات لفائدة الاطفال والشباب... المرحومة بلا فريج حصدها سائق متهور شاب كان يسير في الاتجاه المعاكس.. تركت مرمية وتم تسجليها بإسم مجهول في مستعجلات الصحة العمومية التي قدمت لخدمتها جل حياتها كطبيبة وكأستاذة نالت احترام أمهات الاطفال المرضى بالسكري كما فرضت احترام الوزراء وممثلي المنظمات الدولية في المغرب وعبر العالم, أمينة بين الحياة والموت في غيبوبة وتحت المراقبة المركزة بأحد مستشفيات باريس. قبل 40 سنة, كتب عالم الاجتماع والصحفي أحمد الكوهن لمغيلي, مؤسس مجلة »الأساس» تحليلا اعتبر «متياسرا» أو مستفزا آنذاك يتساءل فيه ما إذا كان المغاربة انتحاريون في السياقة بطبعهم، لأنهم في الأساس يعيشون شيزويفنيا قصوى ناجمة عن إحباطاتهم المتعددة في جميع مناحي حياتهم، على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي او الثقافي او اللغوي او الاسري او الجنسي.. شيزوفرينيا اكدها بوضوح كبير، عالم اجتماع اخر هو بول باسكون من خلال العديد من اعماله وابحاثه. غريزة انتحارية جماعية مؤكدة وواضحة, حصدت ايضا في ابريل الماضي، منتقدها المرحوم احمد الكوهن لمغيلي نفسه. ضحية أخرى على طرقاتنا (بين الرباط وبوزنيقة) مات كما مات الزعيم التاريخي المرحوم علي يعتة، الرجل الذي حصده الموت على يد سائق متهور امام مبنى مطبعة جرائده بالدار البيضاء. علي يعتة قتل بدم بارد مثل العديد من المغاربة والمغربيات غير المعروفين بالنسبة لي أو لكم، لكنهم معروفون جيدا من طرف ذويهم واقربائهم وجيرانهم. من الصعب، وربما من غير المستساغ دعوة جميع المغاربة الى وقفة احتجاجية في جميع الطرقات المبلطة، في الطرق السيارة والشوارع والازقة خلال يوم واحد، من اجل طرد الجن الانتحاري الذي يسكنهم بشكل جماعي عندما يجلسون وراء مقود السيارة. رغم أن ذلك سيكون «مسيرة بيضاء» مثيرة لنمط عيشنا المشترك كما كانت المسيرة الخضراء. وحدها مظاهرة للذات ضد الذات من هذا الحجم وبهذه الرمزية قد تولد الأمل بأنه بالإمكان أن يحترم المغرب في يوم واحد. ضوء احمر، إشارة قف, طابور انتظار، قانون فضاء عمومي... حتى يستطيع الآمل أن يكتسب الآليات وردود الفعل التي تؤهله للانخراط تدريجيا في ثقافة ومتطلبات دولة القانون واحترام قاعدة القانون. لأنه عندما نجد شعبا مجتهدا الى هذا الحد في القتل فقط حبا انتحاريا؟ في عدم الاحترام و خرق اي قانون او قاعدة، فلا يمكنه ان يقبل بصدق انه محكوم بقانون اسمى. بتعاقد مقبول بين جميع افراد المجتمع ب «كيفية العيش المشترك» و«كيفية السير المشترك». اذا كان المغاربة في اغلبيتهم سائقون متهورون، الا يكونون متهورين كذلك مع دستورهم؟ بالتأكيد سيكونون كذلك, بل ومع مرور الوقت سيكونون خارقيه الذين سينجبون بدورهم، بحكم الثقافة والتقاليد المكتسبة والمستحكمة، خارقين للدساتير القادمة. شعارهم «القانون- او القاعدة - لن يمر». لنبكي جميعا امينة، علي, احمد، ومغربنا بكل طرقه وطرقه السيارة التي تتحول يوميا الى ادغال وممرات لعصابات الحيوانات البرية الهائجة, «تراقبها» فزاعات لا تخيف ولا تفزع احدا في هذا الزمان. زمن حرب اهلية حقيقية. فلسوريا حربها الأهلية، ولنا نحن حربنا. على طرقاتنا وشوارعنا, فما الفرق في النهاية؟!.