»»رماد اليقين»« هو الديوان الثالث للشاعر محمد بلمو بعد ديوانه الأول الموسوم ب «»صوت التراب»«، والثاني المشترك مع الشاعر عبد العاطي جميل بعنوان: »حماقات السلمون«. وإذا كان العنوان هو عتبة النص، أو كما يقول المغاربة، »»علامة الدار على باب الدار»«، فإن ما يجمع بين العناوين الثلاثة للدواوين الثلاثة هو كونها جميعها مركبة من مفردتين لا ثالثة لهما» »رماد اليقين»»« »صوت التراب»« »»حماقات السلمون««، لذلك، فإن الكتابة الشعرية عند محمد بلمو تظل، في إحدى أهم مكوناتها، تستند على مثل هذا التركيب، إذ سنجد الكثير من الصور والإستعارات الشعرية تنبني على مثل هاتين الكلمتين، مثلما هو مبثوث في صفحات ديوان »»رماد اليقين»«، فثمة »عواصف عنقاء، خيول زئبق، فواكه روح، حنين تفاح، نشوة عنب، نكهة سماء، حقول بهاء، حقول المرارة، سيل الخسران، سحب عمياء، غابات حزن، ربيع الاستعارات، فلين ذكريات، جبل القبور، ماء نخل.. إلخ، وهي تركيبة سحرية عند الشاعر محمد بلمو صالحة لملء كنانيش الحالات المدنية لدواوين الشاعر بما لا حصر له من الأسماءومنذ ديوانه الأول »»صوت التراب»«، ظل صوت الشاعر بلمو هو صوت التراب، وصوت صلصاله البدئي في قصبة بني عمار بزرهون، بكل ما يحفه ويحيط به من طبيعة، أحياء وأشياء، ستنسل بوعي وبغفلة من الشاعر أيضاً إلى قصائده، ليجد القارىء نفسه أمام قاموس شعري طبيعي خصب وثري، حيث الوحل والحقل، والرماد، والأزهار والشوك والحطب والريح والقطيع والفاكهة والصفصاف والرمان والتين والزيتون والجبال والغابات والسيول والفصول والشلال والسنابل والعواصف والأقحوان، والذئاب والسحب والشهب، والفراشات والأنهار والبيدر والنملة والضفدع إلى آخر ما يمكن لحواس مستنفرة أن تلتقطه وتخزنه في ذاكرة طفولية كل ما فيها نقش على الحجر الجبلي لذلك وحين يكون الشاعر كما يعلن عن نفسه في ديوانه «صديقا للحقول» فلا شيء يستطيع ان يقيد حريته في ان يتنزه في قصيده رفقة حماره الأشهب. وككل الشعراء المسكونين بهم الشعر والمهمومين بأرق وألق الحرف، فإن ثيمة الكتابة الشعرية بكل تلاوين مفرداتها، كان لابد لها وان تفجر نفسها في قصائد الشاعر محمد بلمو، وتنخرط ككيان في قاموسه الشعري، مدادا وقوافيَ وأغانيَ، وقصائد وحروفا وكلمات وقلما وحبرا وجناسا وقياسا وايقاعات وافكارا وصورا وبياضا وكراسا وتناصا و كنايات واستعارات وحكمة وسياقات ومعنى، بل ان مفردات هذه الثيمة ستطفو على عنوانين لقصيدتين في الديوان هما: »»هل انا الريح ايها المداد»« و» »لا موطئ قلم لي»« في ذات الوقت الذي نجد ضمن «تعريفات بدائية جدا» تعاريف لمفردات: الشعر والكتاب والحكمة والقلم. ومن حيث الرؤية للعالم، فإن الشاعر محمد بلمو يبقى صوت التراب ايضا حيث العواصف والسيول والاسمنت يجرفون كل شيء، وحيث تترنح الكلمات في غابة الحديد وحيث «احتل الاسمنت موطن الزهور والاعشاب» وهو «اسمنت شره الى هذا الحد، يعشق الأحزان والنيران الكثيفة ورائحة الموت والقتلى بالمئات»« لدرجة تدفع الشعر الى مساءلة مداده: ماذا سأفعل ايها المداد، بكل هذه الكلمات التائهة في بيداء إسمنت اجلف، تبحث عن ماء المعنى؟» ولأن العالم والشاعر موجودان في فوهة العاصمة، يتساءل «صوت التراب» »اين سترتاح السنابل من الهبوب المسعور؟ «ؤماذا اصابك يا سماءنا بعاصفة تفاجئنا في كل مرة. برياح هوجاء شرقية، ببلدوزر جديدة كل يوم، بمنشار اجلف؟ و «»لم لا تهجرني الا لتعيد لي عاصفة اخرى؟» يتساءل الشاعر وهو يعلم انه «قد تطوح بنا عواصف صديقة» أيضا. إننا أمام كل ما ينجرف، ويجتث ويقتلع يكتب الشاعر: »»وأن ماء عنيفا لن يجرف مدنا أخرى وأن بردا قارسا لن يجرك عنوة لتقبع في جرحك الجبلي«« «فتتسكع السيول فجأة في الحقول.. تجرف رصيف المقهى»« «»الأبواب أيضا اقتلعوها رحلوا بغتة وتركوك موحشا«« وما بين الوحشة والغياب يفضل الشاعر الإقامة في أماكن المعنى، وهي أمكنة وجد لها الشاعر صيغة ما انفكت تتكرر، يقيم في زحمة الكلام في ربيع الاستعارات، في كتاب الحزن، في الحقول الرطبة، في جنان أوهامك، في حديقة الوفاء، في رحاب التين، في طرقاتي الهادئة، في غابة الحديد، في غرفة الانتظار، في صفوف الضرورة، في فلين الذكريات، في الحقول الرطبة إلى غير ذلك من أمثلة على مستوى الشكل، يتضمن ديوان »رماد اليقين« ثلاثة أشكال للقصيدة: القصيدة الطويلة، وهي التي اعتقد أن الصديق الشاعر محمد بلمو يبرع فيها أكثر، وتلمع فيها صوره الشعرية، وتتراقص فيها الكلمات على ايقاعات التكرار، والقصيدة المقطعية، ثم الشذرات كما هي متجلية في »تعريفات بدائية جدا«« حين أهداني الصديق بلمو ديوانه كتب لي في نهاية إهدائه »»لعله يترك أثرا جميلا في قلبك الكبير«« لذلك حين أنهي الآن هذه الكلمة في حق «»رماد اليقين»« أقول للصديق الشاعر محمد بلمو إن ديوانك بلا أدنى ريب أو شك قد ترك في نفسي أثره الكبير، ولابد أن يفعل ذلك بكل قارئ متذوق للشعر، وكل يوم وأنت على هدى الشعر.