{ أستاذ شعيب حليفي، في البداية نطرح معك قضية نظرية وتأريخية تتعلق بالنص الرّحلي، كيف ظهر هذا الجنس الأدبي؟ من هم رواده في الحضارة الإنسانية؟ سؤالك ينطلق من رؤية حديثة تتجاوز ما يقع فيه الكثير من القراء وبعض الدارسين في حصر الرحلة داخل جنس الأدب فقط ، وبالتالي وسمها ب»أدب الرحلة « . إن الرحلة ? كما تقول في سؤالك - نص تلتقي فيه أشكال تعبيرية كثيرة تتخذ من الأدب والتاريخ قناتين كبيرتين ومَِرنتين لتطويع التاريخي ، باعتباره حقيقة نسبية من وجهة نظر المُسافر ؛ وتأكيد الخيالي ? الأدبي في القول الرحلي . إن ظهور جنس الرحلة عرف ، كأي جنس تعبيري ، مرحلتين متكاملتين : الأولى في ما هو شفوي انتقل من الخاص إلى الحكي الشفاهيّ العام ، لأن السفر والارتحال كان فعلا لصيقا بالإنسان ومادة للحكي ، كان هذا الارتحال يكون دائما مقرونا بأحداث ومغامرات وهو ما ستعكسه مرحلة التدوين الإنساني في أهم النصوص ، أذكر منها على سبيل المثال ملحمة جلجامش وهي تروي رحلة هذا البطل بحثا عن نبتة الحياة والخلود وما لاقاه من مصاعب ومغامرات . نفس الشيء في الأوديسا حيث عوليس في رحلة الغياب الأسطورية . كما أن ثقافتنا العربية لا تختلف عن باقي الثقافات الإنسانية ، في ما وصلنا من ملاحم الشعوب أو حكاياتها الشعبية والأسطورية، سواء في الشعر الجاهلي المليء بأسفار الشعراء أو في النثر الشذري المتوارث .. وكل ذلك كان يعكس حقائق تاريخية عن هجرات ورحلات أفراد أو قبائل كاملة من مكان لآخر نتيجة البحث عن الحياة أو فرارا من حروب قاتلة ، وأشير هنا إلى رحلة فريدة لم نجد لها مثيلا ، وهي رحلة بنو هلال التي استمرت أزيد من قرنين ، من الجزيرة العربية واليمن إلى مصر ثم تونس ، وبعد ذلك إلى المغرب والأندلس ، فضلا عن ارتحال فروع أخرى من بني هلال إلى العراق وسوريا . والشاهد في هذه الرحلة هو ما تركته من نصوص عدة تروي تحويل الحدث التاريخي إلى «قصص تاريخي « . أما المرحلة الثانية وهي حينما أصبحت الرحلة جنسا قائما يكتبها المؤرخون والأدباء والدبلوماسيون والعلماء وغيرهم ... وقد تأسست من الرصيد الشفاهي والمكتوب الذي خلفه هيرودوت وسترابون وحانون القرطاجني، وعربيا من الرحلات الدينية لعدد من الأنبياء ثم في ثقافتنا الشعرية والنثرية ، وخصوصا المدونات التاريخية والجغرافية الوصفية .ولعلنا نؤرخ برحلة ابن فضلان ?في القرن التاسع الميلادي ? كأول نص رحلي مكتمل فنيا ، سبقته بقليل نصوص لم نعثر عليها لكل من يحي الغزال وابن موسى المنجم والتاجر سليمان .. وبعد القرن التاسع ستعرف ثقافتنا أعمالا تأسيسية كبرى مع أندلسيين ومغاربة : أبو بكر المُعافري وابن جبير وابن رُشيد السبتي والعبدري والتجيبي وابن بطوطة ...وليس غريبا أن يكون الرحالة العرب هم الأوائل في إبداع هذا الجنس قبل ظهور كبار الرحالين الأوربيين ابتداءً من القرن الخامس عشر مع عشر الاكتشافات . وقد قدم لنا ادوار سعيد منطلقات جديدة لتناول الرحلات الأوربية من منظور نقدي منفتح . { نصوص ارتياد الآفاق، عرفناها في ثقافتنا العربية، هل تمت دراسة هذه النصوص الرحلية في الثقافة العربية بما يكفي؟ هل تم الاهتمام بها كنص ثقافي و معرفي ساهم في الاكتشاف؟ تعبير ارتياد الآفاق صائب لتوصيف الرحلة عموما ، سواء كانت دينية زيارية أو سفارية أو سياحية ثقافية . وقد كان هذا الجنس مهمشا ، مثله مثل الزجل ، يعده عدد من المؤرخين وعاء للخرافات .. ولم يتم الانتباه إليه وإلى أهمية ما يحتويه من تمثلات في ثقافتنا إلا في العقود الأربعة الأخيرة ، خصوصا مع جهود محمد الفاسي وعدد من الباحثين المغاربة والعرب؛ ثم جاءت المرحلة التي مازالت مستمرة مع باحثين من مختلف الأقطار ومن حقول معرفية متعددة وبلغات مختلفة ، غير أن ما تم اكتشافه وتحقيقه يعتبر قليلا جدا . أعتقد أن هذه المرحلة أفرزت ، حتى الآن، نخبة من الدارسين والمحققين في عالمنا العربي ... في ظل غياب تحقيق كم هائل من الرحلات المخطوطة ، والتي لو حُققت ستكون بلا شك إضافة نوعية لثقافتنا . كل رحلة هي إضافة إلى الثقافة لأنها نص ثقافي ومعرفي ساهم ويساهم في معرفة الأنا والآخر ، وفي اكتشاف جغرافيات جديدة ذهنيات مغايرة وتمثلات ثقافية . لذلك علينا جميعا بذل المزيد من الجهود في الاهتمام بهذه النصوص الرحلية التي أنتجناها ، أو تلك التي أنتجها الآخر حولنا وحول نفسه . { وما هي خصوصيته في الثقافة الغربية؟ الاهتمام بالرحلة في الثقافة الغربية متزايد، وقد وجدنا أن الأوربيين خصصوا منذ فترة سابقة عددا من المجلات والمؤلفات المهتمة بالرحلة. ولعل خصوصيته في الثقافة الغربية تختلف بعض الشيء ، فالرحلات الاستكشافية أولا ثم الرحلات التي توغل أصحابها في إفريقيا والعالم العربي ثانيا تختلف عن تلك الرحلات التي كتبها أدباء أوربيون بحسهم الأدبي والفني ، مما جعل المدونة الرحلية في الثقافة الغربية ذات خصوصيات تختلف عن مكونات وخصوصيات الرحلات العربية ، السفارية والحجازية . -لقد جاء الكتاب و الرحالة و الأنتربولوجيون إلى بلداننا، ما الغاية من قدومهم؟ لا بد من التمييز بين شيئين في ما يُنشر من كتابات هؤلاء الذين جاؤوا منذ مطلع القرن السادس عشر، في ظروف مختلفة وملتبسة . أولائك الذين دونوا تقارير ظلت محجوبة عنا ، وهي تقارير ذات طبيعة سياسية مباشرة . وأولائك الذين كتبوا ونشروا نصوصهم مُعبرين عن وجهات نظرهم ، والتي غالبا ما تكون مُحملة بأحكام سابقة وثقافة أنتجتها رؤى قبلية . ولا يخلو نص ،من تلك النصوص، من ذلك المشترك الغربي حول العرب ،كأنما هي نصوص تخفي صراعا هوياتيا في صور ثقافية مختلفة ، الظاهر فيها يخفي الباطن .ألم يمنح بابا الفاتيكان في بدايات القرن السادس عشر اسمه ، لأول مرة ، لعربي ? مغربي هو الحسن الوزان ، بعدما أحس بأنه يمتلك معرفة عن افريقيا ليست لهم ...وحينما كتب « وصف افريقيا « سيغير الكثير من المعارف لدى الأوربيين ، في التاريخ والثقافة والفن . أشير أيضا أن الكتابات حول المغرب ابتدأت مع أسرى أوربا في حروبهم مع المولى إسماعيل ، وقد دونوا تجربتهم في الأسر بالمغرب ، بالإضافة إلى الرحلات التي أفرزها الصراع التجاري والبحري مع الغرب ..وستعرف ابتداءً من القرن 19 تحولا جديدا مرتبطا بأهداف استعمارية كبرى ، سيتجند لها جنود محترفون وعلماء ورجال دين وسياسة وأطباء وأشباه أدباء . { ما هي أهم النصوص البارزة في الكتابة الرحلية الغربية؟ هناك مدونة كاملة من النصوص المتباينة ، ولكنني أعتقد أن النص الذي كتبه الإسباني ضومنكو باديا ( المتخفي تحت اسم علي باي العباسي ) وهو من ثلاثة أجزاء ، يتضمن جزءا عن المغرب خلال سنوات 1803- 1805 في عهد المولى سليمان ، هو أهم نص يمكن أن نمثل به ، لاعتبار لغته الأدبية الراقية ، ولأن صاحبه جاء جاسوسا في قناع أمير عربي ولكونه كان ذا ثقافة متنوعة وعالية وله طموح ثقافي شخصي أكثر من تنفيذ مخططات الجهات التي تعامل معها ( إسبانيا في البداية ، ثم نابليون في المرحلة الثانية ) كما أن مشروعه عبّر عنه في رحلته أولا، وفي مسرحية ممتعة ، ثانيا ، كتبها عن نفسه وعن المولى سليمان ( نشرنا ترجمتها العربية ضمن منشورات مختبر السرديات )، ثم ثالثا في مشروع الدستور الذي اقترحه على المولى سليمان ، ولما رفضه ، نصبَ فيه نفسه امبراطورا على المملكة المغربية الشريفة (نشرنا ترجمته الكاملة ضمن المسرحية ) - هل هذه النصوص كانت، من حيث الشكل، أدبا نوعا؟ فنيا؟ أم نصا سياسيا؟ قرأتُ الكثير من الرحلات التي دونها أطباء أو علماء أو جنود قدموا إلى المغرب في فترات مختلفة إلى المغرب ، خصوصا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى غاية النصف الأول من القرن العشرين ، وقد وجدتُ أن أغلبها تقريري ، إخباري ، وصفي يهدف إلى تجنب التخييل الفني والإبداع، لأن هاجسها سياسي يخدم استراتيجية محددة ، ولابد لها من مرجعية . إنها ثقافة أوربية لابد من الحذر أثناء قراءتها ، لأنها تبلورا فكرة عنا وتدعونا إلى تبنيها . في حين تبقى نصوص الأدباء الذين زاروا المغرب والعالم العربي ذات بعد أدبي وثقافي لأنها تعكس وجهة نظرهم الثقافية البعيدة عن الأحكام المسبقة أو أية ترتيبات غير ثقافية . أعدتُ مؤخرا قراءة بيير لوتي ، كما أعدتُ قراءة رحلة جميلة للأديب الكواتيمالي انريكي كوميز كرييو إلى فاس في عشرينيات القرن الماضي ؛ وهنا أشير أن رحلات كثيرة ومهمة لأدباء من خارج أوربا ، وخصوصا من أمريكا اللاتينية زاروا المغرب وكتبوا نصوصا في غاية الطرافة ، لا تحتوي على تلك الشحنة الزائدة من الخطاب الاسطوغرافي الغربي الذي يصور المغرب بلدا متوحشا ومعاديا للمسيحية ، وفي حاجة إلى من يخلصه من آثامه وجهله . { هل الإيديولوجيا الاستعمارية كانت متحكمة في عقل الرحالة؟ على مستوى الرحالة المغاربة ، خصوصا بعض الرحلات السفارية إلى أوربا في القرن التاسع عشر ، كان الرحالة واضحا مع نفسه ومنطقيا في تدوين مشاهداته وانطباعاته ، فهو مفتون بالحضارة ومتبرم من حكامها الذين يصفهم بأقبح الأوصاف .أما الرحالة الأوربيين المرتبطين بمهام سياسية ? استعمارية فكانوا يكيفون كل كتاباتهم وفق الرؤية التي ستخدم المخطط العام ، النظرة الدونية والتحقير والمبالغة في وصف التخلف ، ورغبة الآخر (العربي المسلم) في الأوربي المنقذ . { ظاهرة الكتابة عن المدن: طنجة، مراكش، الدارالبيضاء، الجنوب المغربي بصفة عامة؟ الكتابة عن المدن المغربية حاضرة بأشكال متباينة في نصوص الرحالة ، وقد كانت طنجة من أكثر المدن استقطابا مع هنري فيلد الإنجليزي ومارك توين واديث وارثن وعلي باي وادموندو دي أميشيس الإيطالي . أما المدن الأخرى فقد كتبت نينا ايتن عن مدينة تيزنيت وأرثر لييرد عن القصر الكبير وعن تارودانت التي لم يدخلها كانينجهام جراهام . وفاس مع فليب تروتر ولويس كاردوثا وانريكي كييرو ..كما كتب الكثيرون عن مراكش ، ولعل أشهرهم كانيتي . ويمكن إحصاء مئات الرحلات الخاصة بالمدن المغربية والتي ما زالت حتى الآن تحاور أن ترسم ملامح ما تلتقطه العين من غرائب ومشاهدات مألوفة ولامألوفة . هناك أيضا رحلات مغربية داخلية طريفة وممتعة إلى المدن المغربية ، لم تلتفت إليها الدراسات كثيرا ، مثلما هناك رحلات عربية إلى المغرب ، خصوصا في القرن 20 ، تحمل خصوصيات ثقافية وقيم وتمثلات مرتبطة بالمرحلة التاريخية وأنساقها . رحلة الروائي هي سيرة بمعنى ما، بقدر ما هي رواية، عن الذات والمكان الغريب والنائي، رصد لدهشة العين والأذن، والأحاسيس المستثارة إزاء المدن وساكنيها، ومفردات كلامهم، وفرحكم وتعاستهم، وبساطتهم وتعقيدهم، تحكي عبر صور ومقاطع وصفية وسردية مفعمة مجازا، وعبر مفردات شفافة، أحوال الوقوع في سحر العوالم الغريبة، والاكتواء بنار الأحاسيس المرزئة التي تستثيرها، من «وحشة»، وبعد عن الأهل والمحيط الأليف، وما تستدعيه من مقايسة متداعية بين «الفوق» (أو التحت) الذي قد يمثله الفضاء الجديد المكتشف، و»التحت» (أو الفوق) التي يقبع فيه الوطن أوالفضاء الأصلي. في هذا السياق تمثل رحلة الروائي المصري «سعد القرش» الموسومة ب: «سبع سماوات» «إلى بلدان «الجزائر» و»العراق» و»الهند» و»المغرب» و»هولاندا»، وسياحته في أقاليم بلده الأصلي «مصر»، عينة من النصوص التي تتجاوز نطاق الشهادة «التعريفية» بأوطان وشعوب منتقاة، إلى «ترميز» تلك الفضاءات والانخراط في جدل مع مدارجها العاطفية، وما تنطوي عليه من أسرار وطبقات حسية وذهنية، تجعل من الإصغاء إلى وجيبها مهمة لا تتعلق بصدقية الإخبار، ودقة التعريف، وإنما تنصرف إلى التعلق بعمق التخييل، ونضج الرؤية، وبراعة التعبير الروائي. وبمفردات تجنيسية صرف، هو نص يتجاوز النسق الرحلي، إلى المبنى الروائي المفتوح، على احتمالات السخرية، والمقايسة، والدرامية، والكثافة التصويرية، والمشهدية، والحوارية، وغيرها من الخصائص السردية التي تنأى بنص «سبع سماوات» عن المثول بما هو مجرد تدوين «تلقائي» لوقائع سفر صحفي، إلى بلاد بذاتها، لأداء مهام وظيفية. ولعل سردية «سعد القرش» بما تمتلكه من مقومات الثراء اللغوي والشفافية الأسلوبية، وسعة الأفق التخييلي، إنما تمثل نوعية من النصوص السردية في الأدب العربي المعاصر، تأبى على التصنيف في خانة الرحلات الخالصة، وتتحول إلى مزيج من «السيرة» و»الرواية» و»التحليل السياسي» و»النقد الفني»، على غرار ما نجده في نصوص: «الرحلة: أيام طالبة مصرية إلى أمريكا» لرضوى عاشور، و»الرحلة الأخيرة» لهشام شرابي، و»المدينة الملونة» لحليم بركات، و»شاعر يمر» لعبد اللطيف اللعبي، و»سيرة المدن والمقاهي والرحيل» لأمجد ناصر، وغيرها من النصوص التي كتبها روائيون عرب طليعيون، للتأريخ لوقائع استثنائية، والحكي عن الذات وتحولاتها وتعاساتها الوجودية، بقدر ما تلتقط شظايا العواطف المتناثرة عبر المعابر وفضاءات التيه، حيث لا تنتظم سيرة الذات إلا في جدلها مع المدن والمرافيء التي اقتسمت لحظات الاغتراب. يروي سعد القرش في «سبع سماوات» وقائع سفره إلى أربع بلدان عربية، وبلد أوربي وآخر آسيوي، فضلا عن أسفاره في وطنه، يناهز مجموع تلك البلدان الست، أخذت السارد إليها سبع رحلات، رحلة لكل بلد، باستثناء «هولندا» الذي أخذت السارد إلى ربوعها رحلتين اثنتين. وهو الوازع العددي الذي حدا بالكاتب إلى وسم رحلاته تلك بسبع سماوات، في استدعاء صوري لرحلة الإسراء والمعراج، التي بات فيئها الرمزي ملهما لتخييلات السفر. ومنذ المقدمة يأخذنا السارد إلى «العراق» زمن الحصار في استطراد تمهيدي يرسم به حدود اللعبة الروائية في المبنى السردي، التي ستنهض على ثلاثة مرتكزات تصويرية، نختزلها في: «المقايسة الممتدة» بين الوطن (ناسه ومجتمعه) والبلاد الأخرى، و»الهجائية المضمرة» لأحوال الذات، و»السفر السينمائي». 1 - المقايسة الممتدة الظاهر أن موازنة حال «الفوق» الذي تمثله مراتع الأصل بأوهاد «التحت» التي ترزح فيه المرافئ الجديدة هو ولع الروائيين الرحالة، منذ سرديات «كونراد» و»فلوبير» و»جورج أورويل» و»هميغواي»... فالسارد لا يرى الفضاء الجديد إلى بعين مثقلة بظلال الذاكرة، عين تستوطنها مدارج اليفاعة ومحيط الأنس، ليس غريبا، إذن، أن تحفل رحلة «سبع سماوات» بصور المقارنات الدقيقة بين حياة الناس «هنا» و»هناك»، وأن تمتلئ بالوقفات التأملية في أحوال الأفراد والجماعات، وسجاياهم، وأسباب رفاههم أو شقاوتهم، في كل بلد من بلدان السفر، وما آل إليه الوضع في بلده مصر، وهي وقفات تتخلل معظم مقاطع الرحلات، كلما استثارت السارد خاصية ثقافية أو سلوكية جديدة، إلا واستدعت إلى ذهنه صورة من صور الانحدار التي انتهى إليها عيش المصريين، أو صورة من صور الاعتداد بالذات والوطن. يقول السارد في مقطع من المقدمة: «في السفر أبحث عن مصر التي أحلم بها. من حق أي إنسان أن يرى بلده الأجمل. ولست مبالغا إذا قلت إن مصر هي الأبهى، دائما أقول لأصدقائي من غير المصريين إن القاهرة، بصرف النظر عن أي اسم تحمله عبر العصور، خلقها الله على مهل، في هذا المكان، ثم خلق مصر بحدودها،...ثم خلق الدنيا. أقسو على مصر لأنني أغار عليها، وقسوة المحب واجبة دائما... لا أشغل نفسي كثيرا بتأمل غرائب الأماكن، ولا تبهرني البنايات الفخمة، إلا بقدر ما تحمل من الملامح النفسية للذين شيدوها...»( ص 15-16). لا شك أن إحدى مثيرات الرحلة البحث عن الذات، وكشف طاقاتها ووعي إمكاناتها، ففي الخروج من جغرافيا الولادة والانتماء، ينمو الولع بالمراجع والأصول، ويتحول كل لقاء مع الغير إلى مساحة للمقارنة غير الموجبة دائما، تنتهي عادة بانتصار الجذور اللسانية والعرقية والثقافية، ذاك ما نكتشفه في كل الرحلات الكبرى، بدءا بمدونة رحلة «ماركو بولو»، وانتهاء بسرديات سفر الساسة والعسكريين والصحفيين عبر بؤر الصراع في عالم اليوم، وهو ما يتجلى بصيغة أقل حدة، وأكثر سعيا إلى الحوارية في «سبع سماوات»، فالسارد المأخوذ بعاطفته الوطنية التي تلامس الشوفينية أحيانا، لا يرى غير «مصر» فيما يحل به من بلاد، وهي الرؤية التي تنعكس في بنية التخييل عبر المراوحة السردية بين «الهنا» و»الهناك»، وعبر صيغ المقايسات المتباينة المداخل والأبعاد الجمالية. هكذا تتحول المدن وتفاصيلها المعمارية، في «سبع سماوت»، إلى خرائط للروح المستكينة، وإلى جسد بلاغي لماهية سرية هي الطبيعة الإنسانية. لا جرم إذن، أن تنطق الساحات والمقاهي والشوارع ودور العبادة وعوالم القاع، من خلال شخصيات فارقة، وصور بشرية استثنائية، ولربما ذلك ما يمنح الرحلة نفسها الروائي المفعم درامية، فعبر الحوارات المبثوثة بين السارد ومخاطبيه الآخرين، العراقيين، والمغاربة، والجزائريين، والهنود، والهولنديين... والمصريين أيضا، ترتسم المسافات الحسية والفجوات الوجودية بين «الداخل» و»الخارج». ومن خلال مشاهد المونولوجات، والوفقات التأملية، والبورتريهات الساخرة لأصدقاء وأقارب وأشخاص عابرين نتغلغل في دهاليز المكان، ونستكنه أسراره الخفية، ذاك ما تصرح به الفقرة المقتبسة هنا التي تكاد تختصر صميم الرؤية التخييلية في النص. بهذه الطريقة نتعرف على عوالم بغداد عبر شخصية «الشاعر الصعلوك» الذي يترك كل شيء لأجل مرافقة ضيوف مهرجان المربد الشعري، فمن خلال تناقضاته وسقطاته والتباساته السلوكية نكتشف مآسي الأفراد والمجتمع تحت حكم الدولة التسلطية التي مثلنا النظام البعثي. كما نرسم ملامح الهند في مخيلتنا عبر الصور الشديدة الشفافية والنعومة والعمق التي تشكّل ل: «الدالاي لاما»، و»نجوم بوليود»، بل ولعمال الفنادق والمرشدين السياحيين، وسائقي الدراجات الثلاثية... ونغوص في تربة الجزائر من خلال صور كتابها وثوارها وجمهور كرتها وحماس شعبها واندفاعه الفطري إلى التخوم القصوى، مثلما نرتاد عوالم البهاء الحسي والمعنوي لهولندة، ونطالع ملامح مجتمع العقلانية وسلطة القانون والمؤسسات، من خلال شخصية المستعرب الأستاذ في جامعة لايدن ثم عبر صور أجهزة جماعية تمتد من الشرطة إلى عاملات الجنس، إلى رجال السياسة. وهي النماذج البشرية التي تغدو منفذا لمقايسات، لا تنتهي، بين البيوت والأرصفة والمقاهي ومؤسسات الدولة، والضفاف المطلة على نهري «الراين» و»النيل»، وأولا وأخيرا بين الطبائع المتناقضة والسلوكات التي لا تلتقي في شيء.