على غرار باقي الدول الديمقراطية يعتبر »استقلال السلطة القضائية« وتطوير آلياتها وتحديد أهدافها وتقوية ميكانزمات اشتغالها من أكثر المواضيع راهنية في المغرب والتي حظيت باهتمام كبير سواء على مستويات مؤسسات الدولة أو باقي فعاليات المجتمع المدني من خلال فتح نقاش عمومي جاد بشأنها ساهم فيه جميع المتدخلين والمهتمين بشأن العدالة. مما يجعلنا بكل موضوعية نعتبره »رهان أمة«. وتقتضي الأمانة والنزاهة الفكرية توثيق حقيقة تاريخية مقتضاها أن المؤسسة الملكية في المغرب ومنذ الاستقلال بادرت باستمرار وبعزم أكيد إلى بناء قضاء مقتدر فعال نزيه ومستقل، قضاء مواطن يلبي انتظارات المجتمع ويتوج الجهود التنموية التي تسير فيها بلادنا بخطى ثابتة على أساس التحديث المؤسسي والديمقراطي. ويبقى تاريخ 20 غشت 2009 علامة فارقة في مجال العدالة المغربية بعدما أدخل الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب موضوع الإصلاح الشمولي والعميق للقضاء إلى مرحلة جديدة بتدقيقات مفصلة. مرحلة دخلت بمسار الإصلاح إلى مرحلة التفعيل الميداني والانتهاء من مرحلة التشخيص والتشاور والتنظير وذلك عبر تحديد ستة مجالات ذات أولوية وبمنظور جديد يضع قطيعة مع التراكمات السلبية للمقاربات الأحادية والجزئية، وبإنجاز المطلوب في الأجل المنتظر. وقد وضع موضوع دعم ضمانات استقلال القضاء على رأس هذه المجالات الست ذات الأسبقية التي يجب الاشتغال عليها باعتبارها هي المحور المركزي للإصلاح والتي كانت قطب الرحى في التعديلات الدستورية الأخيرة لسنة 2011. فكيف إذن يمكن مقاربة موضوع استقلال القضاء في المغرب؟ وما هي محتوياته النظرية؟ المحور الأول : ما هو المحتوى النظري لاستقلال القضاء من خلال التجربة المغربية؟ إن محاولة الإجابة على هذا التساؤل الكبير تقتضي الوقوف على بعض المنطلقات الأولية قبل الخوض في شروط ومحاور الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة: منطلقات أولية مؤطرة للموضوع * أولا- في إطار الثوابت المرجعية للمملكة فإن القضاء وإقامة العدل تعد من وظائف الإمامة، والملك بصفته أمير المؤمنين هو الضامن دستوريا لاستقلال القضاء. (الفصل 107 من الدستور المغربي الجديد). ومن هذا المنطلق فقد عبرت الإرادة الملكية السامية بشكل واضح من خلال العديد من الخطب الرسمية عن الخيار الاستراتيجي الذي لا مجال للتراجع عنه ألا وهو إصلاح القضاء ضمانا لحرمته ولجعل أحكامه تستهدف الإنصاف في إطار من الاستقلال عن كل أشكال الضغوط المادية والمعنوية، وباعتبار مبدأ استقلال القضاء قاعدة ديموقراطية لكفالة حسن سير العدالة وسيادة القانون ومساواة الجميع أمامه في جميع الظروف والأحوال . * ثانيا- رغم وجود العديد من المواثيق والإعلانات والنصوص العالمية والقارية والجهوية المرتبطة باستقلال القضاء التي صادق المغرب على البعض منها، فإنه ليس هناك مفهوم واحد لاستقلال السلطة القضائية في التجارب العالمية، حيث تختلف التسميات والتطبيقات والآليات والضمانات من دولة لأخرى حتى بالنسبة لتلك المنتمية لنفس المنظومة القانونية (اللاتينية، الجرمانية، الأنجلو ساكسونية، الاسكندنافية...)، وبالتالي فإننا مطالبين بأن نضع تصورنا الخاص بعناصر هذا الورش وآليات تطبيقه بما يتلاءم والثوابت المرجعية للمملكة وذلك قصد تطوير نموذجنا الديموقراطي التنموي المتميز كما جاء في الخطاب الملكي يوم 10 مارس 2011 بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد مشروع الدستور.. * ثالثا- إذا كان التقسيم الكلاسيكي للسلط يرتب السلطة القضائية في المرتبة الثالثة فذلك ليس لأنها أقلهم درجة ولكن لأنها أقل خطرا في باب التعسف في استعمال السلطة لأن هدفها ليس القيادة وإنما المراقبة والتدقيق والتطبيق العادل للقانون. »Elle n?est pas une force mais un frein» ومن ثم فإن المطلوب هو إيجاد الآليات التي تكفل فصل وتوازن وتعاون بين السلط (الفصل يتضمن الاستقلال والتوازن يستتبع وضع الحدود ويجنب الانحراف والتعاون يقصي المواجهة) وهو ماقرره الدستور المغربي الجديد في فصله الأول حيث جاء فيه: "يقوم النظام الدستوري بالمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها والديموقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة". * رابعا- البحث عن توطيد أسس استقلال القضاء واستقلالية القضاة في أبعاده المختلفة هو ليس بحثا عن امتياز للسلطة القضائية وإنما هو حق للمواطن في المقام الأول، وهدفه الحفاظ على ثقة الأفراد في المؤسسة وهو ما تسعى إليه العديد من التجارب القضائية العالمية. ويبدو أن المشرع الدستوري كان واضعا نصب عينيه هذا المعطى حيث أنه بعد ما أسس في المحور الأول لاستقلال القضاء ثم تناول في المحور الثاني مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية برئاسة صاحب الجلالة باعتباره الضامن لهذا الاستقلال فإنه في المحور الثالث تناول حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة وكأنه يريد أن يؤكد بأن هذا الاستقلال وهذه المؤسسة الدستورية ليسا إلا وسيلة لضمان حق المواطن في المحاكمة العادلة. شروط عامة أساسية للارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة من المتفق عليه من خلال تراكم التجارب الدستورية والتشريعية والقضائية والرصيد الكبير للاتفاقيات والإعلانات والمواثيق الدولية والقارية والإقليمية والجهوية أن هناك قواسم وشروط مشتركة لابد منها للارتقاء بالقضاء كسلطة وهي : * مناخ سياسي ديموقراطي حر * حركة قانونية شاملة تبدأ من القوانين التأسيسية وتصل إلى كل ما له علاقة بالنظام القانوني (قوانين، مراسيم، مناشير، قرارات...). * ممارسة عملية ملموسة تقر بأن السلطة القضائية ليست فرعا من أصل وإنما هي أصل قائم بذاته، مع ما يرتبط بذلك من إشراك مختلف الفاعلين في قطاع العدالة في إنجاح هذا الورش الإصلاحي الشمولي. محاور الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة إن الحديث عن استقلال القضاء هو في عمقه طرح لسؤال أولي بسيط : "من يملك اليوم السلطة أو القدرة على التأثير على القضاء والقضاة؟" وعناصر الجواب عليه يمكن استخلاصها من الرسالة الملكية الموجهة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء (أبريل 2004) والتي حددها في الجهات التالية: * السلطة التنفيذية. * السلطة التشريعية. * باقي السلط الشديدة الإغواء ومنها : * سلطة المال المغرية بالارتشاء * سلطة النفس الأمارة بالسوء * سلطة الإعلام. وبالتالي أية مقاربة حقيقية وشمولية وعميقة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الجهات المؤثرة التي يمكن أن نضيف إليها أيضا التأثيرات الصادرة من داخل الجهاز القضائي نفسه. ولابد من التذكير هنا بأننا تجاوزنا مرحلة التشخيص منذ مدة غير يسيرة، وذلك بعدما أفرزت الساحة القانونية والحقوقية والإعلامية عدة انتقادات صادرة عن جهات ومؤسسات وطنية مختلفة (مؤسسات رسمية، مهنية، مجتمع مدني، أحزاب، سياسية...) اتفقت كلها حول وجود عراقيل قانونية وواقعية تمس باستقلال القضاء بالمغرب نوجزها ? دون الدخول في الجزئيات ? في عنوانين أساسيين : * -النصوص الدستورية (السابقة) كانت غير كافية وتفتح ثغرات واسعة للمساس باستقلال القضاء. * -الهيمنة القانونية للسلطة التنفيذية في شخص مؤسسة وزير العدل على القضاء ومؤسساته (المجلس الأعلى للقضاء / المحاكم / السياسة الجنائية، المعهد العالي للقضاء...). الضمانات الدستورية الحالية لتعزيز استقلال السلطة القضائية لقد سمحت المقاربة التشاركية التي اعتمدها المغرب كسياسة عليا، ومساهمة كافة الفاعلين في الشأن القضائي والتراكمات المعرفية التي أنتجتها هيئات المجتمع المدني والإعلام والأحزاب السياسية والهيئات الحقوقية الوطنية، إلى انبثاق وثيقة دستورية أسست لسلطة قضائية مستقلة بضمانات وآليات متعددة وفلسفة جديدة يمكن الوقوف على بعض ملامحها كالآتي : * أولا- خصص المشرع الدستوري في بابه السابع ستة فصول كاملة تتعلق باستقلال القضاء (المواد من 107 إلى 112) أكد فيها من جهة خصوصية التجربة المغربية وراعى فيها من جهة أخرى المبادئ الأساسية المتعارف عليها عالميا في مجال استقلال القضاء، فنص على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وان الملك هو الضامن لهذا الاستقلال، ومنع بشكل صارم التدخل أو التأثير على القضاة بشان مهمتهم القضائية أو إعطائهم أي تعليمات أو أوامر أو إخضاعهم لأي ضغط وأدخل كل ذلك ضمن دائرة التجريم، ملزما القضاة بالدفاع عن استقلالهم من خلال التبليغ عن كل ما يهدد هذا الاستقلال تحت طائلة اعتبار التهاون في هذا الأمر خطأ مهنيا جسيما. كما أكد أن قضاة الحكم لا يعزلون ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون ولا يلزمون إلا بتطبيقه، كما خول لقضاة النيابة العامة الحق في عدم الالتزام إلا بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، ومكن القضاة من حقهم في حرية التعبير والانتماء إلى الجمعيات وإنشاء جمعيات مهنية في إطار احترام القيم والأخلاقيات القضائية. * ثانيا- أسس الدستور الجديد لمجلس أعلى للسلطة القضائية يرأسه الملك بتركيبة موسعة تشمل قضاة منتخبين من طرف زملائهم وآخرين معينين بقوة القانون مع ضمان تمثيلية نسوية، وأعضاء آخرين خارج قطاع القضاء من الشخصيات المشهود لهم بالكفاءة والتجرد والنزاهة والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء وسيادة القانون. مما يؤكد بالفعل أن القضاء شأن مجتمعي عام يشتغل بما تقتضيه آليات الحكامة القضائية من شفافية ونزاهة ووضوح. كما لم يعد لوزير العدل أي صفة داخل هذه المؤسسة الدستورية التي جعل من مهامها السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم وجعل قراراتها المتعلق بالوضعية الفردية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة أمام أعلى هيئة قضائية بالمملكة. ولا شك أن هذه المقتضيات الدستورية الهامة ستشكل إطارا مؤسسيا هاما لتفعيل حقيقي لمفهوم استقلال القضاء وحلقة أساسية ضمن مسلسل إصلاح السلطة القضائية.