ما تعرضه علينا القنوات التلفزية العمومية من صور حوادث السير ببلادنا وأرقام الضحايا كل يوم أمر بات يدعو للقلق وصار كابوسا يقض مضجع كل مستعمل للطريق العام ، ويطرح أكثر من تساؤل حول من يتحمل مسؤولية هذه الأرواح التي تزهق والدماء التي تسيل على الطرقات وجوانبها ، لدرجة أن أخبار حرب الطرق كما يسمونها أصبحت ركنا ثابتا في كل النشرات الإخبارية ، وتعابير مثل " ونجم الحادث عن اصطدام حافلة لنقل الركاب كانت قادمة من ومتوجهة إلى بشاحنة كانت تسير في الاتجاه المعاكس وأدت قوة الاصطدام إلى اشتعال النيران بالحافلة والشاحنة مما تسبب في تفحم جثث ضحايا هذا الحادث بالكامل " أصبحنا نتعايش معها ونحفظها جيدا من فرط تكرارها علينا كل يوم وكل أسبوع . نعم هذا هو المشهد الدرامي الدامي المؤلم الذي ألفته أسماعنا وأبصارنا منذ مدة من قنواتنا العمومية ، والإحصائيات الرسمية تفيد بأن حوادث السير في بلادنا تخلف يوميا ضحايا بمعدل ثمانية إلى خمسة عشرة قتيلا وخسائر مالية فادحة تقدر بملايير الدراهم . وحتى شركات التأمين لم تعد تخفي انزعاجها وتذمرها من جراء تصاعد أرقام التعويضات المالية التي تسددها جراء حوادث الطرق حيث تتجاوز الثلاث مليارات كل سنة حسب التقارير الإخبارية . فمن المسؤول يا ترى عن هذه الخسائر المالية التي تؤثر بشكل كبير على نسبة الناتج الوطني الداخلي الخام ، وعن هذا الاعتداء الصارخ على سلامة الناس وحياتهم في هذه الحوادث التي تؤدي إلى ترميل النساء وتيتيم الأطفال وزيادة عدد المعاقين ببلادنا والمصابين بالعاهات المستديمة ذهنيا وجسديا؟ ألا يدخل ما يقوم به المتسببون عمدا في إزهاق الأرواح وفي كل هذه الكوارث على الطرقات في باب الاعتداء على صحة وحياة العباد وفي حكم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؟ وهل يظن السائق الذي يقود سيارته بسرعة جنونية وهو في حالة سكر ثم يشرع في قتل الأطفال والنساء ودهس المارة ومستعملي الطرقات ، أنه بمجرد أن يأتي رجال الدرك وشرطة المرور وتحرير محضر للحادثة وإحالة القضية على المحاكم وعلى شركات التأمين سيفلت من عقاب الله تعالى فيما بعد ؟ صحيح أن البنية التحتية الطرقية في بلادنا تشكل أهم أسباب الحوادث ، فمعظمها لا يستجيب لأبسط معايير السلامة المتعارف عليها دوليا ومنها ما يعود إلى عهد الاستعمارين الفرنسي والاسباني . وصحيح أن الإجراءات والتدابير التي تهدف إلى حمل أرباب السيارات والحافلات والشاحنات على العناية بالحالة الميكانيكية لهذه المركبات وإخضاعها للفحص التقني المستمر غير كافية وغير ناجعة . وصحيح كذلك بأن هناك تقصير في تطبيق الإجراءات العقابية والضرب بصرامة على يد كل المتسببين في هذه الحوادث وهناك تساهل في تفعيل ترسانة القوانين الزجرية ، وأن مستعملي الطرقات ليسوا كلهم متساوون أمام القانون ، لكن يبقى العنصر البشري هو السبب الرئيسي في الكوارث التي تعرفها طرقنا يوميا ، وتشكل السرعة المفرطة ثلاثين بالمائة من هذه الحوادث كما أن التهور في السياقة والرعونة والطيش خاصة عند السائقين الشباب والقيادة في حالة سكر وتحت تأثير التعب والإرهاق كلها عوامل تجعل من السائق يتحمل نسبة خمسة وثمانين في المائة تقريبا من المسؤولية في جميع الحوادث الطرقية ببلادنا . ولعل هذا ما جعل اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير تطلق شعار " لنغير سلوكنا " في إشارة قوية منها إلى المسؤولية الأساسية للعنصر البشري عن حوادث الطرق وما تخلفه سنويا من خسائر في الأرواح والأموال ومآسي نفسية وصحية واجتماعية لا حصر لها . وهذا ما جعلها كذلك تكثف من حملاتها في السنوات الأخيرة وتغير استراتيجياتها في التعاطي مع هذه المعضلة وتنوع من شعاراتها وتزيد من حدة وقوة هذه الشعارات والوصلات التحسيسية بهدف إحداث نوع من الصدمة النفسية المؤلمة ، كصورة تلك الدلاحة التي تسقط على الأرض وتنشطر إلى أجزاء وشظايا في إشارة إلى رأس راكب دراجة نارية بدون خوذة ، أو كعبارة مفجعة تحذر السائقين من أن " السرعة تقتل " وغيرها من العبارات الأخرى التي تحمل في طياتها الكثير من الاستفزاز والترويع ، بشكل بات معه ذلك النداء المهذب والمؤثر الذي نصادفه في الطرقات في بعض المناطق من طفل لوالده المسافر " لا تسرع يا أبي إننا في انتظارك " وكذلك تلك الحكمة المرورية الشهيرة " التأخر في الوصول خير من عدم الوصول " مجرد خربشات على الطريق وذكريات من الماضي ومن ذلك الزمن الجميل . وتحضرني هنا بمناسبة الحديث عن الشعارات وقوتها ونجاعتها ودورها في تبليغ رسائل التحذير والتنبيه حكاية فلاح أمي لا يفرق بين الألف وعصى الطبال اسمه علال تملكه الشعور بالغيرة ذات موسم فلاحي من ابن عمه الذي اشترى سيارة من نوع بيك آب ، فباع بدوره بعض العجول واشترى بثمنها سيارة من نوع هيونداي ، بعدما حصل على رخصة السياقة بطرق غير مشروعة وفي زمن قياسي ، وأصبح مع المدة بارعا في السياقة لا يعرف في دواسة السرعة إلا تروازيام كاتريام ، وراح يقتل ما صادف في طريقه من حيوانات كلما خرج من ضيعته في اتجاه المدينة أو كان عائدا منها ، فاشتكى منه سكان الدوار للسلطات المحلية وللمصالح المختصة التي بادرت إلى وضع علامات لإثارة انتباه علال إلى وجود حيوانات تقطع الطريق من ضفة إلى أخرى ، وبالتالي يتعين عليه التقليل من السرعة والأخذ بعين الاعتبار أرواح هذه الحيوانات البريئة عند مروره بالطريق الممتدة بين المدينة ومقر ضيعته . إلا أن هذا الأخير لم يغير من سلوكه واندفاعه في السياقة واستمر في ساديته وجنونه ، فعمدت هذه المصالح بعد ذلك إلى الزيادة من عدد علامات التنبيه على طول المسافة وتكبير حجمها وتنويع أشكالها وألوانها من أجل تذكيره بمرور الحيوانات وبالحد الأقصى للسرعة المسموح به . لكن السي علال لم يزدد سوى تهورا وفتكا بالحيوانات ، ولما تعبت تلك المصالح ويئست من تجاوبه مع مضامين لوحاتها التحذيرية والتذكيرية فكرت في حل عكسي أملا في وضع حد لهذه المأساة الحيوانية ، ألا وهو تحذير حيوانات تلك المنطقة وتنبيهها كي تأخذ هي حذرها من علال فوضعت لها على قارعة الطريق لوحات مرسوم عليها علال وطيارته ومكتوب عليها انتباه مرور علال ! بيني وبينكم شخص أمي ومتهور في بلادنا مثل علال هل تنفع معه علامات التشوير في الممرات والطرقات والوصلات التحسيسية في وسائل الإعلام ، وهل تنفع معه التكنولوجيا وأنظمة التحكم الهيدروليكي في الحد من التهور والسرعة المفرطة وارتكاب المخالفات ؟ أعتقد أن تطور الأنظمة التكنولوجية الذي طرأ على السيارات لم يساهم سوى في الرفع من عدد الحوادث عندنا مع وجود مواطنين أميين يقودون سياراتهم بعجرفة وجنون . لنأخذ على سبيل المثال تلك الوسادات الهوائية الواقية أو ما يعرف ب الإيرباك ( بثلاث نقاط على حرف الكاف ) ألا ترون معي بأنها تشجع السائقين المتهورين ومدمني الخمور على الزيادة في السرعة والإفراط في الثقة في النفس والشعور بالأمان من الموت والتعرض للأذى الجسدي؟ كم تمنيت لو أن مصممي السيارات والمركبات في أوروبا وأمريكا فكروا في المصلحة الحقيقية لشعوب الدول المتخلفة كالمغرب ، وبدل كل هذه الأنظمة التكنولوجية المستحدثة لتنبيه السائقين إلى مخاطر الطريق المحدقة بهم وهذه الوسادات الناعمة والأكياس الهوائية الواقية من قوة الاصطدامات ، ليتهم صمموا قبضات آلية وأيادي خشنة تخرج من الطابلو دو بور أو من تحت المقود بشكل أوتوماتيكي في كل لحظة لتجبذ الآذان لكل سائق متهور عند ارتكابه للمخالفات وتصفعه كلما تجاوز السرعة المسموح بها و " تقجه " إلى أن تخرج عيناه في حالة التمادي في خرقه لقانون السير والإفراط في السرعة . سيكون الحال أفضل بكثير على ما أعتقد وأكثر جدوى ونفعا ونجاعة من كل هذه التكنولوجيا القاتلة بنعومتها وتعقيداتها . إن العنصر البشري هو الرقم الأساسي في هذه المعادلة الطرقية التي حيرت وجننت الحكومة وأجهزة الدولة ووسائل الإعلام المختلفة عندنا في المغرب ، وهو الذي ينبغي الاهتمام به قبل سن القوانين والتشريعات والتفكير في استيراد المدونات من الخارج وفرضها على الشعب بقوة القانون . وقبل تشييد الطرق وتعبيدها وتثنيتها وربط المدن والجهات بالأطوروت ينبغي الاهتمام ببناء الإنسان الذي سيستعمل هذه الطرق العادية والسيارة ، ينبغي تعليمه منذ الصغر وتربيته وتثقيفه وتوعيته والرقي بحسه الإنساني وتهذيب ذوقه بالبرامج التلفزية الهادفة وبالمناهج الدراسية الناجحة ، لأن السياقة فن وذوق ومعرفة وسلوك وأخلاق كما يقال قبل أن تكون رخصة حمراء وبطاقة رمادية وسيارة فاخرة . قبل حث السائقين المهنيين يا وزيرنا في النقل والتجهيز على احترام قانون السير والتحلي بقيم التسامح أثناء القيادة واستعمال الطريق العام ، ينبغي الاهتمام بهذه الشريحة المظلومة من المجتمع والمستغلة أبشع استغلال من قبل أرباب سيارات الأجرة الصغيرة والكبيرة وأرباب حافلات النقل العمومي الحضرية والرابطة بين المدن وشاحنات نقل السلع والبضائع والمنتوجات البحرية والفلاحية والأحجار والرمال من مقالعها وغير ذلك من المواد القابلة للاشتعال والانفجار . ينبغي ضمان حقوقها أولا في الحد الأدنى للأجور وفي التغطية والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والتقاعد والمعاش قبل تهديدها بالعقوبات الحبسية والغرامات الخيالية يا سيد كريم غلاب . كما أن الحصول على رخصة السياقة يا معالي الوزير ينبغي أن يقنن أكثر ويخضع لضوابط أساسية ولمعايير أخرى غير الرشوة والتدويرة ، كمعيار الأهلية والصحة النفسية والعقلية للمترشحين والقدرة على الاستيعاب والفهم والتقاط الإشارات والتجاوب معها والانضباط لقانون السير واحترامه . ينبغي أن يخضع لكل هذه الشروط الصارمة قبل تسليم هذه الرخصة لأي كان ولمن لا يستحقونها وتحويلهم في نهاية المطاف مباشرة بعد نجاحهم في الامتحان الصوري والشكلي إلى مشاريع ضحايا أومشاريع جناة وقتلة على الطرقات. [email protected] mailto:[email protected]