سعت الولايات المتّحدة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط القطب السوفيتي إلى بلورة نظام أحادي القطب، تجذّرت معه الرأسمالية باعتبارها القدرة الوحيدة في النظام الدولي، وتفكّكت الإمبراطوريات السابقة بعد أن سادت موجة التحرّر من الاستعمار مختلف دول العالم. مر العالم بحالة القطب الواحد منذ 2006 إلى 2011. خلال تلك الفترة، يقول عماد فوزي شُعيبي، في دراسته التي حملت عنوان، »الصراع على بلورة نظام عالمي وتأثيراته على سوريا«. إن »أميركا تمنّعت عن تمويل قطاعات وإدارات في الأممالمتحدة وحرمت الدول الأربع دائمة العضوية من حق النقض (الفيتو). ثم جاءت الحرب في أفغانستان وبعدها العراق لتفرض قاعدة ازدراء ألمانيا فمعاقبة فرنسا وإدارة الظهر لروسيا عام 2003 فور سقوط بغداد الأمر الذي حدا بباريس إلى تغيير موقفها معلنة تسليم مسؤولياتها في حلف شمال الأطلسي إلى قائد المنطقة الوسطى الأميركي، بمعنى التخلي عن المسؤوليات، وبالتالي السياسات، لصالح المشروع الأميركي المنفرد في المنطقة لتشكيل نظام عالمي بقطب واحد تدور حوله القوى العظمى، ولو إلى حين«. وتضيف الدراسة: »بدا واضحا أن بريطانيا التي فضلت أن تشتغل (مستشارا) للولايات المتحدة كانت تعلم أن الحراك العسكري السياسي الإستراتيجي في ساحة عمليات الانتقال، من نظام عالمي إلى نظام عالمي آخر، يتم في ساحات هي الإمبراطورية البريطانية السابقة الممتدة من أفغانستان فالعراق مرورا بإيران إلى السودان، وهذا يحتاج إلى (مستشار) يعرف طبيعة المنطقة وهو ما قامت به لندن بامتياز في العراق وخاصة في جنوبه. ولهذا، فإن تسليم باريس بالدور الأميركي كان إكمالا لحراك الأميركيين في ساحة العمليات التي كان ينقصها شرق المتوسط المحسوب في الناتو على فرنسا. الاندفاعة الأمريكية منذ سنة 2006 ومع النّصر العسكري الروسي في جورجيا وصعود الصين كقوة اقتصادية مزاحمة، وتورّط أميركا في العراق وأفغانستان، بدا واضحا أن الاندفاعة الأميركية بدأت تصطدم بحواجز، خاصة مع تصاعد المواقف الأميركية المنتقدة للسياسة الخارجية الأميركية وتدخّلها العسكري في السنوات الأخيرة في عديد الدول. هذه التطوّرات أدّت بالتدريج إلى تبلوُر شِبه إجماع على أن القطبية الأحادية الأميركية شارفت على نهايتها، لكن لا يزال شكل النظام العالمي البديل غير محّدد إلى الآن، ولئن كان الزخم الإقليمي للصراع الدائر في سوريا اليوم طرح عدّة سيناريوهات لهذا النظام البديل، فهو لن يكون في كل الحالات نظاما أحادي القطبية. اللاقطبية لا يمكن أن تستمر، حسب عماد فوزي شُعيبي. ويفسّر ذلك قائلا إن »هناك اتفاقا دوليا تبلور نهاية عام 2010 على اقتسام دولي للنفوذ على شكل نظام قد يكون بمحور (وليس بقطب) يضم عدة أقطاب أبرزها الولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا وألمانيا. وهو المحور الذي بدأنا نراه منذ اندلاع ثورات »الربيع العربي«. في هذا المحور تظهر أوروبا في مقدمة تنفيذه العملياتي (باعتبار كل تشكيل عالمي يحتاج إلى فعل عسكري يسبقه) وتتراجع الولاياتالمتحدة إلى الخلف درجة واحدة بحيث يكون الفعل المباشر أوروبي (فرنسي ? بريطاني ? ألماني) وتكون القسمة موزعة بامتياز مع الطرف الأميركي الذي تعذرت صورته النمطية وأساليبه غير الخبيرة بالمنطقة عن استحداث إنجاز فيها، يعيد توزيع الثروة ويفسح المجال أمام بلورة نظام عالمي جديد. وتأتي سوريا في صلب الاستراتيجية المكّونة لهذا النظام العالمي، الذي يرى مراقبون أنه بصدد التشكّل وأن مؤتمر »جنيف 2« المزمع انعقاده بحجّة حل الأزمة السورية ليس سوى نسخة ثانية لمؤتمر »يالطا« الذي انعقد في مدينة يالطا السوفيتية الواقعة سنة 1945، بين الاتحاد السوفيتي، بزعامة ستالين، وبين بريطانيا، بزعامة تشرتشل، والولاياتالمتحدة بزعامة روزفلت. وناقش المجتمعون كيفية تقسيم ألمانيا ومحاكمة أعضاء الحزب النازي وتقديمهم كمجرمي حرب، بالإضافة إلى تقسيم ألمانيا إلى أربع. كما رغبت بريطانيا والولاياتالمتحدة -أي بزيادة فرنسا- أم إلى ثلاث كما رغب السوفييت وأيضا تقسم برلين بنفس الطريقة التي قسمت بها ألمانيا. ويبني مؤيّدو هذا الرأي موقفهم على التغييرات التي طرأت على الموقف الروسي في الآونة الأخيرة، وعلى المفاوضات بين موسكووواشنطن المستمرة منذ ما قبل »جنيف 1«، وعلى المبادرة الروسية الأخيرة التي لقيت استحسان الطرف الأميركي والطرف السوري. هذه المفاوضات تتجاوز الحل الآني للأزمة الدائرة في سوريا منذ عامين لتركّز بالأساس حول قضايا أبعد من مجرد الاتفاق على المرحلة الانتقالية التي يجري الحديث عنها لحل الأزمة السورية وصلاحيات الحكومة المؤقّتة. فما يعني الغريمين السابقين مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة. يعتبر شُعيبي أن دمشق بدأت تدخل الجميع في لعبة عمق الهاوية. وهي لعبة شديدة الخطر على الجميع. »إنها لعبة خطرة ولا ريب، لكنها لعبة »الوجود...والعدم« بالنسبة ليس فقط إلى سوريا، إنما أيضا إلى الإقليم ... والعالم«، وفق عماد فوزي شُعيبي. على صعيد آخر، يتوقع أن يبادر الرئيس السوري بشار الأسد خلال الفترة المقبلة إلى الإعلان عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية المقررة لسنة 2014، وذلك كخطوة أولى من حزمة التنازلات التي ينتظر أن يقدمها لمنع الضربات العسكرية الأمريكية. وقال المصدر الدبلوماسي الغربي إن واشنطن اشترطت على الوسطاء الروس أن يعلن الأسد تخليه عن السلطة وعدم تعطيل مسار جنيف2، بالإضافة إلى وضع الأسلحة الكيميائية تحت الرقابة الدولية، وذلك مقابل وقف الضربات العسكرية الانتقامية لمجزرة الغوطة بريف دمشق. وكشف المصدر أن موسكو تعهدت بالضغط على الأسد ليعلن خلال أيام عن قبوله بالشروط الأميركية. وهو أمر يجري التحضير له منذ مدة من قبل حلفاء الأسد في محاولة لإغراء واشنطن بتجنب الخيار العسكري، وفق ما أشار إلى ذلك مراقبون متخصصون بالملف السوري. وفي سياق متصل، كشفت مصادر عليمة في البرلمان الإيراني أن الأسد وافق على اقتراح إيراني يقضي باجراء انتخابات رئاسية بإشراف دولي لا يشارك فيها، للخروج من الأزمة الراهنة وتجنيب بلاده نتائج هجوم عسكري أميركي، فرنسي بدعم من تركيا ودول عربية. وقالت المصادر إن المبادرة الروسية بشأن الأسلحة الكيميائية وضعت بالتنسيق مع إيران لتجنيب سوريا الهجوم العسكري الأميركي عليها وإخراج دمشق من أزمتها، وهي ذات شقين: واحد يتعلق بالأسلحة الكيميائية وصواريخ أرض أرض السورية والثاني سياسي يمكن أن يبحث في مؤتمر جنيف 2 بمشاركة إيرانية. وأشارت المصادر إلى زيارة وفد رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني علاء الدين بروجردي ووفد رفيع المستوى من البرلمان إلى سوريا الأسبوع الماضي، وأكدت أنه بحث هذا الموضوع مع الأسد وكبار مساعديه، وأنه بحثه أيضاً في لبنان مع حسن نصرالله أمين عام حزب الله. وقال المراقبون إن طهرانوموسكو خيرتا التضحية بالأسد على الدخول في حرب يمكن أن تغير موازين القوى في المنطقة تماما خاصة ما يتعلق بمحاصرة حزب الله وقطع إمدادات الأموال والأسلحة عليه وصولا إلى تجريده من الأسلحة، وهو ما يسقط كل الحسابات الإيرانية. واعتبر المراقبون أن التدخل العسكري سيكون سيفا مسلطا على رأس الأسد وحلفائه ما يدفعهم إلى تقديم تنازلات فعلية، لكنهم لفتوا إلى أن روسيا ستظل مستفيدا رئيسيا من نجاح المبادرة لأنها تقدمها كراعية سلام حقيقي في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي ظلت حكرا على الأمريكيين وحلفائهم. وأضاف هؤلاء أن روسيا ستجد نفسها في وضع غير معتاد كصاحبة خطة يمكن أن تخفف التوترات في الشرق الأوسط رغم أن السيطرة الفعلية على أسلحة سوريا الكيميائية في خضم الحرب ستكون صعبة. وأيا كان الشكل الذي ستتخذه المبادرة فهي تعطي بوتين الفرصة لتعزيز موقفه كرجل دولة وقد تعزز سمعة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف كدبلوماسي ماكر. ويقول خبراء عسكريون إن المبادرة ستحفظ هيبة روسيا التي كانت ستجد نفسها عاجزة عن دعم حليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط فيما يضربه الأميركيون خاصة وقد سبق لوزير خارجيتها لافروف أن قال إن بلاده لن تدخل الحرب إلى جانب أحد في سوريا. ويراقب الغرب حاليا ما إذا كانت موسكو ستمضي قدما في الخطة أم إنها تكسب وقتا فقط لتعطيل العمل العسكري وحماية الأسد.