وكذلك فعل العلامة المختار السوسي بدون مداراة بعد أن أعياه الحماس والدفاع... لكن العلم ومنهاجه كان أصرم من أن يحابي أستاذا أو شيخا رغم إصرار المريد وإرادته، فلا يصح في الأخير إلا الصحيح: سلوك الشيخ وصمته المعبر، وتعليق العلامة السوسي المساير لذلك السلوك، والمطابق له: يقول العلامة المختار السوسي: »»يجد القارئ في حكايات كثيرة مجموعة من ترجمة الشيخ ابن موسى ما يدل على أنه قطع فيافي كثيرة، وخاض أقواما لهم عادات غريبة، وشاهد أناسا مختلفي اللهجات والألوان، والعقول والمعيشة وعادات الحياة، لكنه يقع بين ذلك على ما لا يقبله من له مسكة من الجغرافية من ذكره لجبل قاف، والحكايات التي نسجت حوله.و(جبل قاف) هو جبل القوقاز على ما صححه شيخنا السائح الرباطي، وهو الذي يعنيه الجغرافيون من الأسلاف. لا ما يقصد في الأساطير من أنه جبل يحيط بالأرض كلها... كما هناك أيضا ذكر للثور الذي حمل الدنيا في سياحته ومن هنا نعرف أن ما حكي عنه تخلله بعض أشياء أدمجت فيه الأساطير، وننزه نحن الشيخ عن أن يصدر منه مثل ذلك. وهو المعروف عندنا بكل صدق وقصد القول، وعدم التشبع بما لم يعلم. وإن كانت مكانته مهما بلغت لا تجلب له العصمة التي لم تكن إلا للأنبياء والملائكة. أذكر أنني كنت أتلو على بعض المثقفين العارفين للجغرافية والعارفين أنه لا جبل قاف كما يتوهمه الجهال، وأنه لا ثور يحمل الدنيا كما تتوهمه من تتمشى عليهم الأساطير الاسرائيلية التي ألقت خبر هذا الثور بين المسلمين وأدمجتها في كتبهم، فكان يتقبل كل ما في سياحته من الغرائب، حتى إذا وصلنا أمثال هذا. قال: حسبك، فصرت أدافع. ولكن بأي حجة أدافع؟ وبأي عذر أعتذر؟ والمحسوس مخالف المستور...«. هكذا رأينا كيف تعامل أحد القدماء وأحد المعاصرين مع هذه الوريقات هذا التعامل الذي لا يحتاج إلى تعليق. والسؤال هو كيف وجدت أصلا هذه الوريقات مع مثيلاتها من الروايات الشفهية، وكيف انتشرت هذه الأقاويل ولا زالت متمكنة من أغلبية الناس إلى الآن على الأقل من مريديه وزائريه: إنه قانون الصمت الذي رأيناه... VI لحالة الصمت المطبق ووجود فعل حقيقي للمرحلة يقابله، لا مجال لانكاره، فاعلوه وممارسوه حاضرين وحاضرين بقوة، في غيابهم الذي طال وفي رجوعهم الصاخب والمثمر والمستقبل بالذهول هذه المرة ذهول الأهل والساكنة والمريدين لمآل ابن عرف عنه ما عرف... ليصبح مركزا ومتجها وصوبا للأخذ والتبرك.. نعم، لحالة الصمت تلك ولوجود فعل حقيقي لكنه محجوب ستستغل المفارقة وتشتغل الأخيلة في المسامرات، وتبدع أفعالا وأمكنة وفضاءات وستستعير أخيلة ثقافات أخرى كالثقافة اليونانية، لغلق ذلك الصمت وإعطاء ذلك الفعل معنى، وهكذا يحضر هوميروس بربابته لفضاء إداوسملال وسوس قاطبة عبر أسطورة »أوليس« وقصته مع الغول في مغارته في نسخات وطبعات سوسية، وتحضر كما رأى السوسي الاسرائيليات كالبهموت، وتحضر الصحاري والضباع والأسود والأفاعي فلا يخصنا سوى »حي ابن يقظان« الذي هو موجود لا يحتاج إلى دفعه إلى خشبة الأحداث.. مقابل هذا يحضر الغياب.. غياب ما ساح من أجله الشيخ... يحضر غياب حتى الفرضيات الممكنة والبحث عن قرائن ما أكثرها في حياة الشيخ وخارجها لقطع الطريق وتحقيق الممكن. وقبل أن ننتقل إلى ذلك لابد أن نشير إلى أنه: رغم المعيقات المذكورة يجب أن نشير إلى الحقائق والمعطيات التالية: 1 - أن سياحته أمر بها كما رأينا فهي تدخل في باب التوجيه الصوفي الطرقي من الشيخين الكبيرين: الشيخ التباع الذي أمره بالسير إلى الشيخ الملياني بدون أن يتخلى عنه أو يفرط فيه أو يبعده عنه كليا »»أن عدت زرتني««..والشيخ الكبير الملياني الذي لازمه، ثم أمره بالسياحة »»هل رأيا فيه وتوسما استعدادا نفسيا وبدنيا لذلك.. الله أعلم.. المراد أن الفتى المريد له من المواصفات التي حملها معه وهو حدث الشيء الكثير لاحتضان السر/الأمر وتقبله وتنفيذه والنجاح فيه.. وذلك ما كان.. 2 - أن مبلغ ما قطعه في سياحته كبير جدا حيث حدده بنفسه ورواه عنه ابنه محمد قائلا:» دخلت عليه يوما في خلوته، فوجدته متشمسا مادا رجليه ينظر إليهما، ويضحك فتوهمت أن ضحكه مني فقلت له: مم تضحك يا أبت؟ فقال: وجدتني أنظر إلى هاتين، يشير إلى رجليه وأضحك ثم قال لي: لو نهض جميع ما على الأرض من الإبل من جميع أقطار الدنيا، وحملت الزاد لفنيت مع أزوادها ولم تسلك ما سلكته هاتان، ولو اجتمع جميع طيورها، تطير حتى تفنى أرياشها وتبلى أجنحتها وتنبت أخرى تطير بها لم تصل إلى ما وصلت إليه هاتان يشير لرجليه«. 3 - إن سياحته التي رسمها وشكلها هي مدرسته وجامعته التي شكلته ورسمته، هي التي أعطت تلكم الشخصية التي صارت ما هو عليه، وبالتالي فإن شيوخه الثلاثمائة بل الثلاثمائة والستين لم يلقهم ولم يأخذ عنهم سواء مباشرة أو عن طريق العنعنة أو المصاحبة والتوجيه، لم يكونوا ولم يوجدوا إلا في وضمن هذه المدرسة / الجامعة. 4 - وختاما ومجملا، فإن تلك الصفات السامية والجليلة وما أكثرها والتي من بينها - من بينها فقط -: الشجاعة والتواضع والكرم والوطنية ماهي في الأخير إلا زبدة هذه السفرة / المدرسة الميمونة.