في حفْل باذخ يوم السبت الماضي، سلّم عمدةُ ستراسبورغ بفرنسا، رولانْ رييسْ، الكاتب المغربي فؤاد العروي، جائزة أكاديمية الغونكور الفرنسية للقصة القصيرة لسنة 2013، عن مجموعته " القضيّة الغريبة لسروال الداسوكينْ". وفضْلا عن العديد من الوجوه الأدبية والثقافية، حضر مراسيم الاحتفال عضوا أكاديمية الغونكور الطاهر بنجلون وبولْ كونسطونْ. وفي كلمته بالمناسبة، أشادَ رولانْ رييسْ بالعمل الأدبيّ للكاتب المغربي وبأسلوبه، معبّرا عن اعتزازه بتسليمه هذه الجائزة، التي تحتضنها المدينة منذ سنة 2001، والتي باتت تندرج منذ خمس سنوات من بين التظاهرات الكبرى لمهرجانها الأدبي الذي أُطلق عليْه اسم "المكتبات المثالية". أمّا الكاتب والروائي المغربي الطاهر بن جلون، فقدْ شدّد من ناحيته على الموْهبة الكبيرة التي يتمتع بها فؤاد العروي "الذي أولى اهتمامه لجنس أدبيّ صعب هو القصّة القصيرة حيث لا حق للكاتب في الخطأ". وأضاف أنّ أعضاء أكاديمية الغونكور اتفقوا، بالإجماع، على منح الجائزة للكاتب المغربي فؤاد العروي تقديرا ل"أسلوبه وإبداعه الأدبيّ الحرّ". المجموعة القصصية » القضيّة الغريبة لسروال الدّاسوكينْ«، الفائزة بهذه الجائزة كان قدْ أصدرها فؤاد العروي، في نهاية السنة المنصرمة ، عن دار النشر »جوليارْ«، تذكّرنا بكتابات ريمون كونو في »تمارين أسلوبية«، الذي يستعيد القصّة نفسها بأساليب وتقنيات مختلفة. من هنا ذلك الطابع المتنقّل والمتحوّل والساخر للشخوص والحكايات. ويمكن اعتبار مجموعة العروي الجديدة، مجموعة »أطروحيّة« Des nouvelles à thèse، لكوْنها تطرح قضيّة الشباب المغربي الموزّع ما بين البقاء في البلد، المغرب، وبين الهجرة إلى الخارج. فضْلا عنْ كوْن هذا الشباب يظلّ موزعا ما بين الخضوع والاستسلام للتقاليد أو الجنوح نحو الحداثة. في كل هذه المراوحة العسيرة يجد الشابّ المغربيّ عناء كبيرا في إيجاد موطئ قدم. غير أن المشكل لا يُطرح بالكيفية ذاتها بالنسبة للفتاة المغربية والشابّ المغربي، وللفقراء والاغنياء، وللمتعلمين وغير المتعلمين. ورغم ذلك، فكلّ هؤلاء يتعيّن عليهم أنْ يجيبوا على السؤال ذاته: من أنا؟ هذا السؤال الوجودي هو الذي يحرّك شخصيات المجموعة ويتحكّم في مصائرها. يمكن تلخيص هذه المجموعة في عبارة »العبْرة بالخواتم«. فبعد المآسي والمشاكل تتبدّى في الأفق ملامح الانفراج. كل شيء في هذه المجموعة متحوّل عند العروي، بدْءا، أو انتهاء باللغة التي يعرف كيف يلعب بها. فالحوار مثلا ينتقل فيه السارد من موضوع لآخر، مطنبا ومستعملا أوائل الكلمات لأسماء أماكن نعرفها. في القصة الأولى التي تحمل عنوان المجموعة، نتعرّف على موظّف مغربي يدعى الداسوكين، أرسلته الحكومة المغربية إلى بروكسل في مهمة شراء قمحٍ من أوروبا بأفضل سعرٍ ممكن. وبعد تمضيته سهرته الأولى في الفندق الفخم الذي نزل به، ينام داسوكين في غرفته ويستيقظ في اليوم التالي ليجد أنّ سرواله الوحيد قد سُرق أثناء نومه. وبما أن موعده مع اللجنة الأوروبية في تمام العاشرة صباحاً - وكان يوْم أحد - يضطّر إلى شراء السروال الوحيد المتوفر في قياسه من متجر للألبسة العتيقة لكونه المتجر الوحيد المفتوح في المدينة يوم الأحد. ولأن هذا السروال لا يليق حتى بمهرّج، فإنّ الداسوكين ينجح في إتمام مهمّته ويحصل على القمح من دون مقابل كمساعدة للعالم الثالث. ومن بين الشخصيات كذلك مهندس مغربي يروي لنا، وهو في طريقه إلى منزله، مشاكل ونوائب الغربة التي تجتاحه في هولندا حيث يحتاج فيه إلى قاموس لشراء مِمْسَحة، هو الذي كان يحلم بتغيير العالم. من هنا ذلك الشعور الثابت بعبثية حياته وفقدان لبوْصلته، فضْلا عن شعوره بأنّ الحياة كلها تفكّك وانحلال. ولكن في نهاية القصّة يستردّ رباطة جأشه فور تذكّره تلك الرّقّة التي تتمتّع بها زوْجته الهولندية وتشكّل في نظره أثمن ما في العالم. ويتميّز هذا النصّ عن سائر نصوص المجموعة بكتابته على شكل مقطعٍ/لازمة يتكرر مرّات عدّة، يضيف إليْه السارد في كل مرّة تفاصيل جديدة حتى تكتمل القصّة في النهاية. القصّة الثالثة تصوّر حيْرة شابّ مغربي يعيش في باريس ويتبيّن له، على إثر طلبه إخراج وثيقة عقد الازدياد من السلطات المحلية في وطنه الأم، أنه ليس من مواليد الرباط، كما كان يعتقد، بلْ من مواليد قرية يجهلها ولم تعدْ موجودة اليوم. وما قد نظنّه خطأ لدى السلطات المذكورة هو في الواقع حيلة وقف خلفها جدّه الذي كان يتقدّم إلى الانتخابات البلدية في هذه القرية ويطمح من خلال تسجيل أحفاده فيها إلى كسب أصواتهم لدى بلوغهم سنّ الرشد. وكما لو أن ذلك لا يكفي، يكتشف الشابّ من طريق عمّه أنّ حتى تاريخ ولادته غير صحيح، مما يجعل منه شخصًا ليس غير مولود في مكانٍ محدَّد، بل شخصاً غير مولود على الإطلاق. القصة الرابعة يرويها صحافي مغربي يرسله مديره إلى مدينة خربيكة لإنجاز تحقيق حول الشخصيات المهمّة في المدينة. وعلى الرغم من غرابة الموضوع، فإنّ الصحافي يتوجذه إلى هذه المدينة، ويقابل أبرز وجهائها وأعيانها، فيتبيّن له أن مرجع عمل كل واحدٍ منهم هو حلاق المدينة، ما يدفعه إلى زيارة هذا الأخير في صالونه. ولأن الحلاق مجرّد شخص بدويّ ساذج، يستنتج الصحافي أنّ بلده قائم على فكرةٍ واهية مفادها أنّ: كل أشعة العجلة تتقاطر نحو الفراغ، وبفضل هذا الفراغ تتقدّم العربة. وبعد قصّة نتعرّف فيها على رجل هولندي وامرأة فرنسية يدفعهما شعورهما المفاجئ بالعزلة إلى إلغاء قرارهما القاضي بوضْع حدّ لعلاقتهما ، وقصّة حارس خاصّ يتمرّد على مشغّله الشاب بعد ملاحظته أن جميع أصدقاء هذا الأخير هم من عامّة الشعب مثله. يسرد العروي قصّة تعميمٍ أرسلته وزارة التربية في المغرب لجميع مُديري المدارس تحضّهم فيه على إضافة السباحة كامتحانٍ اختياريّ ضمن مسابقة الرياضة في برنامج البكالوريا، وبالتالي على اتّخاذ كل التدابير التي تسمح للتلاميذ الراغبين في اختيار هذا الامتحان بالقيام بذلك، الأمْر الذي يدفع أحدَ المديرين في مدينة الجديدة التي لا يوجد بها أيّ مسبح إلى اختراع مفهوم السباحة في الرّمل. وبينما نتعرّف في القصّة الثامنة تلميذاً مغربياً سابقاً يعطي موعداً لأستاذة مادّة الفلسفة في القسم الذي زرعت فيه الشك الميتافيزيقي داخله، ويطلب منها إعادته بريئاً وخالي البال كما كان قبل دروسها، تغوص بنا القصّة الأخيرة داخل حلم رجلٍ مغربي يعنّف فيه زوجته وابنه، قبل أن يستيقظ في الصباح ويتحضّر للمشاركة في تظاهرة من أجل... الحرّية! علاوة على هذا الرّصد الكافكاوي لفئات وشرائح مجتمعية، تنطوي مجموعة العروي القصصية على عدد من الاستطرادات التي تسمح للكاتب بالتطرّق إلى مواضيع مختلفة تبدو في السطح جانبيّة. لكنّ ما لا بد من قوله هو أن العروي يعمد في بعض هذه القصص إلى تشريح وضع المهاجر الذي يواجه عملية اندماجٍ صعبة في مجتمعٍ جديد وعقبة اللغة الجديدة، وما يترتّب على ذلك من بحثٍ وضياعٍ على مستوى الهوية، فضلا عن الوصف الكاريكاتوري أحيانا لمظاهر البلاهة والغباء في كل أشكالها، سياسية كانت، أم اجتماعية. ولهذه الغاية، يبتكر شخصياتٍ مثيرة يُسقطها داخل حالات دقيقة ومضحكة في غرابتها تعكس عبثية الوضع البشري، ويولي أهمية كبيرة للشفهية التي تتجلّى من خلال الطُرَف والأحاديث التي يجمعها من هنا وهناك قبل أن يصوغها من جديد ويوظّفها داخل قصصه بفاعليّة كبيرة. أما موهبة العروي السردية والوصفية فتجعله يمسك بأنفاس قارئه حتى خاتمة كل قصّة التي غالباً ما يصعب نسيانها، مستعيناً في ذلك بمستويات لغوية عدة وبأسلوبٍ متين تطعّمه فكاهةٌ ثابتة لا تمتّ إلى المجانيّة بأيّة صلة. أحبه الفرنسيون لأنه مغربي من اللون و الهيئة إلى القلب و التلقائية. وكم هي لذيذة حكاياته و حكيه عن بداياته المسرحية، عن فترة هولوود التي دامت خمسة عشر عاما. كم هي لذيذة ذكرياته مع جان جونيه الذي أحبه لأنه مغربي مؤهل، فأعاره كتبه ليقرأها، واختاره على غيره في أداء أدوار في مسرحياته. رغم لؤم وكيد فرنسيين آخرين. المرارة غير موجودة في قلب هذا الرجل، الحياة هي الموجودة، الحظ، "الأمل"، ألم يؤد أحد أدواره أمام أندري مالرو الذي كان معجبا به هو الآخر؟ و يحكي، من ضمن ما يحكيه، انه حزن كثيرا لما نظمت مدينة "أصيلا" ملتقى دوليا حول "جان جونيه" و لم يستدع إليه. بل دعي إلى الملتقى من لم تربطهم علاقة من أي نوع مع "جونيه". هذه غصة أخرى بقيت في قلبه و دفنت معه. غيابه عن المغرب أنساه بعض الحقائق الأخلاقية لدى بعض مثقفي المغرب. منهم من ينظم ندوة حول موضوع أو اسم علم و يستدعي إليه الجميع إلا أهل الاختصاص. تلك تدخل في مجال المكيدة، أو الإصرار على الإفساد و التلويث، أو تأخير ما يتقدم نحو الأمام. مازال حميدو بنمسعود يذكر ذلك بحزن: "نظمت ندوة عن صديقي جان جونيه في أصيلة و لم أستدع إليه، بقا فيا الحال بزاف"، قالها على أثير الإذاعة الوطنية. وبدأ في استرسال الذكريات مع هذا الكاتب الكبير. و عادة صداقة الفنانين بالكتاب و الفلاسفة تقليد فرنسي شائع. فالكاتب يجالس الفيلسوف، والفنان يجالس الكاتب، والمخرج يوسع علاقاته مع الروائيين، والرسامون مخلصون لصداقته بالشعراء. لننظر إلى صور جمعت الفيلسوف جان بول سارت مع الروائي و المسرحي جان جونيه، ما الذي يجمع أكاديمي ببوهيمي؟ العبقرية طبعا. أو إلى صور غيوم أبولينير وهو مخفور بحشد من الرسامين. لنقرأ ما كتبه أندري بروتون عن طلبه لموعد لقاء مع شيخ "فيينا" الطبيب سيغموند فرويد. في ثقافتنا ثقافة الخصام هي السائدة بين أبناء الكلمة. الرسام يجتنب الكاتب، السينمائي يتجاهل الروائي و العكس، الفيلسوف لا يقرأ الشاعر، أو لا يقرأ الأدب عموما. هذا ما ينتج ضيق الأفق الذي تعيش داخله ثقافتنا اليوم. وعندما يشتكي حميدو بنمسعود اليوم من عدم الاعتراف به في المغرب مقابل ذلك الاحتضان الكبير الذي لقيه في فرنسا نكون ملزمين بمعرفة سبب هذه الأمراض التي تنخر ثقافتنا التي هي اليوم ظلامية أكثر من أي وقت مضى. تصور يعترف بك مالو وجوني و سارت و لابلانش ولا تجد من يسأل عنك من مثقفي بلدك؟ هذا سؤال مات حميدو بنمسعود وهو يطرحه، وسيبقى يطرحه من وراء قبره؟