بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط -29-
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 16 - 08 - 2013

مفاجأة قوية كانت بانتظاري، ليلة 16 سبتمبر 1970، و أنا أنجز تحقيقا في مقرات المنظمات الرئيسية الفلسطينية في عمان. في مكاتب حركة فتح، التقيت أبا إياد الرجل الثاني داخل منظمة التحرير الفلسطينية، الذي سأقيم معه علاقات ثقة وطيدة. و على عكس عادته الباسمة و الحارة، كان في ذلك المساء متجهما ،حينما أمسكني من ذراعي كي يقودني إلى الفضاء الخالي المحيط بالمقر، و هو يُفهمني بالإشارة أنه بذلك يريد الابتعاد عن أجهزة التنصت التي قد تكون أجهزة المخابرات الأردنية زرعتها في مقر منظمته. و بدون مقدمات، و خافضا صوته همس لي : «ستندلع الحرب (بين الفدائيين و الجيش الأردني) خلال الساعات القادمة، و سننهزم بكل تأكيد. نحن نتجه نحو كارثة غير مسبوقة. فالإعلام قد بالغ في قدراتنا العسكرية، و في تحالفاتنا المحتملة، سترى: لن تأتي أي دولة عربية لإنقاذنا...»
و حتى حين اندلع النزاع فجر الغد، فقد ظللت متشككا حول المآل الذي تنبأ به محاوري، علما أنه أحد القادة الرئيسيين ل»مركزية» الفدائيين، القريب من ياسر عرفات، علاوة على كونه يرأس أجهزة مخابرات منظمة التحرير الفلسطينية. فقد كنت أطرح على نفسي تلك الأسئلة التقليدية التي يطرحها صحفي في مكاني على نفسه: أي مصلحة له في أن يكشف لي عن هذه «الانهزامية»، المناقضة لكافة تصريحات الزعماء الفلسطينيين؟ هل يتعلق الأمر بمحاولة تسميم، و لأية غاية؟
و ستستمر شكوكي، المبنية على ملاحظاتي الخاصة، حتى نهاية الحرب. لم أكن أجهل أنه، على الصعيد العددي و على مستوى التسليح و التدريب، كان الجيش الأردني أقوى بشكل واضح من كافة الميليشيات الفلسطينية مُجتمعة. لكني كنت أعتقد بأن الفدائيين يتوفرون على مزايا تجعلهم يتمتعون بالمناعة، خاصة بسبب تشتتهم وسط السكان - الذين كان أكثر من نصفهم ينحدرون من أصول فلسطينية- مثل «السمك وسط الماء»، و كذا بسبب تحركاتهم و تكتيكاتهم الغوارية، و هيمنتهم الظاهرية على الإدارة. و كان الملاحظون الأجانب يعتقدون في شبه إجماع بأنهم قد أنشأوا «دولة داخل الدولة». و فور هبوطي في مطار عمان، اتضح لي أنهم على حق. فالفدائيون في لباسهم الميداني هم من يستقبل الصحافيين، و يسلمونهم بطاقات الاعتماد و المناشير و مطبوعات المقاومة، كما أنهم هم من كان يقودهم نحو أفخم فنادق المدينة، فندق «جوردان» (الأردن)، مقترحين عليهم ترتيب مواعيد مع الشخصيات التي يختارونها، فلسطينية كانت أو أردنية. لقد كانوا يتولون، بكفاءة أفضل، المهام العادية لموظفي وزارة الإعلام الأردنية، و كذا مهام شرطة و جيش المملكة، فقد كان هناك فدائيون يقومون بتنظيم السير على الطرقات فيما كان آخرون يجولون في سيارات مدرعة أو سيارات «دجيب» مسلحة، تعبُر في غالب الأحيان مطلقة نفيرها الهادر، و كان فدائيون آخرون يقومون بمراقبة هويات المارة، مُنكلين في بعض الأحيان بجنود أو ضباط الجيش الأردني.
و شاعرا بالمهانة لدرجة الاحتقان، قال لي الجنرال علي أبو نوار، رئيس هيأة الأركان السابق، و مستشار الملك، أنه لم يعد يخرج من بيته كي لا يتعرض للإهانات التي تُمارسها الكوماندوسات الفلسطينية. كنت أعرف الجنرال جيدا لأني التقيته عدة مرات ، خلال منفاه في القاهرة، في بداية الستينات. كان ينحدر من عائلة بدوية، و ذا حساسية مفرطة لدرجة -كما كان يقول- استعداده لقتل أي كان تجرأ على التعريض بشرفه أو بشرف ضابط سام في خدمة صاحب الجلالة.
كانت الكوماندوسات الفلسطينية تُسيطر على العاصمة، و تحتل القواعد العسكرية المتفرقة على ربوع المملكة، و تقيم الحواجز داخل و خارج المدن. لم يكن بإمكان أي شخص دخول أو مغادرة عمان دون معرفتها. و كانت تتوفر على معسكرات للتدريب، و على ترسانات سلاح، بل - كما قيل- على محاكم و سجون خاصة بها. كانت الكوماندوسات تجبي الضرائب، لتمويل بناء مدارسها و مستشفياتها، و لتأمين النفقات الاجتماعية لمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، الذين طُردوا في أغلبهم خلال حربي 1948 و 1967 .
و بإجماعها، فإن التنظيمات الفلسطينية كانت تعتبر الأردن «هانوي»ها ، و ملاذها، مثلما كان للفيتناميين ملاذهم، و مثل ما كان لجبهة التحرير الوطني الجزائرية عُمقها الاستراتيجي في كل من المغرب و تونس، ناسية بأن هذه الحركات كانت تتمتع أيضا بمُوافقة و مُساندة البلدان المضيفة. أما الملك حسين، فقد كان يُقاسي من التواجد الغازي للفدائيين، الذين كان يعتبرهم خصوما خطيرين، بما أنهم يزعمون تمثيل الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، بمن فيهم فلسطينيي الأردن، في انتظار تشكيل دولتهم المستقلة.
و بالنسبة لهؤلاء، فإن الأردن كملاذ كان يقدم مزايا متعددة: كان يوفر أطول حدود مع إسرائيل، مما يسمح لهم بالتسلل للقيام بعمليات. كما كان يُحاذي الضفة الغربية المحتلة، التي كانت منظمة التحرير تطمح أن تنسج فيها شبكة للمقاومة، و هو الطموح الذي لم يتحقق أبدا.. علاوة على هذا فإن معظم الأحزاب الأردنية كانت تُساند معركة الفدائيين، مُضعفة بذلك نظام الملك حسين بشكل كبير. و في كافة الأحوال، فلم تكن الكوماندوسات الفلسطينية تتوفر على أي بديل سوى الأردن، إذ أن باقي الدول المحادية لإسرائيل - مصر،سوريا و لبنان- كانت تمنعها بقوة السلاح من استعمال حدودها للتحرش بالدولة اليهودية.
و هكذا غزا الفدائيون المملكة الهاشمية، متسللين في مجموعات صغيرة من خلال الحدود السورية. لم يجرؤ الملك حسين خوض امتحان قوة ضدهم، بسبب الشعبية الهائلة للمقاومة الفلسطينية، القوة الوحيدة القادرة على غسل العار عن العالم العربي بعد هزيمة 1967 . كما لم يكن بإمكانه مواجهة ياسر عرفات، الذي أصبح إيقونة المقاومة الفلسطينية في أعين العالمين العربي و الإسلامي. و مع ذلك، فقد كان لا شيء يجمع الملك مع هؤلاء «الثوريين الفوضويين» الذين يضمون كيف ما اتفق قوميين - حقا لكن بأعداد محدودة- إلى ماويين و تروتسكيين و إسلاميين مستقلين (أما الشيوعيون فسينضمون لاحقا)، يُريدون سلبه تمثيلية الشعب الفلسطيني. إضافة إلى كون العاهل لا يشاطرهم لا أهدافهم و لا أساليب عملهم، و خاصة منها الكفاح المسلح. فهو الذي لم يكُف عن الحفاظ على علاقات سرية جدا مع القادة الإسرائيليين، لم يسع لشيء سوى التفاوض مع الدولة اليهودية حول السلام و حول استرداد الضفة الغربية. و بذلك فقد ظل وفيا إلى حد ما لجده، الملك عبد الله، الذي اغتيل سنة 1951 بالضبط بسبب «تواطؤاته مع العدو الصهيوني».
أما الفدائيون من جانبهم، فلم ينسوا «خيانة» الأسرة الهاشمية، و كانوا يُذكرون في كل مناسبة بأن شهيدهم الأول قد سقط برصاصة أردنية خلال محاولة تسلل إلى إسرائيل، في فاتح يناير 1965، في البدايات الأولى للكفاح المسلح. و قد كان شهر العسل قصيرا بين الدولة الأردنية و منظمة التحرير الفلسطينية. فبعد العناقات التي تلت الحرب الإسرائيلية-العربية لسنة 1967 ، و انطلاقا من النصف الثاني لسنة 1968 ، بدأت سلسلة لامنتهية من السجالات و النزاعات السياسية و الأحداث الدموية. و من أجل حماية بلاده من العمليات الانتقامية الإسرائيلية المدمرة، حاول الملك، بدون جدوى، منع الكوماندوسات من اجتياز الحدود للقيام بعمليات داخل إسرائيل و في الأراضي المحتلة. فيما كان يتوسل لسلطات الدولة اليهودية كي لا ترد على استفزازات المقاتلين الفلسطينيين، في انتظار أن يضع لهم هو نفسه حدا.
و في ختام كل واحد من تحقيقاتي بالأردن، بين سنتي 1969 و 1970 ، كنت أخلص إلى أنه لا محيد عن اندلاع مواجهة مسلحة ، طالما أن الفدائيين يبدون و كأنهم يُهددون العرش الأردني نفسه. و كنتُ أُلاحظ في كل مرة أن الإدارات و المؤسسات الرسمية و المدارس و الخدمات الصحية تزداد غرقا في شللها. و كان أغرب مشهد سجلته في مقالاتي هو مشهد السفير الأمريكي «دين براون» الذي اضطر من أجل تقديم أوراق اعتماده أن يتوجه للقصر الملكي، على متن سيارة مدرعة مخفورة بفرقة مسلحة حتى الأسنان.
و وصلت الأزمة قمة جديدة في يونيه 1970، أي ثلاثة شهور قبل المواجهة المسلحة. حين هاجم فدائيون العمارات الكبيرة لأجهزة المخابرات و احتلوها موقتا. فيما تغطت جدران العاصمة بلافتات تدعو إلى قلب الملكية. و على إحدى هذه اللافتات كُتب : «كل السلطة للمقاومة»، مشيرة إلى شعار لينين الذي دعا فيه السوفييت للثورة. فيما كانت لافتة أخرى تقول « طريق القدس تمُر من عمان». و كان هناك رجال ميليشيا، حاملين الرشاشات، يوزعون المناشير التي تدعو جنود وضباط الجيش الأردني «إلى الانضمام لصفوف البروليتاريا و الثورة». و قد كانت هذه الشعارات مرفوعة من طرف تنظيمين راديكاليين داخل منظمة التحرير الفلسطينية و هما «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» للدكتور جورج حبش، و» الجبهة الدمقراطية لتحرير فلسطين»، بقيادة زعيم كاريزمي، هو نايف حواتمه.
كان الرجلان، زعيما المنظمتين المتنافستين، و هما مسيحيان يؤمنان بالماركسية-اللينينية، عدوين ودودين لبعضهما رغم تقاربهما الأيديولوجي. و خلال واحد من حواراتنا، برر نايف حواتمه سياسته كالتالي : «إن القضاء على الأنظمة الرجعية العربية، بدءا من نظام الملك حسين، أمر ضروري لفتح الطريق أمام تحرير فلسطين». و قبل يومين على اندلاع الاشتباكات، صاح أمام جمع من الصحفيين : «كفى، لقد مررنا للهجوم ، فساعة كيرنسكي (الوزير الأول الروسي الذي أطاح به البولشفيك سنة 1917 ) قد دقت». مما دفع أبو إياد إلى التعليق بمرارة بعد انتهاء الاشتباكات: «لقد أخطأ حواتمه ببضع سنوات. فنحن لسنا في 1917، لكننا في 1905، حين قام القيصر بمجزرة ضد الشعب بدون عقاب».
زعيم الجبهة الدمقراطية ينحدر من أسرة بدوية ذات أصول أردنية، تنتمي للكنيسة اليونانية الأورثودوكسية. تمكن من الوصول إلى قمة منظمة فلسطينية ذات أغلبية مسلمة، أسسها بعد الانشقاق عن منظمة الدكتور حبش سنة 1969. كان يشجُب هذا الأخير على غرار شجبه لياسر عرفات و يعتبرهما بورجوازيين قوميين. و لم تنقص شعبويته و لا التباسه و لا تناقضاته، من شعبيته. طويل القامة، مع وجه بشارب و حاجبين كثيفين، كان يتحدث أمام الصحفي بطريقة بيداغوجية، واضحة و عقلانية بمهارة. كان يحب التذكير بأنه ماركسي-لينيني «مستقل»، بدون شك لأن لا موسكو و لا بكين كانتا تعترفان له بصفته الشيوعية. من الصعوبة بمكان وصفه بالعقائدي. فبعد أن كان مؤيدا متحمسا ل»تحرير كل فلسطين»، أصبح أول زعيم فلسطيني يعترف، منذ سنة 1974 ، بوجود أمة إسرائيلية «قيد الولادة»، من حقها تقرير مصيرها مثلها في ذلك مثل الشعب الفلسطيني. و كان أيضا أول من اقترح - في مقابلاته مع لوموند و مع صحف تل أبيب- «حوارا دمقراطيا» مع الدولة اليهودية قصد إنشاء «دولة بأمتين». و بعد إخفاقه في إحداث أي صدى إيجابي داخل إسرائيل، انضم بنفس القناعة لمشروع الدولتين. و رغم أنه هو نفسه قد أدان الإرهاب، معتبرا إياه لا إنسانيا و غير منتج، إلا أن مناضليه نظموا في ماي 1974 عملية احتجاز تلاميذ إسرائيليين كرهائن في «معالوت»، مقترحا استبدالهم بمعتقلين فلسطينيين، بيد أن العملية انتهت في حمام من الدم. و بشكل سيء وصف حواتمه المبادرة ب «الغلطة»، مُتهما الجنرال دايان بالمسؤولية عن المجزرة بفتحه النار ضد الخاطفين الذين رفض التفاوض معهم. و بعد مدة على انتهاء الحرب، سمح له الملك حسين، بعد أن عفا عنه، بالعودة إلى وطنه الأم. و مع ذلك فقد فضل الاحتفاظ بمقر قيادته المركزي في دمشق، حيث تكفُل له السلطات السورية العون و الحماية.
أما جورج حبش فقد كان شخصية من طينة أخرى. يشهد مقر قيادته على حياة التقشف التي يعيشها، فمكتبُه لا يتعدى كونه فضاء متواضعا مؤثثا بطاولة صغيرة من الخشب الأبيض و ببعض الكراسي المتفرقة. و كان استقباله لا يقل تقشفا. فالرجل العريض المنكبين، مثل ملاكم، ذو الشارب و الحاجبين الغزيرين، و الشعر القصير المقصوص إلى جانب صلعة نامية، كان يستقبل زواره بنوع من التصلب. صوته الخفيض، و هدوء نبرته تتقاطعان بغرابة مع قسوة تصريحاته. فالبُلدان - يقول- لا تتحرر سوى بالقوة، مستشهدا بحرب فيتنام و حرب الجزائر و بالحرب الغوارية لفيديل كاسترو، و خصوصا بالحركة الماوية. كان يصرح بوضوح أنه «موال للصين»، مذكرا بأن الاتحاد السوفياتي قد ساند قيام دولة إسرائيل و أنه عمل من أجل الاعتراف ب»الكيان الصهيوني». أما الصين-كما يقول ببلاغة- فتريد زوال إسرائيل من الخريطة. و ذلك كان موقف بكين بالفعل في تلك الآونة.
كان حبش يتحدث بدون عاطفة، بيد أن الحقد كان يُقرأ في عينيه. فقد كان مسكونا - كما يقول المقربون منه- بذكرى ترحيل عائلته من فلسطين، حين تم طرد مجموع سكان اللد، في ضاحية تل أبيب، تحت تهديد البنادق بأمر من بن غوريون. جميع أقاربه، نساء، أطفالا و شيوخا أُجبروا على ترك مساكنهم و ممتلكاتهم، و الشروع في رحلتهم القاسية على الأقدام حتى لبنان، حيث تكدس الناجون في مخيمات للاجئين. كان في حوالي العشرين من العمر ، حين نجح في دروس الطب بالجامعة الأمريكية في بيروت، و هي أفضل جامعات الشرق الأوسط. و كطبيب أطفال شاب، أنشأ مستوصفا في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بعمان، حيث لُقب ب»طبيب الفقراء»، إذ كان يفحص و يقدم الدواء مجانا لجميع المعوزين. و بالموازاة مع ذلك، كان يُناضل على رأس حركة القوميين العرب، المستلهمة من الناصرية.
و لأنه أُصيب بإحباط كبير من زعيم الثورة المصرية خلال هزيمة 1967 ، فقد أسس الجبهة الشعبية و اعتنق الماركسية- اللينينية. و متحدثا عن تواجد الفدائيين بالأردن قال في حضوري: «الامبريالية و أذنابها هم أول أعدائنا. فبدون القضاء على الأنظمة العربية المستسلمة للقوى الخارجية، لن يكون بمستطاعنا تحرير فلسطين. إذا ما حاول الملك حسين عرقلة أنشطتنا، فإن نظامه هو أول من سيزول».و على مر التجارب التي سيُقاسيها، فقد جورج حبش أوهامه، و على غرار نايف حواتمه، سيعفو عنه العاهل الهاشمي و سيعود إلى عمان حيث سيموت في يناير 2008، عن عمر يناهز الثانية و الثمانين سنة.
خلال الأزمة الأردنية لسنة 1970، كان العمل المشترك بين حبش و حواتمه ضد العرش الأردني يُقلق زعماء حركة فتح، و على رأسهم ياسر عرفات و أبو إياد، اللذين دعيا في يوليوز إلى اجتماع طارئ للجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية. خلال الاجتماع حذر الرجلان ممثلي حوالي إثني عشر تنظيما ،من خطر «الشعارات الدماغوجية» و فسرا، بالحجج الدامغة، بأن الحفاظ على الملك حسين على عرشه ضروري لبقاء المقاومة الفلسطينية نفسها. و أوضحا بأن سيطرة الفدائيين على الحكم سيُفقدهم السند المالي للمملكات العربية الغنية بالنفط، و سيعزلهم على الساحة الدولية، و سيُثير عداء القوى الكبرى ضدهم. و هذا وضع من شأن إسرائيل أن تستغله أيضا لكي تهاجم النظام الجديد في عمان و تُدمر قوى المقاومة. و أكدا على أنه، في كافة الأحوال، فإن ميزان القوى يميل بشكل واضح إلى جانب القوات المدربة للملك ، الذي بإمكانه، علاوة على ذلك، اللجوء إلى المساندة العسكرية الأمريكية. و لهذا ينبغي، كخلاصة، تفادي إثارة أي نزاع مسلح بأي ثمن، وبالكف عن مهاجمة العاهل الهاشمي بشكل خاص.
في ختام الاجتماع، تبنى أعضاء اللجنة المركزية، بمن فيهم الأكثر راديكالية، بالإجماع قرارا يُلزمهم بالتخفيف من حرارتهم النضالية. و لاحظتُ بأن هذا القرار التوافقي لم يُفد في أي شيء. ففدائيو كل المنظمات، بدون استثناء، واصلوا التصرف كما في السابق، مُضاعفين الاستفزازات التي ستقود إلى الحرب.
و كان الحدث الذي شكل الضغط على الزناد، هو ما قام به مُناضلو الجبهة الشعبية للدكتور جورج حبش، في بداية سبتمبر،حين اختطفوا بشكل مُتزامن أربع طائرات مدنية أجبروها على الهبوط في مطار غير رسمي تمت تهيئته فوق التراب الأردني، سُمي ب»الأرض المحررة». و هناك قاموا بإنزال حوالي خمسمائة راكب، من جنسيات مختلفة، من الطائرات الأربع قبل أن يعمدوا إلى تفجيرها. و قد فوجئ المقيمون في فندق «جوردان» حيث كنت أقيم، ذات صباح، بمفاجأة غير سارة ، حين رأوا موكبا من حوالي خمسين رهينة، مُطوقين بفدائيين مسلحين بالرشاشات. علمنا بأنهم كلهم يهود، و بعضهم من جنسية إسرائيلية، فيما تم إطلاق سراح الباقين تدريجيا، بدءا بالنساء و الأطفال.
رد ياسر عرفات على هذه العملية جاء متأخرا و متسامحا بعض الشيء و هو ما يؤاخذ عليه.فقد انتظر مرور أسبوع كامل، كي يدين عمل القرصنة هذا، و كعقاب لها قام بتعليق عضوية الجبهة الشعبية في منظمة التحرير الفلسطينية عوض طردها منها تماما، و هو ما كان سيُمثل عقابا في مستوى العملية التي أفقدت مجموع المقاومة لمصداقيتها في أعين الرأي العام العالمي. و هدد عرفات بالاستقالة من مهامه إذا لم يتم تحرير جميع الرهائن، بمن فيهم اليهود، فورا. و اضطرت الجبهة الشعبية للرضوخ.
بيد أنه انطلاقا من تلك اللحظة ، أصبح الإعلام الأردني - مُقتفيا في ذلك أثر الإعلام الإسرائيلي- يصف كوماندوهات المقاومة الفلسطينية ب»الإرهابيين».
الحلقة المقبلة: الملك حسين
يشن حملة قمع دموية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.